الثلاثاء أكتوبر 22, 2024

مجلس كتاب “سمعت الشيخ يقول” 126

لا تنظر إلى مَن هو فوقَك في الدنيا

قال فضيلة الشيخ الدكتور جميل حليم الحسيني غفر الله له ولوالديه ومشايخه

 

الحمدُ لله ربِّ العالمين والصلاةُ والسلامُ على سيِّدِنا محمدٍ وعلى آلهِ وصحبِه الطيبين الطاهرين

وأشهدُ أنْ لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له ولا ضدَّ ولا ندَّ ولا زوجةَ ولا ولدَ له، ولا شبيهَ ولا مثيلَ له ولا جسمَ ولا حجمَ ولا جسدَ ولا جثةَ له، ولا صورةَ ولا أعضاءَ ولا كيفيةَ ولا كميةَ له، ولا أينَ ولا جهةَ ولا حيّزَ ولا مكانَ له، كان اللهُ ولا مكان وهو الآنَ على ما عليه كان فلا تضربوا لله الأمثال ولله المثلُ الأعلى تنزّه ربي عن الجلوسِ والقعود وعن الحركةِ والسكون وعن الاتصال والانفصال لا يحُلُّ فيه شىء ولا يَنحَلُّ منه شىء ولا يَحُلُّ هو في شىء لأنه ليس كمثلِه شىء.

مهما تصوّرتَ ببالك فاللهُ لا يشبه ذلك، ومن وصف اللهَ بمعنى من معاني البشر فقد كفر.

وأشهدُ أنّ حبيبَنا وعظيمَنا وقائدَنا وقرةَ أعيُننا محمدًا عبدُه ورسولُه وصفيُّه وحبيبُه وخليلُه صلى الله عليه وسلم وشرّف وكرّم وبارك وعظّمَ وعلى جميعِ إخوانِه من النبيين والمرسلين وآلِ كلٍّ وصحبِ كلٍّ وسائرِ الأولياء والصالحين.

 

رغبةُ الصحابةِ في الآخرةِ وإخلاص العمل

قال الإمام الهرريُّ رضي الله عنه: إذا نظرَ أحدُكم إلى مَن هو فوقَه في الخَلقِ والمال فلْينظرْ إلى مَن هو أسفل منه وذلك لأنّ النظرَ إلى مَن هو فوقَه في المال والغنى يزيدُ الإنسانَ طمعًا في الدنيا وبُعدًا عن الآخرةِ ونسيانًا لها.

(هذه من الوصايا النبوية من التوجيهات المحمدية أنه صلى الله عليه وسلم أرشَدَنا أن ننظرَ في أمورِ الدين والتقوى والفضل والعلم والصلاح إلى مَن هو فوقَنا لنلحقَ به لنعملَ بعملِه لنَقتديَ به لأجلِ أن نرتفعَ ونرتقي في المقامات والدرجات.

فالواحد منا لو نظرَ مثلًا في سيَر الأولياء وأخلاقِهم في أعمال العلماء، لو نظرَ في سيَر الأبطال من المجاهدين الذين نصروا الدين ونشروا الإسلام الذين صبروا وتحمّلوا وقدّموا وأعطوَا وبذلوا وضحّوا، يتحمّس يتشجّع تتحرك همّتُه للعمل وتقوى عزيمتُه على العمل ليَقتديَ بهم وليلْحَقَ بهم وهذا مطلوب، لأنه مع حبِّه لهم ولما هم عليه من المقامات ولا يحسدُهم الحسدَ المحرّم إنما يتمنى أنْ يعملَ بعملِهم وأن يقتديَ بهم فعند ذلك ينشط في تحصيلِ العلم، ينشط للعمل بالعلم، ينشط بتعليم العلم، ينشط بصلاة السنة لقيام الليل بالتصدّق بالعطاء بالإنفاق، يصير يقتدي.

إذا سمعَ مثلًا أخبار أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه وعن جودِه وسخائِه وإنفاقِه وكرمِه يصير يقتدي به، إذا سمعَ عن جرأةِ عمر رضي الله عنه في قولِ الحق ونُصرةِ الحقّ والدين يصير يقتدي به، إذا سمع عن أبي بكر رضي الله عنه في تمسّكِه بالحق وشدّتِه في أمرِ الدين مع تواضعِه وانكسارِه وخشوعِه مع رحمتِه مع الأمة ومع عبادِ الله يصير يقتدي به، إذا سمعَ أخبار عليّ رضي الله عنه في الجرأةِ والبسالة والشجاعة والإقدام وفي قوةِ العلم وقوة التمكن في أمور الدين يصير يقتدي به، وهذا مطلوب.

إذًا يا إخواني ويا أخواتي، كلٌّ منا لينظر إلى مَن هو فوقَه في الدين في التقوى في الصلاح في خدمة الإسلام، هذا الذي ينبغي أنْ نسعى وأن نعملَ بعملهِ. وهذا يحرّكُنا للأفضل للأحسن للأعلى من الأعمال والأخلاق.

وأما في أمورِ الدنيا لا ينبغي أنْ ننظر إلى مَن هو فوقَنا إن كان في قوةِ الجسم للدنيا أو في كثرةِ المال أو في جمعِ المال للدنيا ومجرد الغنى الدنيوي، هؤلاء لا ينبغي أنْ ننظرَ إليهم لأجلِ أن لا نزدريَ نعمةَ اللهِ علينا.

الله تعالى أنعمَ علينا بنِعمٍ كثيرة {وما بكمْ من نعمةٍ فمنَ الله}-سورة النحل/53- {وإنْ تعُدّوا نعمةَ اللهِ لا تُحصوها}-سورة النحل/18- {وأسبغَ عليكم نِعَمَه ظاهرةً وباطنة}-سورة لقمان/20-

هذا الأمر قد ينساهُ الإنسان إذا أكثر من النظر إلى مَن هو فوقَه في الدنيا ينظر هذا عندَه بناء وهذا عنده مثلًا أرض وقصر وعنده عشر أبنية يصير يسعى يقول كيف أحصّل هذا، يصير وقتهُ للدنيا ويشتغل في الليل والنهار، وأحيانًا ربما مدّ يدَه للحرام لأنه لم يقنع بما هو فيه من الحلال وهو فوق الكفاية ليس مكتفِيًا فقط بل الذي عنده فوق حد الكفاية، لكنْ نفسُه التي أرادت أن تلحقَ بهؤلاء الأثرياء من أهل الدنيا تصير تعمل للدنيا في الليل والنهار، ثم هذا أحيانًا يترك الصلاة يترك العلم يترك صلة الرحم، قد يمدّ يدَه إلى الحرام قد يصل إلى القتل لأجل أنْ يجمعَ المال، قد يصل إلى المنكرات.

أليس من الناس السفهاء اليوم يجلِبون الزبائن للزانيات لأجل أنْ يجمعوا المال؟ ما الذي حملَهم على هذا العلم الخسيس الوضيع؟ هو أنهم أرادوا أنْ يُكثّروا الأموال.

أليس بعض الناس اليوم يعملون في الخمور؟ هذه التجارة الفاسدة المحرمة الخاسرة ما الذي جرّهم إليها؟ يقول أريد أن أغنى.

بعض الناس لماذا دخلوا في الربا؟ وهؤلاء كثُر، يقول لأجل أنْ أربحَ المال، يكون أحيانًا فقير لكنْ يضع المال في الربا ويأكل الربا، انظروا إلى أي حال والعياذ بالله وصل هؤلاء.

يقعونَ في الفسق في الكبائر في الفجور في الخُبث والملْعنَة لأجل المال يريد أنْ يجمع المال، انظروا إلى حال الذين وصلوا إلى القتل إلى ارتكاب الزنا والغصب والاغتصاب وتأليف عصابات السطو المسلح ودخلوا السجون ومنهم مَن قُتِل ومنهم مَن فُضِح لأجل المال.

الإنسان إذا صار مُتشَوِّقًا مَنهومًا مشغول البال والقلب بالمال وجمعه وجمع الدنيا هذا قد يصل في بعض الحالات إلى هذه النتائج الوخيمة والعواقب السيئة المُزرية التي فيها فضيحة في الدنيا وهلاك وعذاب في الآخرة.

إذًا المطلوب أن نُكثرَ من شكرِ الله. في أمور الدنيا لا ننظر إلى مَن هو فوقَنا، لا تنظر إلى فلان الذي عندَه ثلاث سيارات سيارة له سيارة لزوجته وسيارة لابنه، وفلان عنده أربع سيارات، وفلان خمس سيارات، ماذا يصير بقلبِك؟

ماذا تفعل؟ تنظر أنا غنيّ بالإيمان وهذه النعمة أغلى من كلِّ كنوزِ الأرض. لو كان عند إنسان كافر ملء الدنيا ذهبًا وأنت مسلم تنام على الرصيف وتأكل من المزابل وليس معك ما تشتري به ما تستر به عورتَك وليس معك ما تشتري به الدواء ومِتَّ في الطرقات على الإسلام أنت إلى الجنة وهو الذي يملك بملء الدنيا ذهبًا على الكفر ومات على الكفر إلى جهنم.

رأيت من الأغنى؟ في المعنى أنت بإسلامِك، انظر إلى النعمِ العظيمة التي أنت فيها. انظر إلى الكافر الذي معه مليارات وهو أعمى وأنت فقير المال وتُبصر، مَن يكون في حسرة أنت أم هو؟ هو أعمى ومعه مليارات، وأنت معك ليرات لبنانية أنت مؤمن وهو معه مليارات وأعمى، ماذا يكون هذا المال وهذه المليارات أمام نعمة النظر؟؟ لو دفع كل المليارات التي عنده لا يستطيع أن يبصر أمامه.

تخيّل أنت مثلًا لو كان عندَك أولاد وأحفاد وأنت أعمى لم ترَهم بحياتِك كم تكون الحسرة في قلبك؟

أنت فقير وبصير وترى أولادك وأحفادك، في أيِّ نعمةٍ أنت؟ هكذا فكّر.

تنظر إلى مَن يلبس ساعة بعشرين ألف دولار، بل انظر إلى مَن ليس عنده يد يلبس بها ساعة، لو كانت هذه الساعة التي يلبسها بمليون دولار كلها من الماس واليواقيت لا تنظر إليها، انظر إلى مَن ليس له يد، قل أنا عندي يد أستعينُ بها على قضاء حوائجي وأدفعُ بها الأذى عن نفسي.

انظر لمن عنده مليارات الدولارات وما عنده يد يستنجي بها، وأنت فقير ولك يدان، في المعنى أنت الأغنى أيها الفقير.

انظر إلى مَن ليس عندَه يدين لا يستطيع أن يستنجي ولا يستطيع أنْ يأكل، إن كان يريدُ سترَ عورتِه يحتاج لمن يساعده.

انظر كم أنت في نعَم في خيرات.

لما تنظر إلى واحد يلبس حذاء مثلًا بخمسمائة دولار لا تنظر إلى الحذاء وتتحسّر قل أنا عندي رجلين أستطيع المشي هناك أناس لا يستطيعون لبس الحذاء لأنه ليس عندهم أرجل، انظر إلى المُقعد إلى المشلول انظر إلى مبتور القدمين، هذا لو كان عنده ملايين الدولارات وليس عنده رِجلين يلبس بهما الحذاء، أنت عندك رِجلين وما عندك حذاء بخمسمائة دولار، في المعنى أنت الأغنى عندك رِجلين لو مشيتَ حافيًا، ماذا يفعل له الحذاء ومعه ملايين الدولارات؟

لو كان عنده بناية عشرين طابق مستودع للأحذية وما عنده رِجلين يلبس بهما هذه الأحذية ماذا يكون فعل؟

لا تنظر إلى مَن هو فوقَك في الدنيا، لا تقل هذا الإنسان أغنى مني بالمال أنا أريد أن أسعى وأعمل لأحصّل وأعمل أكثر منه فقط للدنيا، تكون تضيّع عمرك وتعيش في حسرة بسبب نعمةِ غيرِك، اشتغل بشكر الله بالإكثار من طاعة الله اشتغل بالإكثار من الثناء على الله.

كثير من الناس اليوم بسبب طمعهم وقلة توكلِهم على الله وتعلّق قلوبِهم بالدنيا والانغماس في الدنيا تعوّدوا كثرةَ الشكوى إلى أنهم يقعون أحيانًا في الحرام ويتركون شكرَ الله تعالى.

يكون مثلًا هذا تاجر وميسور وعنده أملاك وعقارات وبضاعة ومواد ومال وبسبب الأوضاع الاقتصادية وانهيار الليرة وارتفاع الدولار وفقد المواد من الأسواق أو غلاء الأسعار الوضع الصحي الذي ضرب البلاد، كان يربح في الشهر مائة وخمسون ألف دولار صار اليوم بسبب الأوضاع صار يربح خمسة آلاف دولار، تراه كل الوقت يشكو ويشكو وكأنه في عزاء ما في شغل ما في مصاري عم نخسر الوضع معطل عالآخير أحوالنا تتدهور.

بعض الأغنياء عندما يقول أنه يخسر يحسب هو مثلًا من سنة ونصف كان يربح في الشهر مائة وخمسون ألف دولار والآن يأتيه خمسة آلاف دولار شهريا، يحسب المائة وخمس وأربعون ألف هذه خسارة على زعمِه، مع أن رأس المال موجود وفوقه خمسة آلاف دولار ويقول عم بخسر، لأنه يطمع بالدنيا.

بدل أن يقول نحن في نِعم لا تُعد ولا تُحصى لك الحمد يا الله لك الشكر يا الله لك الفضل يا الله، بدل أنْ يُثني على الله في الليل والنهار يقعد يشكو كأنه يجلس في مجلس ندب ونياحة وعزاء، بعض التجار هكذا تعوّدوا كثرة الشكوى بدل أنْ يتعوّدوا كثرةَ الشكر.

حال المؤمن المطلوب أنْ يكون كثير الشكر لرب العالمين، الله عز وجل قال {لئن شكرتُم لأزيدَنّكم}-سورة إبراهيم/7-

هناك فرق  بين حسابات أهل الدنيا العوجاء العرجاء وبين حسابات الأتقياء والأصفياء والأولياء والذين قلوبُهم منوّرة.

لذلك انظروا إلى مَن هو فوقَكم في الدين في العلم في التقوى في الصلاح في البذل والعطاء والجود والسخاء والكرم، انظروا إلى مَن هو فوقَكم في خدمة الدين والدعوة والإسلام وإلى مَن هو فوقكم في الأمر بالمعروف في النهي عن المنكر وإلى مَن هو فوقكم في التحذير من أهل الضلال والباطل وإلى مَن هو فوقكم في نشر التوحيد والتنزيه، هذا الذي ينبغي.

أما في الدنيا في المال لا تنظر إلى مَن هو فوقَك وتبقى نفسك الجائعة تتحسر ويصير معك الأمراض لأنك تحسب نِعم غيرِك، اشتغل بإصلاح نفسكِ واقنع بما أنت فيه من الرزق الحلال ولا تمُدَّنّ يدَك إلى الحرام واكتفِ بما رزقك الله من الحلال.

قال صلى الله عليه وسلم [ما قلّ وكفى خيرٌ مما كثُر وألْهى]

إذا كان عندك الكفاية وبالغالب يكون عندهم أكثر من الكفاية، يؤدي الواجبات ويجتنب المحرمات هذا أفضل بآلاف المرات أنْ يصير من أصحاب المليارات ويقصّر في الفرائض والواجبات، انشغل بالمال قصّر في أمر الصلاة، انشغل في التجارة قصّر في الفرائض، لا ابقَ مُكتفٍ أو فقير محافظًا على الفرائض أحسن وأفضل وأنفع من أنك تصير من أصحاب رؤوس الأموال مُضيِّعًا للفرائض، فكّر بالعاقبة.

بعض الناس يقول أنا أفكر بالمستقبل، ما هو المستقبل في نظرك؟ هل يمكن لك أن ترى كل هذه الناس التي ماتت بلحظة أين هو مستقبلهم الدنيوي؟ من أغنياء ودكاترة وأقوياء وأصحاء وأصحاب شهادات ومناصب دنيوية أين المستقبل الدنيوي الذي كانوا يحضّرون له ويفكّرون به ويشتغلون له أين هو؟

المستقبل الحقيقي أن تربحَ الجنة، المستقبل الحقيقي أن تنجو في القبر وفي الآخرة، المستقبل الحقيقي أن تكونَ من المُنَعَّمينَ في الآخرة لا من المعذَّبين، هناك النعيم الذي لا ينقطع ولا يزول في الآخرة أما الدنيا ليس من مانع أن تفكرَ بما هو ضمن الحلال أما تقول أفكر في مستقبلي فتضيِّع الفرائض والواجبات أنت أحمق لأنك لم تضمن الدنيا وضيّعتَ الآخرة، يطلع في الآخرة إما من الكافرين وإما من الفاسقين الفاجرين المستحقين لعذاب الله تعالى.

لذلك المستقبل الحقيقي هو أن تكونَ تقيًّا، المستقبلُ الحقيقي هو أنْ تربحَ القبر والآخرة.

قل لي أين هم هؤلاء الشباب الذين ماتوا في هذه الأيام وفي هذه الأمراض وكانوا لا زالوا كما يقال في مُقتبَل العمر؟ شباب متَوقّع لهم أن يعيشوا ويتزوّجوا ويصير عندهم أموال وأولاد أين هم؟؟؟ رأيتَ كيف انقطع المستقبل بلحظة؟

هذا المستقبل الدنيوي، ففكّر بمستقبلِك ومستقبل أولادِك للآخرة مع ما تحتاجُه في الدنيا من أمور الدنيا لكنْ ضمن الحلال ضمن ما يُرضي الله، ليس خروجًا عن الواجبات وليس ارتكابًا للمحرّمات.

الإنسان ينبغي أن يفكّرَ بهذا الحديث وأنْ يقفَ عندَه أن تنظرَ إلى مَن فُضِّلَ عليك في الدين أنْ لا تنظر إلى مَن فوقَك في الدنيا لأجلِ أنْ لا تزدريَ نعمةَ اللهِ عليك.

وفكّر بالحديثِ الثاني “ما قلَّ وكفى خيرٌ مما كثُرَ وألْهى”.

ثم ورد في الصحيح قال صلى الله عليه وسلم “ليس الغنى عنْ كَثرةِ العرَض –المال- ولكنّ الغنى غنى النفس”.

الذي عندَه قناعة يكونُ مرتاحًا قلبُه مرتاح بالُه مرتاح نفسُه مطمئنة يُطيع الله يؤدّي الواجبات يجتنب المحرّمات، تأتي اللقمة بالحلال يأكل ويشكر، يكفّ يدَه عن الحرام يبقى مرتاحًا في الدنيا والآخرة، أما مَن ليس عندَه قناعة ذلّ وهوان وعار ونار وشنار قلق واضطرابات وتعب نفسي وفكري وجسدي وقلبي، يريد الدنيا لستَ قادرًا أنْ تحَصِّلَ إلا ما قُدِّرَ لك.

قال سيّدُنا ومولانا الغوثُ الرفاعي رضي الله عنه وأرضاه “إني علمتُ أنّ رزقي لن يأكلَه غيري فاطمأنّ بالي” هذه عقيدة، نحن على عقيدة الأنبياء والحمدُ  لله، نحن على عقيدة كلّ المسلمين السواد الأعظم السلف والخلف من المسلمين عقيدة أهل السنة والجماعة وهي ما قدّرَه اللهُ لك من الرزق يصل إليك لو حاولَت جحافل وجيوش الكفر أنْ تَحولَ بينَك وبينَ هذا الرزق لن تستطيع، لو وقفت جرافات وملالات ونحوِها لتمنَعكَ من الرزقِ المقسومِ لك لنْ تقدر سيصل لك لأنّ اللهَ قدّره في الأزل لك، فريّح قلبك لا تمدّ يدَك للحرام ولا تنظر إلى الحرام ولا تسعَ في طلبِ الحرام.

تقديرُ اللهِ لا يتغيّر ما قدّره الله لك في الأزل سيصل إليك، لو فجّرتَ نفسَك لن تحصل إلا على ما قدّره اللهُ لك، لا تُتعب نفسَك ولا قلبَك ولا تطلب الحرام ولا تمدّ يدك للحرام.

قال صلى الله عليه وسلم “فاتقوا اللهَ وأجمِلوا في الطلب خذوا ما حلَّ وَدَعوا ما حَرُم” رواه الحاكم في المستدرك.

لو كان المال الذي من حرام جبل من ذهب إياك لأنه سيكونُ وَبالًا عليك في الآخرة، نِقمة وحسرة ونَدامة، إياك لأنّك ستسأل وتُحاسَب. إنّ اللهَ يسألُ عن الإبرةِ يوم القيامة.

“ليس الغنى عن كثرة العرَض ولكنّ الغنى غنى النفس”

الإنسان الذي عندَه قناعة مرتاحٌ ويسلَم من كثيرٍ من المهالك، فلا يدخل مداخل الرّيبة ولا يدخل في طريق المجرمين ولا يمشي في متاهات المجرمين، عنده قناعة.

تسمعون بقصة القناعة والصياد؟ هذه فيها عبرة وتعلّم الإنسان القناعة.

يحكى أنه كان هناك صياد ينزل كل يوم صباحًا على البحر يصطاد شيئًا من السمك ويرجع، جزء من السمكات يبيعهم ويقضي حوائج أولاده وزوجته وقسم يأكلونَه، هكذا حاله مرتاح ما عنده مشاكل ما عنده هم قانع، مرة من المرات وهو نازل على الصيد بعد أن أنهى عمله يراه واحد من أصدقائِه الصيادين قال له أين ذاهب؟ قال له اليوم أخذت حصتي ذاهب إلى البيت، قال له لا زال الوقت باكرًا ارجع تحصل على سمك أكثر، قال له ماذا بعد؟ قال له: إن حصلت على سمك أكثر تحصل على مال أكثر، قال له وماذا بعد؟ قال له: إن حصلتَ على مال أكثر تشتري شبكة، وبعدها يطلع لك سمك أكثر بالشبكة من الصنارة، قال له وماذا بعد؟ قال له: تدّخر المال، قال له وماذا بعد؟ قال له تشتري مركب، قال له وماذا بعد؟ قال له تحصل على سمك أكثر وتبيع أكثر وتحصل على مال أكثر وترتاح، قال له: أنا الآن ذاهبٌ لأرتاح.

هذه القناعة، مَن كانت عينُه فارغة ونفسُه مريضة ولا يشبع، إذا صار عنده بيت ينظر إلى مَن عنده بيتان، إن صار عنده بيتان ينظر إلى عنده ثلاثة بيوت، صار عنده ثلاثة بيوت، إلى أن يموت يبقى هكذا لا يشبع. هذا سببه عدم القناعة والطمع والتعلق في الدنيا وجمعها من أطرافِها وبحذافيرِها.

يا إخواننا انظروا إلى الأغنياء الذين عندهم ملايين لا يقدرون أنْ يأكلوا بصلة، يطحنونَ له الطعام وينزلوه بالنباريج من أنفه إلى معدتِه، وعنده الملايين وعقارات وخدم وحرس ومرافقة لا يستطيع أنْ يأكل بصلة.

يكونون قد أخذوه بالسيارة الطبية الخاصة به وبكل المعدات تحت جسر البربير سابقا أو جسر البسطة التحتا وينظر إلى الحمالين الذين يأكلون رغيف الخبز مع البصلة، هذا الغني صاحب الملايين الذي يأكل مثل السريلاك المطحون بالنباريج ينظر إلى الحمال الذي يأكل الخبزة والبصلة، ماذا عملت له المليارات؟

لذلك ورد في حديث في إسنادِه ضعف لكنْ يُروى وتُؤخَذ منه عبرة “القناعةُ كنزٌ لا يفنى” يعني القناعة كالكنز ينتفع به الإنسان إلى آخر حياتِه إلى أن يموت، كالذي عنده كنز يبقى يستعمله ويستفيد منه إلى أن يموت، القناعة كالكنز، لا يفنى يعني يدومُ طويلًا.

ومولانا الشيخ رحمه الله يقول “القناعة بالقليل الحلال من الرزق فيها سلامة الدنيا والدين والآخرة”

انظروا إلى هؤلاء الذين يطلعون على التلفزيونات يديهم وراء ظهورهِهم ووجوههم على الحائط سرقوا هواتف، جزادين، دراجات، مال، هذه الصورة تنطبع في ذهن أهله وأقربائه وجيرانه وأصحابه ورفقائه وأولاده، وأولاده يُحرَجون أمام أبناء الجيران (أبوكم الحرامي الذي طلع على التلفزيون، هذا أبوهم السراق الذي حطوه بالأخبار) فضيحة في الدنيا لماذا؟ تسرق مائة دولار؟ مليون دولار؟ ماذا يعمل لك المليون دولار؟؟؟

يوجد أناس عندهم ملايين يعيشون في هذه الدنيا مثل الفقير. مثلًا في الوجبة الواحدة التي يأكلُها هل يقدر أن يأكل الجمل؟ لا، يقدر أن يأكل البقرة؟ لا، ولا خروف بحسب العادة لا، معدتهُ كم تسع؟ لو امتلأت معدته بالطعام لا يستطيع أنْ يعبّأها أكثر، والفقير لو أكل الخبز وشبع لكنْ فرقٌ كبير بين مَن أكل بالحلال وبين مَن أكل بالحرام، أكثر من شبعتِك لا تستطيع أن تأكل، كل بالحلال ولا تُهِن نفسَك في الدنيا كي لا تُعذَّب في الآخرة.

الفقير الذي يأكل بالحلال هناء وسعادة وشفاء وراحة وسلامة يوم القيامة.

لا تستطيع أن تأكل مع المليارات التي معك فوق شبعتِك بالوجبة الواحدة.

الفقير مرتاح من عدة نواحي ليس عنده أموال مُحتجَزة في المصارف اليوم في هذا الوضع الاقتصادي، على وضع البنوك الأغنياء الذين أموالُهم بالبنوك صار عندهم أمراض وقلق وفزع وخوف واضطراب لا يستطيع الحصول على مالِه، الفقير قلبه وباله مرتاح.

هذا الغني يقف على باب المصرف كالشحاذ هذا إن أعطوه، عنده مال وليس قادرًا أن يحصل عليه فكيف إذا كان مالًا بالحرام؟ وكيف إذا كان يأكل الربا؟

مع كلّ هذا يقف كالشحاذ، الفقير مرتاح من كل هذا.

هذا في الدنيا أما في القيامة أخطر لمن عذّبه اللهُ على المال الحرام وعلى الربا، حالهُ في القيامة أشد وأخطر.

من ناحية ثانية كم من الناس طلع الدولار ونزل ومرض بسبب هذا فمات. وكم يوجد أناس قُتلوا لأجل أموالِهم؟ وكم من أناس يبقون في قلق في الليل والنهار سُرق المال ذهب المال نقص كم صرفت كم سأصرف كم دفعت كم سأدفع؟

هذا هم، اقنع بالقليل من الحلال من الرزق فيها سلامة الدين والدنيا والآخرة.

قال صلى الله عليه وسلم “ليس الغنى عن كثرةِ العرَض ولكنّ الغنى غنى النفس”

كم من فقراء أسخى وأجود وأكرم من مئات الأغنياء. رأينا ذلك عند بناء المؤسسات والمدارس يوم قال الشيخ رحمه الله “إخوانُنا يبنُونَ المدرسة”  رأينا كيف بعض الفقراء المال القليل الذي عنده يضعه كما هو، المرأة الفقيرة تضع خاتم الزواج ونحوه وكل ما عندها تضعه، وبعض الأثرياء والأغنياء الذي يملك ستمائة ألف دولار في تلك الأيام وزيادة نقول له تعال هنا ضع مالًا يوجد نصرة للدين والدعوة ومساعدة للمسلمين لإنشاء المدارس تأييد للعلم لإقامة المساجد، يقول بكرة ببعتلك أو بكرة بعطيكم، تعطي لنفسك تقدّم لقبرِك، تتفاجأ كم أرسل؟

ترى هذا الفقير وضع أكثر من هذا الغني. رأينا أحوال عجيبة وغريبة.

لذلك كثير من الأغنياء أشِحّاء لأنه يفكر بالمصروف اليومي لزوجته وأولاده، بعض الميسورين يكون مصروف زوجته وأولاده في اليوم ألف دولار بعضهم ثلاثة آلاف دولار في اليوم الواحد، بعضهم يذهبون ليتغدوا في قبرص ويرجعوا في نفس اليوم، أما إذا نزلت زوجته على المولات والأسواق لتتبضّع تشتري فقط شوكولا ب125 الف دولار.

تنظر في حال بعض الناس عند الشدة ووجود المضطرين من المرضى والفقراء والأيتام والأرامل هذا الغني كم يدفع وهذا الفقير كم يدفع.

مستعد هذا الفقير يأخذ رغيف الخبز الذي في بيته ويعطي نصفه للفقير الثاني، وترى بعض الأغنياء أشحاء.

 وكما قال الشيخ رحمه الله “أكثرُ الناسِ عند المال أشِحّاء” وقال “معادنُ الرجالُ تُعرَفُ عند المال”

وحصل في زمن عمر رضي الله عنه واحد في مجلس سيدنا عمر يمدح رجلًا ويُثني عليه، فقال له سيدنا عمر رضي الله عنه: جرّبتَه بالمال؟ قال له لا، قال له: ما عرَفتَه.

الشيخ رحمه الله يقول “المالُ محكُّ الرجال”

بعض الناس بسبب المال هو قال عن نفسه أنا أقتل. معادن الرجالِ تُعرَفُ عند المال المالُ محَكُّ الرجال، أكثرُ الناسِ أشِحّاء، بعض الناس سكروا في حب المال.

وقال رضي الله عنه “حبُّ المالِ يُجَنِّن”، هذا حال أكثر الناس ولا شك أنه يوجد أغنياء طيبين وأسخياء وأجواد وكرماء وهؤلاء يُسَجّل لهم ما يعملون لنُصرة الدين والدعوة وجزاهم اللهُ خيرًا كما نسألُ اللهَ للفقراء من المسلمين أن يُخلَف عليهم جميعًا الخير والبركة وجزى اللهُ تعالى الجميع خيرًا من المسلمين الأغنياء والفقراء الذين يدفعون.

يوجد أغنياء يُضرَب بهم المثل في قوةِ توكّلِهم على الله وفي قوةِ ثقتِهم بالله لأنّ العطاء بالمبالغ الكبيرة تحتاج لرجال.

مثلًا سيدنا عثمان مثل أبي بكر الذي أنفق كلَّ ماله في سبيل الله، مثل عمر، مثل طلحة مثل عبد الرحمن بن عوف وأمثالهم كثر.

 في عصرِنا يوجد أغنياء يُضرَب بهم المثل في جرأتِهم وشجاعتِهم وقوة توكّلهم على الله وقوة ثقتِهم بالله في الإعطاء والإنفاقِ والجود والسخاء والكرم بالمبالغ الضخمة الكبيرة لنصرة الدين والإسلام، وهذا يحتاج لقلب ولركب، وقوة توكل ونفس طيبة، ما كل الناس هكذا، كثير من الأغنياء أشحاء النفس، كثير من الفقراء أكرم من كثير من الأغنياء.

لما واحد يأتي عندو خمسين ألف ليرة لبناينة هذا كل المال الذي يملكه، وواحد عنده عشرين مليون دولار، يأتي هذا الذي عنده خمسين ألف ليرة يضع خمس وعشرون منها للدعوة والمصلحة، أو يضعها كلها، والذي عنده عشرة مليون دولار وعشرين مليون دولار دفع ألف دولار، انظروا ذاك دفع كل ماله.

هذا كالذي ورد في الحديث “سبق درهم مائةَ ألف درهم” من عُرض ماله تصدق بمائة ألف، وهذا عنده درهمين تصدق بدرهم يعني بنصف أموالهِ.

كثير من الفقراء أسخى وأجود وأكرم من كثير من الأغنياء.

ربي يُخلِف على الجميع الخير والبركة.

وكم وكم من الناس يبخلون حتى في إخراج الواجب عليهم كالزكوات، ويكون غنيا عنده مالًا ووجبت عليه الزكاة، نفسهُ الخبيثة تبخل فلا يُخرج الزكاة أو يؤخّر دفع الزكاة عن وقتِها بلا عذر شرعي أو يدفع أقل مما وجب عليه، وجب عليه مثلًا عشرين ألف دولار فيدفع 200 دولار، بحجة أنّ الأوضاع تعبانة، إن كنت أنت تقول الأوضاع تعبانة ماذا تركت للفقير الذي يدفع 400 دولار تطوّعًا ليس زكاة؟

نعوذ بالله من مسخِ القلوب ومن قسوة القلوب ومن سواد وظلمة القلب.

هذا منع الزكاة أو أخّر بدون عذر أو دفع أقل مما يجب عليه أو أخرج ما لا يُجزىء أو أعطى لمن لا يصح إعطاؤه الزكاة، هذه خمس حالات ويوجد غيرها هذا على سبيل المثال، تبقى ذمتُه مشغولة بذلك لم يبرّىء ذمّتَه وله موقفٌ صعبٌ يوم القيامة.

الأغنياء ليتقوا اللهَ في أنفسِهم ليُعجّلوا مَن كان لم يدفع الزكوات قبل أن يموتوا ويصير هذا المال وبالا عليكم، ما كنتم منعتوه كل هذه السنوات هذا بذمتِكم ادفعوه الآن قبل الموت، قد يرثُهم أبناؤكم ولا يتصدّقون بفلس عن أرواحكم ماذا تكونوا فعلتم؟ عصيتم ربكم وفسقْتم وفجرْتم وجمَعْتم لغيرِكم ولم يتصدقوا بفلس عن روحِكم بعد موتكم.

هذا للأغنياء في قضية الزكاة وللتجار بكل أنواع التجارة اتقوا الله في أنفسكم لا تقعوا في الكذب ولا في الغش ولا في الاحتيال ولا في بيع البضائع الفاسدة ولا في الحلف كذبًا لترويج البضاعة ولا تقعوا في الاحتكار وإياكم ثم إياكم ثم إياكم أن تعملوا على أن تُلحقوا ضررًا بالفقراء، إياكم أيها الأغنياء وليكن في معلومِكم أنّ مَن بلغَه منكم حالَ فقير ومضطر ويتيم وأرملة ومريض  عجزوا عن الشراء ولا يقدرون وإنْ تُرِكوا هلَكوا وماتوا وبلغَكم حالُهم واجبٌ عليكم أنْ تعملوا على إنقاذِهم، فرضٌ عليكم فإنْ لم تفعلوا تُوافَوْن يوم القيامة وتُسألونَ على تقصيرِكم الخسيس هذا الذي بتأخيرِكم وتقصيرِكم وتخاذلِكم وخِسةِ نفوسِكم مات هؤلاء الذين علمتم بحالِهم ولم تمُدّوا لهم يدَ العونِ والمساعدة.

والآن رمضان على الأبواب ارأفوا بالفقراء وارحموهم اعطفوا على الفقراء على الأيتام على المساكين على الأرامل على المهجرين، مَن لا يرحم لا يُرحم، إياك أن تكونَ قاسيَ القلب لا تفكر أيها التاجر كيف ستُخرج المال والثراء من رفع الأسعار لتأخذ الأرباح من الفقراء بل أعطِهم من رأس المال ولا تربح.

اتّقِ اللهَ فيهم تخيّل بينَهم أختك وابنك وابنتك فقراء على أبواب التجار كيف يكون حالُك؟ بل في أوضاع وأحوال يجب عليكم أيها الأغنياء أنْ تعطوا وتساعدوا وتُنقذوا هؤلاء من الهلاك وإلا فحالُكم صعب وخطير وموقفُكم مُخزٍ ومحزن ومؤسف.

اتقوا اللهَ في أنفسكم، اتقوا اللهَ في عباد الله، اتقوا اللهَ في الفقراء

أيها التجار ارحموا الفقراء، أيها التجار أنقذوا الفقراء، لا تتاجروا بهم ولا عليهم بل أنقذوهم من الهلاك وقد علمتم بأحوالِ بعضِهم فوجبَ عليكم إنقاذُهم لا أن تبيعَه برأس المال أن تعطيَه، وإنْ لم تفعل يهلِك فأنت من الهالكين ومن الخاسرين ومن الظالمين والظلمُ ظلماتٌ يومَ القيامة.

نسألُ اللهَ السلامة وحسنَ الحال وحسن الختام ونسأله سبحانه أنْ يُجَمّلَنا بالتقوى والقناعة وأنْ يجعل في قلوبنا الرحمة للعباد والفقراء

من لا يرحم لا يُرحَم.

والحمد لله رب العالمين