الخميس مارس 28, 2024

أيوب لا يرد الدود إلى جسده

ووصل بالبعض أنهم زعموا أن أيوب عليه السلام كان كلما سقط الدود من جسمه ردّه إليه وهذا كفر والعياذ بالله، وجوابنا عن ذلك أن أهل الحق أجمعوا على أن الكبائر مستحيلة على الأنبياء عليهم السلام، فما يروونه في تلك القصة من أنه كانت تتساقط الديدان من جسمه ثم يعيدها ويقول لها: يا مخلوقة الله، يا مباركة، كُلي مما رزقك الله. فهذا فيه نسبة الكبائر إلى أيوب عليه السلام وهو مُخرِجٌ من الدين، لأن الإضرار بالجسم والعقل وإيذاء النفس بغير حقّ معلوم من الدين بالضرورة حُرمته. وفي هذا القول سَفَهٌ، والأنبياء منـزّهون عن السفه، فكيف يُنسب ذلك لنبيّ من أنبياء الله يُضرَب به المثل في الصبر.

فلذلك أثبت أهل الحق أن سيدنا أيوب لم يكن مرضه منفّرًا، ولم يخرج منه الدود ومِنْ ثَمَّ يعيده على زعمهم ليأكل من جسمه، وكذلك لم تصدر منه روائح كريهة ما دَفَعَت الناس إلى رميه على المزابل كما زعم بعض الناس أيضًا والعياذ بالله من الضلال.

ونعود إلى تكملة قصة سيدنا أيوب عليه السلام، فنقول: طالت مدّة هذه العلّة ولم يَبْقَ له شيءٌ من الأموال ألبتَّةَ، وكان يزورُهُ اثنانِ من المؤمنينَ فارتدَّ أحدهما وكفر، فسأل سيدنا أيوب عنه فقيل له: وسوس إليه الشيطان أنَّ الله لا يبتلي الأنبياء والصالحين، وأنّك لست نبيًّا فاعتقد ذلك. فحزن سيدنا أيوب لهذا الأمر وتألَّـم لارتداد صاحبه عن الإسلام فدعا الله أنْ يُعافِيَهُ ويُذْهِبَ عنه البلاء كي لا يرتدَّ أحدٌ من المؤمنين بسبب طول بلائه. فرفع الله تعالى عن نبيّه أيوب عليه السلام البلاء، وكان ذلك بعد مرور ثمانية عشر عامًا، كان فيها سيدنا أيوب صابرًا شاكرًا ذاكرًا مع شدّة بلائه، قال الله تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِّعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 44] وأوحى إليه أن يضرب الأرض برِجْلِهِ فضربها فنبعَتْ عيْنَانِ شَرِبَ مِنْ واحدة فتعافى باطنه واغتسل بالأخرى فتعافى ظاهره، وأذهبَ الله عنه ما كان يجده من الألم والأذى والسقم والمرض، وأبدلَهُ بعد ذلك صِحَّة ظاهرةً وباطنةً وجمالًا تامًّا، ولـمَّا اغتسل من هذا الماء المبارك أعاد الله أيوب على أحسن ما كان، وأنـزل له ثوبيْنِ من السماء أبيضيْنِ، التحف بأحدهما من وسطِه، ووضع الآخرَ على كتفيْه ثمّ أقبل يمشي إلى منـزله، وأبطأ على زوجته حتَّى لقِيَتْهُ من دون أنْ تَعْرِفَهُ فألقت عليه السلام وقالت: «يَرْحَمُكَ الله، هَلْ رَأَيْتَ نَبِيَّ الله المبْتَلَى وَقَدْ كَانَ أَشْبَهَ الناَّسِ بِكَ حِينَ كَانَ صَحِيحًا؟» قال: «أَنَا هُوَ»، وردّ الله إلى زوجة سيدنا أيوب شبابها ونضارتها فولَدَتْ له سبعةً وعشرينَ ذكرًا عوًضًا عن الذين ماتوا سابقًا، وأقبلتْ سحابةٌ وصَبَّتْ في بَيْدَرِ قمحِهِ ذهبًا حتّى امتلأ، ثمّ أقبلت سحابة أخرى إلى بَيْدَرِ شعيرِهِ وحُبُوبِهِ فسكبت عليه فِضّةً حتّى امتلأَ.

والحقّ في هذه القصة ما دلّ عليه كتاب الله على لسان نبيّه محمد الصادق على أن الله تبارك وتعالى ابتلى نبيّه أيوب عليه الصلاة والسلام في جسده وأهله وماله، وأنه صبر حتى صار مضرب الأمثال في ذلك، وقد أثنى الله عليه هذا الثناء المستطاب، قال الله عزَّ شأنه: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِّعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 44]، فالواجب على المسلم أن يقف عند كتاب الله، ولا يزيد في القصة كما تزيد الزنادقة، فقد ألصقوا بالأنبياء ما لا يليق بهم، وليس هذا بعجيب ممن يفتري على الدين من الذين لم يتجرؤوا على أنبياء الله ورسله فحسب؛ بل تجرؤوا على الله تبارك وتعالى فشبَّهوه بخلقه ونسبوا إليه ما قامت الأدلة العقلية والنقلية المتواترة على استحالته عليه سبحانه وتعالى من قولهم إن الله في جهة أو إنه حالٌّ في مكان من الأمكنة أو إنه يوصف بالحركة أو السكون أو الهيئة أو الحجم أو اللون.

والذي يوافق الشريعة أن أيوب عليه السلام ابتُلِيَ، ولكنَّ بلاءَه لم يصل إلى حد هذه الأكاذيب، من أنه أصيب بالجذام([1])، وأن جسمه أصبح قرحة، وأنه أُلقِيَ على كُناسة – أي: مزبلة – بني إسرائيل وأنه رعى في جسده الدود، وعبثت به دوابّهم.

فأيّوب عليه صلوات الله وسلامه أكرم على الله من أن يلقى على مزبلة، وحاشا أن يصاب بمرض ينفر الناس من دعوته، ويقزّزهم منه؛ بل الحقّ أن الله تعالى حكيم يرسل أنبياءه ورسله وقد جعلهم على أكمل هيئة وجمال وأخلاق سامية ومنطق فصيح واضح ليعلّموا الناس ما ينفعهم في دينهم ودنياهم وآخرتهم.

[1])) «الجُذامُ كغُرابٍ: عِلَّةٌ تحدُث من انْتِشارِ السَّوْداءِ في البَدَنِ كلّه فَيَفْسُدُ مِزاجُ الأعْضاءِ وهَيْئَتها، ورُبَّما انتهى إلى تَآكُلِ الأعْضاءِ وسُقوطِها عن تَقَرُحِ».اهـ. القاموس المحيط، الفيروزأبادي، مادة: (ج ذ م)، (1/1404).