التوسل والتبرك بالصالحين
قال الحافظ الخطيب البغدادي [1] وهو الذي قيل فيه: إن المؤلفين في كتب الحديث دراية عيال على كتبه ما نصه: “أخبرنا القاضي أبو محمد الحسن بن الحسين بن محمد بن رامين الأسترباذي، قال: أنبأنا أحمد بن جعفر بن حمدان القطيعي قال: سمعت الحسن بن إبراهيم أبا علي الخلال يقول: ما همّني أمر فقصدت قبر موسى بن جعفر فتوسلت به إلا سهل الله تعالى لي ما أحبّ.
أخبرنا إسماعيل بن أحمد الحيري قال: أنبأنا محمد بن الحسين السلمي قال: سمعت أبا الحسن بن مقسم يقول: سمعت أبا علي الصفار يقول: سمعت إبراهيم الحربي يقول: قبر معروف الترياق المجرب.
أخبرني أبو إسحاق إبراهيم بن عمر البرمكي قال: نبأنا أبو الفضل عبيد الله بن عبد الرحمن بن محمد الزهري قال: سمعت أبي يقول: قبر معروف الكرخي مجرّب لقضاء الحوائج ويقال: إنه من قرأ عنده مائة مرة {قُلْ هُوَ اللهُ أحد} [سورة الإخلاص/1] وسأل الله تعالى ما يريد قضى الله له حاجته.
حدثنا أبو عبد الله محمد بن علي بن عبد الله الصوري قال: سمعت أبا الحسين محمد بن أحمد بن جميع يقول: سمعت أبا عبد الله بن المحاملي يقول: أعرف قبر معروف الكرخي منذ سبعين سنة، ما قصده مهموم إلا فرّج الله همه.
أخبرنا القاضي أبو عبد الله الحسين بن علي بن محمد الصيمري قال: أنبأنا عمر بن إبراهيم المقري قال: أنبأنا مكرم بن أحمد قال: نبأنا عمر بن إسحاق بن إبراهيم قال: نبأنا علي بن ميمون قال: سمعت الشافعي يقول: إني لأتبرك بأبي حنيفة وأجيء إلى قبره في كل يوم –يعني زائرًا- فإذا عرضت لي حاجة صليت ركعتين وجئت إلى قبره وسألت الله تعالى الحاجة عنده، فما تبعد عني حتى تقضى.
ومقبرة باب البردان فيها أيضًا جماعة من أهل الفضل، وعند المصلى المرسوم بصلاة العيد كان قبر يعرف بقبر النذور ويقال: إن المدفون فيه رجل من ولد علي بن أبي طالب رضي الله عنه يتبرك الناس بزيارته، ويقصده ذو الحاجة منهم لقضاء حاجته.
حدثني القاضي أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي قال: حدثني أبي قال: كنت جالسًا بحضرة عضد الدولة ونحن مخيمون بالقرب من مصلى الأعياد في الجانب الشرقي من مدينة السلام نريد الخروج معه إلى همذان في أول يوم نزل المعسكر، فوقع طرفه على البناء الذي على قبر النذور فقال لي: ما هذا البناء؟ فقلت: هذا مشهد النذور، ولم أقل قبر لعلمي بطيرته من دون هذا، واستحسن اللفظة وقال: قد علمت أنه قبر النذور، وإنما أردت شرح أمره، فقلت: هذا يقال إنه قبر عبيد الله بن محمد بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، ويقال: إنه قبر عبيد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب، وإن بعض الخلفاء أراد قتله خفيًّا، فجعلت له هناك زُبْيَةً وسُيّر عليها وهو لا يعلم، فوقع فيها وأهيل عليه التراب حيًّا، وإنما شهر بقبر النذور لأنه ما يكاد ينذر له نذر إلا صح وبلغ الناذر ما يريد ولزمه الوفاء بالنذر، وأنا أحد من نذر له مرارًا لا أحصيها كثرة نذورًا على أمور متعذرة، فبلغتها ولزمني النذر فوفيت به، فلم يتقبّل هذا القول وتكلم بما دلّ أن هذا إنما يقع منه اليسير اتفاقًا، فيتسوق العوام بأضعافه، ويسيرون الأحاديث الباطلة فيه، فأمسكت، فلما كان بعد أيام يسيرة ونحن معسكرون في موضعنا استدعاني في غدوة يوم وقال: اركب معي إلى مشهد النذور، فركبت وركب في نفر من حاشيته إلى أن جئت به إلى الموضع، فدخله وزار القبر وصلى عنده ركعتين سجد بعدهما سجدة أطال فيها المناجاة بما لم يسمعه أحد، ثم ركبنا معه إلى خيمته وأقمنا أيامًا، ثم رحل ورحلنا معه يريد همذان، فبلغناها وأقمنا فيها معه شهورًا، فلما كان بعد ذلك استدعاني وقال لي: ألست تذكر ما حدثتني به في أمر مشهد النذور ببغداد؟ فقلت: بلى، فقال: إني خاطبتك في معناه بدون ما كان في نفسي اعتمادًا لإحسان عشرتك، والذي كان في نفسي في الحقيقة أن جميع ما يقال فيه كذب، فلما كان بعد ذلك بمديدة طرقني أمر خشيت أن يقع ويتم، وأعلمت فكري في الاحتيال لزواله ولو بجميع ما في بيوت أموالي وسائر عساكري، فلم أجد لذلك فيه مذهبًا، فذكرت ما أخبرتني به في النذر لقبر النذور، فقلت: لمَ لا أجرب ذلك، فنذرت إن كفاني الله تعالى ذلك الأمر أن أحمل إلى صندوق هذا المشهد عشرة ءالاف درهم صحاحًا، فلما كان اليوم جاءتني الأخبار بكفايتي ذلك الأمر، فتقدمت إلى أبي القاسم عبد العزيز بن يوسف –يعني كاتبه- أن يكتب إلى أبي الريان وكان خليفته ببغداد يحملها إلى المشهد، ثم التفت إلى عبد العزيز وكان حاضرًا، فقال له عبد العزيز: قد كتبت بذلك ونفذ الكتاب” اهـ.
قال الحافظ أبو القاسم بن عساكر [2]: “حدثني الشيخ الصالح الأصيل أبو عبد الله محمد بن محمد بن عمر [بن] الصفار الإسفراييني أن قبر أبي عوانة بإسفراين [3] مَزارُ العالم ومتبرك الخلق” اهـ.
ومما يؤكد ما سبق ذكره أن علماء المسلمين كانوا يرون التوسل والاستغاثة بالنبي بعد موته أمرًا جائزًا لا بأس به ما يلي:
ذكر الحافظ عبد الرحمن بن الجوزي في كتاب “الوفا بأحوال المصطفى” [4] –وذكره الحافظ الضياء المقدسي- ما نصه: “عن أبي بكر المنقري قال: كنت أنا والطبراني وأبو الشيخ في حرم رسول الله وكما على حالة فأثر فينا الجوع وواصلنا ذلك اليوم –أي ما أكلنا-، فلما كان وقت العشاء حضرت قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقلت: يا رسول الله الجوع الجوع، وانصرفت. فقال لي أبو القاسم: اجلس فإما أن يكون الرزق أو الموت، قال أبو بكر: فقمت أنا وأبو الشيخ والطبراني جالس ينظر في شئ، فحضر بالباب عَلَوي [5] فدقّ ففتحنا له فإذا معه غلامان مع كل واحد زنبيل [6] فيه شئ كثير فجلسنا وأكلنا وظننّا أن الباقي يأخذه الغلام، فولى وترك عندنا الباقي، فلما فرغنا من الطعام قال العلوي: يا قوم أشكوتم إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم؟ فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فأمرني أن أحمل بشئ إليكم” اهـ.
ففي هذه القصة أن هؤلاء الأكابر رأوا الاستغاثة بالرسول أمرًا جائزًا حسنًا ثم نقلها عدد من العلماء في مؤلفاتهم منهم الحنابلة وغيرهم، فهؤلاء في نظر المسلمين موحدون بل من أجلاء الموحدين، وأما في نظر نفاة التوسل الذين اتبعوا ابن تيمية فقد أشركوا، لأن من استحسن الشرك يكفر، فما جواب هؤلاء عن أمثال هذه الحادثة التي لو تتبعت وجمعت لجاءت مجلدًا واسعًا، فليعدوا جوابًا إذا سئلوا يوم العرض.
هذا وغيره مما نقل عن حفّاظ المحدثين من التوسل بالنبي بعد وفاته يدل على أنهم كانوا لا يعبئون بإنكار ابن تيمية التوسل بالنبي، وأنه شذ عن علماء الأمة المحدثين والفقهاء ممن كانوا قبله وممن عاصروه، فأما من عاصره فمنهم المحدث الحافظ تقي الدين السبكي وغيره، وأما من قبل ابن تيمية فالحافظ عبد الغافر الفارسي والحافظ الخطيب البغدادي الذي ذكر المحدثون في كتب المصطلح التنويه به وعدّ أحد المشاهير البارزين في الحديث، ولم يسبق ابن تيمية بذلك من المحدثين أحد حتى من المجسمة أمثاله، فلا سند له فيما ارتكبه، وكذلك من جاءوا بعده من الحفاظ كالحافظ محمد مرتضى الزبيدي، فعلى قوله وقول أتباعه أتباع محمد بن عبد الوهاب يلزم أن يكون جمهور الأمة الذين هم مئات الملايين على ضلال ويكون هو والشرذمة التي اتبعته على هدى، وقد ثبت أن جمهور الأمة لا يضلون، دلّ على ذلك حديث أبي داود [7] في افتراق الأمة إلى ثلاث وسبعين فرق حيث قال: “ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة” أي الجمهور، فمما لا شك فيه أن بعض الأمة ضلوا وهؤلاء البعض لو تعددت أسامي فرقهم إلى هذا العدد الاثنتين والسبعين فهم شرذمة بالنسبة للذين هم محفوظون من الضلال من العقيدة، وهذا الذي عناه الرسول لم يعن كثرة التقصير في الأعمال والانغمار في الغفلة، وقد صحّ موقوفًا على أبي مسعود الصحابي الجليل: “إن الله لا يجمع هذه الأمة على ضلالة”، صححه الحافظ ابن حجر في الأمالي. وفي عصرنا هذا مئات الملايين من المسلمين أشاعرة وإن كان يوجد فيهم اليوم جزء قليل من الماتريدية، والأشاعرة والماتريدية فرقة واحدة باعتبار أصول العقيدة ولا خلاف بينهم يؤدي إلى التضليل والتبديع، فعلماء الأمة في كل النواحي في المشرق والمغرب أشاعرة، هذا الحاصل في مصر والشام والعراق واليمن والمغرب والجزائر وتونس وتركيا وأندونيسيا والباكستان والهند وأهل أفريقيا السوداء ودول جنوب أفريقيا، وأما المشبهة والوهابية الذين جمعوا بين التشبيه والبدعة التي نشرها ابن تيمية بدعة تكفير زوّار القبور للتبرك والتكفير الذي يصدر من بعضهم للمتوسلين والمستغيثين بالرسول وغيره من أصفياء الله فليس عددهم بالنسبة لمخالفيهم إلا كنسبة الوشل [8] إلى البحر، فيا سخافة عقول الذين يعتقدون أن جمهور علماء الأمة وأتباعهم منذ أربعة عشر قرنًا كانوا فارقوا التوحيد منذ ستمائة سنة، كما نقل ذلك الشيخ أحمد زيني دحلان مفتي مكة في أواخر الدولة العثمانية كما تقدم.
وفي هذا مع ما حصل من بلال بن الحارث من قصد قبر الرسول للتبرك والاستعانة به بيان لما كان عليه السلف والخلف من قصد قبور الأنبياء والصالحين للتبرك، وأنهم كانوا يرون ذلك عملاً حسنًا، وفي ذلك نقض زعم ابن تيمية وابن قيم الجوزية أن زيارة القبر للتبرك شرك، وفي ذلك أيضًا بيان واضح أن هذا كان عمل المسلمين بلا نكير، إنما التشويش على المتبركين جاء من ابن تيمية وأتباعه، ولو تتبعنا شواهد ذلك من كتب المحدثين وغيرهم لطال الكلام جدًا، وهذا الحافظ ابن عساكر كان شيخ المحدثين في عصره في بر الشام كله.
ومن العبر التي يعتبر بها من فتح الله قلبه ما ذكره تقي الدين الحصني ونصه [9]: “وذكر ابن عساكر في تاريخه أن أبا القاسم بن ثابت البغدادي رأى رجلاً بمدينة النبي صلى الله عليه وسلم أذّن الصبح عند قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال فيه: الصلاة خير من النوم، فجاءه خادم من خدم المسجد فلطمه حين سمع ذلك منه، فبكى واستغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله في حضرتك يفعل بي هذا الفعل، قال: فضربه الفالج في الحال –أي الخادم- وحمل إلى داره فمكث ثلاثة أيام ثم مات” اهـ.
وفي كتاب الحكايات المنثورة للحافظ الضياء المقدسي الحنبلي، أنه سمع الحافظ عبد الغني المقدسي الحنبلي يقول: إنه خرج في عضده شئ يشبه الدُّمل فأعيته مداواته، ثم مسح به قبر أحمد بن حنبل فبرئ ولم يعد إليه، وهذا الكتاب بخط الحافظ المذكور محفوظ بظاهرية دمشق.
الهوامش:
[1] تاريخ بغداد [1/122-125].
[2] وفيات الأعيان [6/394].
[3] بُليدة حصينة من نواحي نيسابور، معجم البلدان [1/177].
[4] راجع الكتاب [ص/818].
[5] أي واحد من الأشراف من ذرية سيدنا علي رضي الله عنه.
[6] الزنبيل هو وعاء يعمل من قصب يوضع فيه الخضرة –وهو السلة-.
[7] أخرجه أبو داود في سننه: كتاب السنة: باب شرح السنة.
[8] الوشل: بفتح الواو والشين الماء القليل يتحلّب من جبل أو صخرة ولا يتصل قطره، ويطلق على القليل من الدمع.
[9] دفع شبه من شبه وتمرد [ص/89].
الإشعارات