الإثنين ديسمبر 23, 2024
        • الألباني يحرّم مدحَ النبيّ مُطلقًا:

        أورد الألباني في كتابه «التوسل» حديث: «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابنَ مريمَ، فإنما أنا عبدُه فقولوا: عبدُ اللهِ ورسولُه»([1])، ثم قال([2]): «إنَّ للإطراء المنهي عنه في الحديث معنيين اثنين، أولهما: مطلق المدح، وثانيهما: المدح المجاوز للحد، وعلى هذا فيمكن أن يكون المراد من الحديث النهي عن مدحه مطلقًا».اهـ. ثم قال([3]): «إن أعظم مدح له أن نقول فيه ما قال ربنا تعالى: إنه عبدٌ لَهُ ورسولٌ».اهـ. ثم قال([4]): «ولعل الأرجح في الحديث المعنى الأول، لأمرين اثنين: أولهما: تمام الحديث، وهو قوله : «فقولوا: عبدُ اللهِ ورسولُه»، أي: اكتفوا بما وصفني به الله تعالى من اختياري عبدًا له ورسوله، وثانيهما: ما عقد بعض أئمة الحديث من الترجمة فأورده الإمام الترمذي([5]) مثلًا تحت عنوان: «باب تواضع النبيّ » فحمل الحديث على النهي عن المدح المطلق هو الذي ينسجم مع معنى التواضع ويأتلف معه».اهـ.

        الرَّدُّ:

        لم يزل العلماء في شِعْرِهم ونثرهم وخطاباتهم ومؤلفاتهم يمدحون النبيّ بعظيم قدره عند ربه ومنزلته وما خصه الله به في الدَّارين من كرامته، قال القاضي عياض في «الشفا»([6]): «لا خلاف أنه أكرم البشر، وسيد ولد ءادم، وأفضل الناس منزلة عند الله وأعلاهم درجة واقربهم زُلْفى»، ثم ساق أحاديث فيما ورد من ذكر مكانته عند ربه والاصطفاء ورفعة الذّكر والتفضيل وسيادة ولد ءادم وما خصَّه به في الدنيا من مزايا الرتب وبركة اسمه الطيّب. هذا دأب الفقهاء والمحدثين والمفسرين واللغويين وغيرهم، فدلَّ إجماعهم ذلك على جواز مدحه وأنه ليس بمنهي عنه كما زعم هذا الرجل الذي خالف من سبقه.

        وأما الحديث الذي ذكره فليس فيه دليل على ما ادّعاه، لأن شرّاح الحديث وغيرهم حملوه على وصفه بما ليس فيه، ولم يوردوه في النهي عن مدحه ، فقد قال الحافظ ابن حجر في «فتح الباري»([7]) «قوله (لا تطروني) بضم أوله، والإطراء المدح بالباطل، تقول: أطريت فلانًا مدحته فأفرطت في مدحه».اهـ. ومثله قال القسطلاني([8])، والعيني([9])، وزكريا الأنصاري([10])، والبغوي([11]) وغيرهم، كالذين ألّفوا في غريب الحديث كابن الأثير فإنه قال([12]): «لا تطروني: الإطراء مجاوزة الحد في المدح والكذب فيه».اهـ. وبذلك قال ابن الجوزي([13]) والقاضي عياض([14]).

        ويؤيد ما قلناه من جواز مدحه الحديث الذي رواه ابن ماجه في سننه([15]) والطبراني في «المعجم الصغير»([16]) عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنَّ النبيّ مرّ ببعض المدينة فإذا هو بجوارٍ يضربن بدفّهِنّ ويتغنين ويقلنَ: [الرجز]

        نحنُ جوارٍ من بني النَّجَّارِ

         

        يا حبَّذا محمدٌ من جَارِ

        فقال النبيّ : «اللهُ يعلمُ إني لأحبُّكنَّ».

        قال الحافظ البوصيري([17]): «هذا إسناد صحيح رجاله ثقات».اهـ.

        وهناك حديث ءاخر رواه أحمد([18]) وابن حبان في صحيحه([19]) عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كانت الحبشة يزفنون([20]) بين يدي رسول الله ويرقصون يقولون: محمَّدٌ عبدٌ صالح، فقال رسول الله : «ما يقولون؟»، قالوا: يقولون: محمد عبد صالح.

        ولهذا الحديث شاهد صحيح رواه النّسائي في «السنن الكبرى»([21]) من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمـٰن عن عائشة رضي الله عنها زوج النبيّ قالت: دخل الحبشة المسجد يلعبون فقال لي([22]): «يا حميراءُ([23])، أتحبّينَ أن تنظري إليهم؟» فقلت: نعم، فقام بالباب وجئته فوضعت ذقني على عاتقه فأسندت وجهي إلى خده، قالت: ومن قولهم يومئذٍ: أبا القاسم طيبًا». قال الحافظ ابن حجر([24]): «إسناده صحيح».اهـ. فهذه الأحاديث دليل على جواز مدح النبي والثناء عليه، هم كانوا فرحين مسرورين بمدح النبيّ السيّد العظيم، وقد ملئت قلوبهم حُبًّا وشوقًا له عليه الصلاة والسلام، أما هؤلاء الذين لم تدخل قلوبهم محبة النبيّ الكريم فتراهم ينهون عن مدحه مطلقًا؛ بل يحرّمون على المؤذنين الصلاة عليه بعد الأذان ولو سرًّا، كما فعل الألباني الذي جهل سُنَّة المصطفى عليه الصلاة والسلام رغم ادعائه أنه من البارزين في علم الحديث، ولله درّ الإمام الشافعي رحمه الله القائل([25]): «من سام نفسَه فوق ما يساوي ردّه الله تعالى إلى قيمته».اهـ.

        وأما ترجيح الألباني لأن يكون معنى الحديث النهي عن مدح النبيّ مطلقًا، محتجًا بأن تمام الحديث هو: «فقولوا: عبدُ اللهِ ورسولُه» فهو لم يفقه هذا الحديث، لأنه ليس من فرسان هذا الميدان، لقلة بضاعته في فهم النصوص، قال الإمام المجتهد الشافعي رحمه الله تعالى في كتابه «الرسالة»([26]): «ولم يجعل الله لأحد بعد رسول الله أن يقول إلا من جهة علم مضى قبله وجهة العلم بَعدَ الكتابِ والسُّنَّة والإجماع والآثار وما وصفتُ من القياس عليها، ولا يقيس إلا من جمع الآلة التي له القياس بها وهي العلم بأحكام كتاب الله فرضه وأدبه وناسخه ومنسوخه وعامّه وخاصّه وإرشاده».اهـ. ثم قال([27]): «ولا يكون لأحدٍ أن يقيس حتى يكون عالمًا بما مضى قبله من السنن وأقاويل السلف وإجماع الناس واختلافهم ولسان العرب» وقال رضي الله عنه ([28]): «ومن كان عالـمًا بما وصفنا بالحفظ لا بحقيقة المعرفة، فليس له أن يقول أيضًا بقياس، لأنه قد يذهب عليه عقل المعاني، وكذلك لو كان حافظًا مقصّر العقل أو مقصّرًا عن علم لسان العرب لم يكن له أن يقيس من قِبَلِ نقص عقله عن الآلة التي يجوز بها القياس».اهـ. فإذا كان هذا الذي وصفه الشافعي بالعلم والحفظ إلا أنه غير عالم بحقيقة المعاني أو مقصر العقل أو مقصرًا عن علم لسان العرب لم يَحِلَّ له أن يقيس ويتكلم في شرع الله تعالى بالتحليل والتحريم، فما بالك بالألبانيّ الذي عُدمت فيه الأوصاف التي ذكرها الشافعي رضي الله عنه، فجهل هذه العلوم، فلا يعرف الفقه ولا اللغة ولا المعاني ولا الحديث ولا التوحيد وغيرها من الفنون، فكيف يؤخذ ويُعمل برأيه ويجعل قدوة؟!

        عَوْدٌ إلى بيان معنى الحديث فقد قال الحافظ ابن حجر في «فتح الباري»([29]): «قال ابن الجوزي: … وإنما سبب النهي فيما يظهر ما وقع في حديث معاذ بن جبل لما استأذن في السجود له فامتنع ونهاه، فكأنه خشي أن يبالغ غيره بما فوق ذلك فبادر إلى النهي تأكيدًا للأمر.

        وقال ابن التين: معنى قوله: «لا تطروني» لا تمدحوني كمدح النصارى حتى غلا بعضهم في عيسى فجعله إلـٰهًا مع الله، وبعضهم ادّعى أنه هو الله، وبعضهم ابن الله، ثم أردف النهي بقوله: «أنا عبدُ اللهِ»». انتهى كلام الحافظ ابن حجر.

        وعبارة ابن الجوزي رحمه الله ذكرها في كتابه «كشف المشكل من حديث الصحيحين»([30]) وفيها مما لم يذكره الحافظ، وتمامها: «قوله: (لا تطروني) الإطراء الإفراط في المدح، والمراد به هنا المدح الباطل، والذين أطروا عيسى ادّعوا أنه ولد الله، تعالى الله عن ذلك واتخذوه إلـٰهًا، ولذلك قال: ولكن قولوا: عبدُ اللهِ ورسولُه».اهـ.

        فظهر بذلك مناسبة قوله عليه الصلاة والسلام: «فقولوا: عبدُ اللهِ ورسولُه» فأراد أن يبُيّن لهم أنه عبدٌ مخلوق لله أرسله لهداية الناس، وأن العبد لا يجوز وصفه بصفات الربوبية والألوهية، فخشية أن يقع أحدهم في المحظور بادر عليه الصلاة والسلام إلى النهي عن مدحه بالباطل، هذا معنى الحديث وليس معناه كما زعم الألباني، لا تمدحوني مطلقًا ولو كان المدح لا يخالف الشرع ولا يصل به المرء إلى الغلو، هذا معنى قوله مطلقًا.

        ثم افترى على الإمام الترمذي لتأييد رأيه الفاسد، فزعم أن الترمذي حمل الحديث على النهي المطلق، وهذه فِرية بلا دليل، وإيراد الترمذي للحديث في باب تواضع النبي لا يفيد النهي، لا تلميحًا ولا تصريحًا ولا تعريضًا لا من قريب ولا من بعيد، فأي كلام يفيد ما نسبه الألباني له؟ فالألباني تخيل أمرًا لا أساس له، ثم بنى عليه حكمًا فاسدًا، فهل كلمة التواضع تعني النهي؟ هذا شيء جديد أدخله الألباني على العربية لا تعرفه العرب في لغتها، فعنده أن التواضع في الملبس، يعني: لا يجوز أن تلبس الثياب الفاخرة، والتواضع في المأكل والمشرَب معناه عنده لا يجوز أن تأكل المآكل والمشارب اللذيذة! والتواضع مع الفقراء معناه عنده لا يجوز أن تجلس مع الأغنياء! فالحذَرَ الحذرَ من صحبة هؤلاء الوهابية أو الأخذ برأيهم الذي خالفوا به ما قاله أهلُ السُّنَّة والجماعة، فإنهم يقودونك إلى الهلاك.

        [1]() أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب أحاديث الأنبياء: باب قول الله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا} (3/1271).

        [2]() الألباني، الكتاب المسمّى التوسل أنواعه وأحكامه (ص88).

        [3]() الألباني، الكتاب المسمّى التوسل أنواعه وأحكامه (ص89).

        [4]() الألباني، الكتاب المسمّى التوسل أنواعه وأحكامه (ص89).

        [5]() الترمذي، الشمائل المحمدية (ص271).

        [6]() القاضي عياض، الشفا بتعريف حقوق المصطفى (1/165).

        [7]() ابن حجر العسقلاني، فتح الباري بشرح صحيح البخاري (6/490).

        [8]() القسطلاني، إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري (7/455).

        [9]() العيني، عمدة القاري شرح صحيح البخاري (16/37).

        [10]() زكريا الأنصاري، تحفة الباري بشرح صحيح البخاري (4/121).

        [11]() البغوي، شرح السُّنَّة (13/246).

        [12]() ابن الأثير، النهاية في غريب الحديث والأثر (3/123).

        [13]() ابن الجوزي، غريب الحديث (1/30 و2/33).

        [14]() القاضي عياض، مشارق الأنوار على صحاح الآثار (1/319).

        [15]() سنن ابن ماجه، كتاب النكاح، باب: الغناء والدف (1899).

        [16]() الطبراني، المعجم الصغير (1/63).

        [17]() البوصيري، مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه (1/334).

        [18]() مسند أحمد (3/152).

        [19]() أخرجه ابن حبان في صحيحه، الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان: كتاب الحظر والإباحة، باب: اللعب واللهو (7/545).

        [20]() «يرقصون» (ابن حجر العسقلاني، فتح الباري 2/444)، والمراد الرقص الذي هو جائز في شرع الله، وليس الرقص المحرّم.

        [21]() النسائي، السنن الكبرى، كتاب عشرة النساء، باب: إباحة الرجل لزوجته النظر إلى اللعب (5/307).

        [22]() أي: قال النبيّ  لعائشة رضي الله عنها.

        [23]() حُميراء: تصغير الحمراء، يريد البيضاء (ابن الأثير، النهاية في غريب الحديث والأثر 1/438).

        [24]() ابن حجر العسقلاني، فتح الباري بشرح صحيح البخاري (2/444).

        [25]() البيهقي، مناقب الشافعي (2/199).

        [26]() الشافعي، الرسالة (ص508).

        [27]() البيهقي، مناقب الشافعي (2/199).

        [28]() الشافعي، الرسالة (ص510).

        [29]() ابن حجر العسقلاني، فتح الباري بشرح صحيح البخاري (12/149).

        [30]() ابن الجوزي، كشف المشكل من حديث الصحيحين (ص43).