الخميس مارس 28, 2024

التجسيم في عقيدة اليهود وأثره في عقائد بعض من
انتسب إلى الإسلام

اليهود مِنْ أَنْزَعِ الـمِلل والنِحَل إلى التجسيم، فالقرآن الكريم يحدّثنا عن ارتداد اليهود إلى التجسيم وسيدُنا موسى عليه السلام ما زال بين ظَهْرَانَيْهِم، فلم يصبروا على التنـزيه برهة، إذ لم يلبث بعضهم بعد أن جاوز الله بهم البحر وأنجاهم من فرعون إلا أن طالبوا نبيّ الله موسى عليه السلام بأن يتخذ لهم إلهًا مجسَّمًا، قال تعالى: وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَآئِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ ءالِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ {138} (الأعراف)، وقال سبحانه أيضًا: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ {148} (الأعراف)، وتشهد نصوص التوراة المحرَّفة الموجودة بين الأيدي الآن على اليهود بانتقالهم من التنـزيه إلى التجسيم أيضًا. ونشير إلى بعض هذه النصوص، ففي ما يسمى بسفر الخروج([1]): «ولما رأى الشعب أن موسى أبطأ في النزول من الجبل اجتمع الشعب على هارون وقالوا له: قم اصنع لنا آلهة تسير أمامنا».

وفيه أيضًا([2]): «وارتحلوا من سكوت ونزلوا في إيثام في طرف البرية، وكان الرب يسير أمامهم نهارًا في عمود سحاب ليهديهم في الطريق وليلًا في عمود نار ليضيء لهم». والعياذ بالله ينسبون لله المشي والحيّز والجهة.

وفيه أيضًا([3]): «صعد موسى وهارون…وسبعون من شيوخ إسرائيل ورأوا إله إسرائيل، وتحت رجليه شبه صنعة من العقيق الأزرق الشفاف…لكنه لم يمد يده إلى أشراف بني إسرائيل فرأوا الله وأكلوا وشربوا». والعياذ بالله من الكفر المبين.

ويطول البحث إذا أردنا تتبع ما في التوراة المحرّفة من التجسيم، ويشهد لذلك قول السموأل بن يحيى المغربيّ([4]) الذي كان عالِـمًا باليهودية ثم أسلم وألَّف كتابه إفحام اليهود([5]): «وأيضًا فإن عندهم في توراتهم ـ المحرفة ـ أن موسى صعد الجبل مع مشايخ أمته فأبصروا الله جهرة وتحت رجليه كرسيّ منظره كمنظر البَلُّوْر. ويطول الكتاب إذا عدّدنا ما عندهم من كفريات التجسيم، على أن أحبارهم قد تهذبوا كثيرًا عن معتقد آبائهم بما استفادوه من عقيدة المسلمين» اهـ. ويعزو الشهرستانيّ([6]) ميل اليهود إلى التجسيم إلى كثرة النصوص التي توهم ذلك في كتبهم فيقول([7]): «وأما التشبيه فلأنهم وجدوا التوراة المحرفة مملوءة بالمتشابهات مثل الصورة والمشافهة والتكليم جهرًا، والنزول على طور سيناء انتقالًا، والاستواء على العرش استقرارًا([8])، وجواز الرؤية فوقًا وغير ذلك» اهـ. وبالجملة فإن نسبة التجسيم إلى اليهود مما اتفق عليه كتّاب الملل والنحل والمؤلفون في دراسة الأديان، فلا نطيل البحث فيه، إلا أن من الضروريّ التنبيه قبل أن نختم المبحث إلى أن كتّاب الفِرَق يرون أن لتجسيم اليهود أثرًا في ظهور التجسيم في معتقد بعض الفرق التي انحرفت عن عقيدة التنـزيه، ومن ذلك قول الإمام فخر الدين الرازيّ([9]): «اعلم أن اليهود أكثرهم مشبهة، وكان بدء ظهور التشبيه في الإسلام على يد بيان بن سمعان الذي كان يثبت لله الأعضاء والجوارح، وهشام بن الحكم، وهشام بن سالم الجواليقيّ، ويونس بن عبد الرحمن القمّي، وأبي جعفر الأحول الذي كان يدعى شيطان الطاق، وهؤلاء رؤساؤهم، ثم تهافت في ذلك المُحْدَثون ممن لم يكن لهم نصيب من علم المعقولات» اهـ.

[1] ) ما يسمّى سفر الخروج في التوراة المحرفة، 32/1.

 

[2] ) ما يسمّى سفر الخروج في التوراة المحرفة، 13/ 20، 21.

 

[3] ) ما يسمى سفر الخروج في التوراة المحرفة، 24/ 9_ 11.

 

[4] ) السموأل بن يحيى بن عباس المغربيّ، ت 570هـ، مهندس رياضيّ، عالم بالطب والحكمة. أصله من المغرب، سكن بغداد مدة، وانتقل إلى فارس، وكان يهوديًّا فأسلم، ومات في المراغة (بأذربيجان). له: «المفيد الأوسط في الطب»، و«بذل المجهود في إفحام اليهود». الأعلام، الزركلي، 3/140.

 

[5] ) إفحام اليهود، السموأل بن يحيى المغربيّ، 1/131.

 

[6] ) محمد بن عبد الكريم بن أحمد، أبو الفتح الشهرستاني، ت548هـ، كان متقدمًا في معرفة أديان الأمم ومذاهب الفلاسفة. ولد في شهرستان بين نيسابور وخوارزم وانتقل إلى بغداد سنة 510هـ، فأقام ثلاث سنين وعاد إلى بلده وتوفي بها. من كتبه: «الملل والنحل». الأعلام، الزركلي، 6/215.

 

[7] ) الملل والنحل، الشهرستانيّ، ص 211. البدء والتاريخ، المقدسيّ، 4/34.

 

[8] ) ليس معناه أن التوراة الصحيحة فيها النزول بالانتقال، ولا الاستواء بالاستقرار، لكن اليهود اعتقدوا في الله الانتقال والاستقرار ونحوه من معاني الأجسام فضلُّوا والعياذ بالله.

 

[9] ) اعتقادات فرق المسلمين والمشركين، فخر الدين الرازيّ، ص34. راجع: الفرق بين الفرق، البغداديّ، ص 28.