احتجاج المجسمة والمشبهة بحديث الجارية:
وليس في حديث الجارية حجّة لمجسّمة العصر في زعمهم أنَّ الله يسكن السماء، وهو حديث رواه مسلم([1]) من طريق راوٍ واحدٍ وهو معاوية بن الحكم وهو : «أنّ رجلًا جاء إلى رسول الله ﷺ فسأله عن جارية له، قال: قلت: يا رسول الله، أفلا أعتقها؟ قال: «ائتني بها» فأتاه بها فقال لها: «أينَ اللهُ؟» قالت: في السماء، قال: «مَنْ أنا؟» قالت: أنت رسول الله، قال: «أَعْتِقْها فإنَّها مؤمنةٌ». فهذا الحديث ليس معناه أن الله يسكن السماء كما توهّم بعض الجهلة، بل معناه أن الله عالي القدر جدًّا، وليس فيه حجّة على تفسيرهم له بالظاهر، لأنَّ ظاهره مخالف للحديث المتواتر الذي رواه خمسة عشر صحابيًّا سمعه كلٌّ منهم من الرسول وهو قوله ﷺ: «أُمِرتُ أن أُقاتلَ الناسَ حتى يشهدوا ألّا إلهَ إلا اللهُ وأني رسولُ الله، فإذا شهِدُوا عَصَمُوا منّي دماءَهُم وأموالَـهُم إلا بحقّها». فهذا الحديث([2]) صريح بأن الإسلام لا يصحّ إلا بالشهادتين، ويدلُّ على ذلك أيضًا الحديث الذي رواه النسائيّ في السنن الكبرى([3])عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ دخل على غلام من اليهود وهو مريض فقال له: «أَسْلِمْ»، فنظر إلى أبيه فقال له أبوه: أَطِعْ رسول الله ﷺ، فقال ـ أي الغلام ـ: أَشهد ألّا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله، فقال رسول الله ﷺ: «الحمدُ لله الذي أنقذَهُ بي منَ النارِ».
فإن حُمِلَ حديث الجارية على الظاهر كان معناه مناقضًا لهذا الحديث، ففيه أن الرسول ﷺ حكم على الجارية لإشارتها إلى أن الله في السماء بأنها مؤمنة بالله، ولا يصحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحكم بالإيمان لمجرّد قول إنسان: اللهُ في السماء، لأنّ هذا القول مشترك بين اليهود والنّصارى.
فما أسخف عقول المجسّمة والمشبّهة الذين يَرَوْن حديث الجارية أقوى شاهد على عقيدتهم الفاسدة حيث إنهم أخذوا بظاهره فقالوا: «الله حالٌّ في السماء!» يعنون العرش، فوافقوا أهل الكتاب المشركين وكثيرًا غيرهم من الكفار.
وبعض أهل السُّنَّة أثبتوه ولكنهم لم يأخذوا بظاهر هذا الحديث بل أوّلوه فقالوا: إنّ معنى ما ورد في هذا الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لها: «أينَ اللهُ؟» ما اعتقادك من التعظيم في الله؟ وقولها: «في السماء» معناه عالي القدر جدًّا. هؤلاء لم يحكموا ببطلانه نظرًا لإمكان هذا التأويل. ثم رواية ابن حبّان([4]) لحديث الجارية من حديث الشَّرِيد بن سويد([5]) صاحب رسول الله ﷺ تخالف هذه الرواية المتقدمة، ولفظها: أن الرسول ﷺ قال لهذه الجارية: «مَن ربُّكِ؟» فقالت: «الله» فقال: «ومَنْ أنا؟» قالت: «أنت رسول الله» قال: «أَعْتِقْهَا فإنَّها مؤمنةٌ».
وروى ابن الجارود([6]) عن الزهريّ عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن رجل من الأنصار أنه جاء بأَمَة سوداء فقال: يا رسول الله إنَّ عليَّ رقبة مؤمنة، فإن كنت ترى هذه مؤمنة أعتقها. فقال النبيّ ﷺ: «أتشهدينَ أنْ
لا إله إلا الله؟» فقالت: نعم، قال: «أتشهدينَ أني رسولُ الله؟» قالت: نعم، قال: «أتؤمنينَ بالبعثِ بعدَ الموتِ؟» قالت: نعم، قال: «فأَعْتِقْها» اهـ.
وقد حكم عدّة علماء بشذوذ وضعف رواية مسلم لحديث الجارية، قال المحدّث عبد الله بن الصديق الغماريّ([7]) ما نصّه: «الحديث شاذٌّ لا يجوز العمل به» ثم قال: «وجاء حديثان مخالفان لحديث معاوية يؤكدان شذوذه، فروى البيهقيّ في «السنن»([8]) من طريق عون بن عبد الله بن عتبة: حدّثني أبي عن جدّي قال: جاءت امرأة إلى رسول الله ﷺ بأمة سوداء فقالت: يا رسول الله، إن عليَّ رقبة مؤمنة أتجزئ عني هذه؟ فقال رسول الله ﷺ: «مَن ربُّكِ؟» قالت: الله ربي، قال: «فما دينُكِ؟» قالت: الإسلام، قال: «فمَنْ أنا؟» قالت: أنت رسول الله، قال: «أفتصَلّينَ الخَمْسَ وتُقرّينَ بما جئتُ بهِ منْ عندِ الله؟» قالت: نعم، فضرب رسول الله ﷺ على ظهرها وقال: «أَعْتِقِيها». وروى أيضًا([9]) من طريق حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن الشَّرِيد بن سويد الثقفيّ قال: قلت: يا رسول الله، إن أمي أوصت إليَّ أن أعتق عنها رقبة، وأنا عندي جارية نوبية، فقال رسول الله ﷺ: «ادعُ بها» فقال: «مَن ربُّكِ؟» قالت: الله، قال: «فمَنْ أنا؟» قالت: رسول الله، قال: «أعتِقْها فإنها مؤمنةٌ» اهـ.
وهناك عدة أحاديث ضعّفها العلماء في صحيح مسلم، كما ذُكِرَ في كتاب الإلزامات والتتبع للحافظ الدارقطنيّ([10])، وكتاب هدي السّاري وهو مقدمة فتح الباري شرح صحيح البخاري([11])، وكلاهما لابن حجر، وكتاب شرح فتح القدير للكمال بن الهمام الحنفي([12])، وكتاب الديباج على صحيح مسلم بن الحجاج لجلال الدين السيوطي([13])، وكتاب فتح المغيث شرح ألفية الحديث للسخاوي([14])، وغيرها من الكتب([15]).
وقد شذّ بعض المصنفين لما جمعوا في كتاب واحد أخبارًا تحت أبواب متعددة، فخصُّوا بابًا لإثبات اليد، وخصُّوا بابًا لإثبات الرجل، وبابًا لإثبات الوجه، فقوي بذلك الإيهام وغلَب الحسّ، ومن هؤلاء المجسّم القاضي أبو يعلى الحنبليّ([16]). وهذه الألفاظ وإن كان بعضها قد صدر من رسول الله ﷺ إلا أنَّ ذلك كان في أوقات متفرقة مع كونها محفوفة بقرائن تشير إلى معان صحيحة قد يضرُّ بها هذا الجمع ويجردها عن قرائنها ويجعل معها قرينة عظيمة في تأكيد إيهام الظاهر والتشبيه. فالرسول ﷺ لم ينطق بما يوهم خلاف الحق، وإنما الإشكال يحصل إذا ضُمَّ إلى كلمة منها كلمة ثانية وثالثة ورابعة من جنس واحد فيضعف الانتباه إلى هذا الاحتمال الصحيح وينصرف الذهن إلى الاحتمال الفاسد.
وأخرج البخاريّ بسنده عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أنه قال: سمع النبيّ ﷺ قومًا يتدارؤون([17]) فقال([18]): «هَلَكَ مَنْ كانَ قبلَكُمْ بهذا، ضربُوا كتابَ الله بعضَهُ ببعضٍ، وإنما نزَلَ كتابُ الله يُصَدّقُ بعضُهُ بعضًا، فلا تضرِبُوا بعضَهُ بعضًا، ما علِمْتُمْ منهُ فقولُوا وما لا فَكِلُوه إلى عالِـمِهِ».
وبسنده أيضًا عن عائشة رضي الله عنها قالت: تلا رسول الله ﷺ: هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ ءايَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ {7} (آل عمران)، فقال رسول الله ﷺ([19]): «فإذَا رأيتُمُ الذينَ يتَّبعونَ ما تشابَهَ منهُ فأولئكَ الذينَ عنَى اللهُ فاحذَرُوْهُمْ».
[1] ) صحيح مسلم، مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحته، 2/70.
[2] ) صحيح البخاريّ، البخاري، كتاب الإيمان: فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَءاتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ {5} (التوبة)، 1/12. صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله، 1/38.
[3] ) السنن الكبرى، النسائيّ، 5/173.
[4] ) الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان، ابن بلبان، 1/206.
[5] ) الشريد بن سويد الثقفي، له صحبة، يقال: كان اسمه مالكًا فسمي الشريد لأنه شرد من المغيرة بن شعبة لما قتل رُفْقَتَهُ الثََّقَفِيّينَ. الإصابة في تمييز الصحابة، ابن حجر العسقلاني، 3/340.
[6] ) المنتقى من السنن المسندة، ابن الجارود النيسابوريّ، 1/234.
[7] ) الفوائد المقصودة في بيان الأحاديث الشّاذّة المردودة، عبد الله الغماريّ، ص 87، 89.
[8] ) السنن الكبرى، البيهقيّ، 7/388.
[9] ) السنن الكبرى، البيهقيّ، 7/388.
[10] ) الإلزامات والتتبع، الدارقطني، ص120.
[11] ) هدي الساري مقدمة فتح الباري، ابن حجر، ص13، 14.
[12] ) شرح فتح القدير، الكمال بن الهمام، ص18.
[13] ) الديباج على صحيح مسلم بن الحجاح، السيوطي، 1/20، 21.
[14] ) فتح المغيث شرح ألفية الحديث، السخاوي، 1/65، 66.
[15] ) التقريب والتيسير لمعرفة سنن البشير النذير، النووي، ص18. طبقات الشافعية الكبرى، السبكي، ص138.
[16] ) الكتاب المسمّى أخبار الصفات.
[17] ) «تَدَارَؤُوا: تَدَافَعُوا في الخُصومَةِ» اهـ. القاموس المحيط، الفيروزأبادي، مادة د ر أ، ص50.
[18] ) خلق أفعال العباد، البخاريّ، ص 46. مسند أحمد، أحمد، 2/185. المعجم الأوسط، الطبرانيّ، 3/ 227.
[19] ) صحيح البخاريّ، البخاري، كتاب التفسير، باب قوله تعالى: مِنْهُ ءايَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ 4/ 1655 رقم 4273. صحيح مسلم، مسلم، كتاب العلم، باب النهي عن اتباع متشابه القرآن والتحذير من متبعيه، 4/ 2053. بلفظ «سمَّى» بدل «عنى» وغيرهما.