الجمعة يوليو 26, 2024

سيدنا داود لم يرغب بزوجة أحد قادته فأرسله ليموت في الحرب

من الدخيل الذي يخلّ بمقام الأنبياء وينافي عصمتهم، ما ذُكِرَ في الجزء الخاصّ بالمحليّ([1]) في كتاب تفسير الجلالين في قصة داود عليه السلام عند تفسير هذه الآية ونصه: { إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ}، نحن {خَصْمَانِ} قيل: فريقان ليطابق ما قبله من ضمير الجمع، وقيل اثنان والضمير بمعناهما، والخصم يطلق على الواحد وأكثر، وهما ملكان جاءا في صورة خصميْنِ وقع لهما ما ذُكِر على سبيل الفرض، لتنبيه داود عليه السلام على ما وقع منه، وكان له تسع وتسعون امرأة وطلب امرأة شخص ليس له غيرها وتزوّجها ودخل بها».اهـ.

ومما ينبغي الحذر عند قراءته والتنبه منه ما ورد في كتب الطبري وابن أبي حاتم([2]) والسيوطيّ([3]) في قصة خطيرة عن ابن عباس رضي الله عنهما ووهب بن منبّه([4]) وكعب الأحبار وغيرهم، ومحصّلها أن داود عليه السلام حدّث نفسه إن ابتليَ أن يعتصم، فقيل له: إنك ستُبْتَلى وستعلم اليوم الذي تُبْتَلى فيه، فخذ حذرك، ثم قيل له: هذا اليوم الذي تُبتلى فيه، فأخذ الزبور ودخل المحراب وأغلق بابه، وأقعد خادمه على الباب، وقال: لا تأذن لأحد اليوم. فبينما هو يقرأ الزبور، إذ جاء طائر مذهّب يدرج بين يديه، فدنا منه، فأمكن عليه لينظر أين وقع، (انتبه هذه قصة مكذوبة) فإذا هو بامرأة عند بركتها تغتسل من الحيض، فلمَّا رأت ظلّه نفضت شعرها فغطّت جسدها به، وكان زوجها غازيًا في سبيل الله، فكتب داود إلى رأس الغزاة: «أن اجعله في حَمَلَة التابوت»([5])، وكان حَمَلَة التابوت إما أن يُفتح

عليهم، وإما أن يُقْتَلوا، فقدَّمه في حَمَلَة التابوت، فقُتلِ. (انتبه هذه قصة مكذوبة) فلمَّا انقضت عدّتها خطبها داود عليه السلام، فاشترطت عليه إن ولدت غلامًا أن يكون الخليفة من بعده وأشهدت عليه خمسًا من بني إسرائيل وكتبت عليه بذلك كتابًا، فأشعر بنفسه أنه كتب حتى ولدت سليمان عليه الصلاة والسلام وشبّ، فتسوّر عليه الملكان المحراب فكان شأنهما ما قصّ الله تعالى في كتابه، وخرّ داود عليه السلام ساجدًا فغفر الله له وتاب عليه([6]).

ومما يذكر في هذه القصة ولا يصح نسبته لنبي الله داود ما أخرجه الحكيم الترمذيّ في نوادر الأصول، وابن جرير، وابن أبي حاتم بسند ضعيف، عن أنس([7]) رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إن داود عليه السلام حين نظر إلى المرأة أوصى صاحب الجيش فقال: (انتبه هذه القصة مكذوبة) إذا حضر العدوّ فقرّب فلانًا بين يدي التابوت، وكان التابوت في ذلك الزمان يُستنصَرُ به، مَنْ قُدّمَ بين يدي التابوت لم يرجع حتى يُقْتَل أو ينهزم معه الجيش، فَقُتِلَ، وتزوّج المرأة، ونزل الملكان على داود عليه السلام فسجد فمكث أربعين ليلةً ساجدًا حتى نبت الزرع من دموعه على رأسه فأكلت الأرض جبينه، وهو يقول في سجوده: ربّ زلَّ داود زلَّةً أبعد مما بين المشرق والمغرب ربّ إن لم ترحم ضعف داود وتغفر ذنوبه جعلتَ ذنبه حديثًا في المخلوق من بعده، (انتبه هذه قصة مكذوبة) فجاء جبريل عليه السلام من بعد أربعين ليلة، فقال: يا داود، إن الله قد غفر لك وقد عرفتَ أنّ الله عدْلٌ([8]) لا يميل، فكيف بفلان – أي: الزوج المقتول – إذا جاء يوم القيامة، فقال: يا رب دمي الذي عند داود، قال جبريل: ما سألت ربك عن ذلك، فإن شئت لأفعلن، فقال: نعم فعرج جبريل وسجد داود عليه السلام، فمكث ما شاء الله، ثم نزل جبريل، فقال: قد سألتُ اللهَ يا داود عن الذي أرسلتني فيه، فقال: قل لداود: إن الله يجمعكما يوم القيامة، فيقول له: هب دمك الذي عند داود، فيقول: هو لك يا رب، فيقول: فإنّ لك في الجنة ما شئت، وما اشتهيت عِوَضًا»([9]).اهـ. ومثل هذه القصص والحكايات ظاهرة الدسّ والتحريف فينبغي التنبه وتمييز الافتراء من أصل القصة الحقيقية التي وردت عن سيدنا داود التي لا طعن ولا مَنْقَصَةَ فيها.

وفي رواية أخرى لهذه القصة المدسوسة مع بعض التغيير في التفاصيل يقولون: إن داود عليه الصلاة والسلام كان يومًا في محرابه إذ وقعت عليه حمامة من ذهب، فأراد أن يأخذها فطارت فذهب ليأخذها فرأى امرأة تغتسل، فوقع في حبّها وعشقها وأُعْجِبَ بها وأُغْرِم، وكانت زوجة أحد قوّاده واسمه «أوريا»، فأراد أن يتخلّص منه ليتزوّج بها فأرسله في أحد الحروب وحمّله الراية وأمره بالتقدُّم، وكان قد أوعز إلى جنوده أن يتأخروا عنه إذا تقدّم نحو الأعداء، حتى قُتِلَ ذلك القائد وبهذه الوسيلة – كما تقول هذه القصة المفتراة – قُتلِ القائد «أُوريا» وتزوّج داود عليه السلام زوجته من بعده، ويتجرأ بعضهم فيزيد في الوقاحة ويُعظم الفرية على سيدنا داود عليه السلام فيقول: إن داود زنى بهذه المرأة قبل تدبير هذه المكيدة {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف: 5].

وهناك قصة أخرى مفتراة شبيهة أيضًا في بعض تفاصيلها بهذه التي مرّت، يقولون فيها إن داود عليه السلام نظر وهو يمشي على سطح داره إلى امرأة تستحمّ فأعجبته وأُغْرِمَ بها، وأتى بها، واضطجع معها فحملت منه وأعلمته، وكان زوجها «أورويا الحثّيّ» في الحرب، فأتى به ليسأله عن أمر الحرب في الظاهر، وليحْدِثَ الرجل بامرأته عهدًا – أي: أن يجامعها – حتى لا يرتاب بأمرها إذا علم في ما بعد أنها حامل، ولكن الرجل كان تقيًّا جدًّا، فبات بباب داود ولم يزر امرأته، لأنه رأى من عدم التقوى أن يتمتّع بزوجه وإخوانه في الحرب بعيدون عن أزواجهم، (انتبه هذه قصة مكذوبة) فلمَّا علم داود بأمره لم ير وسيلة لعدم افتضاح أمره إلا تعريض «أُوريا» لجبهة القتال حاملًا الراية، وأن يتأخر عنه الجند بعد التقدُّم، وبهذه الوسيلة قُتلِ الرجل، وأتت امرأته بولد من تلك الزنية، وتزوّجها داود، ثم مرض الولد، ومن هذه المرأة كان سليمان، وهذا تخرُّصٌ سخيف ودعوى ساقطة ظاهرة الانتحال، لا تنطلي على صغار الطلبة إذ لا يوجد نبيٌّ جاء إلا من نكاح صحيح لا من زنى، كما أنه لا يقع نبيٌّ بالزنى فقد عصمهم الله وحفظهم من كبائر الذنوب وخَسيس الأفعال ورذيلها.

[1])) جلال الدين المحليّ، محمد بن أحمد بن محمد بن إبراهيم المحليّ الشافعيّ (ت864هـ)، فقيه مفسّر. مولده ووفاته بالقاهرة. صنفّ كتابًا في التفسير أتمه الجلال السيوطيّ فسمي: (تفسير الجلالين) «فيه أخطاء لعلها دست فيه لا بد من الانتباه إليها»، و(كنز الراغبين) في شرح المنهاج في فقه الشافعية، و(البدر الطالع في حل جمع الجوامع) في أصول الفقه، و(شرح الورقات). الأعلام، الزركلي، (5/333).

[2])) ابن أبي حاتم هو: عبد الرحمن بن محمد أبي حاتم بن إدريس بن المنذر التميميّ الحنظليّ الرازي (ت327هـ)، أبو محمد، حافظ للحديث، من كبارهم. له تصانيف منها: (الجرح والتعديل)، و(التفسير)، و(الرد على الجهمية)، و(علل الحديث). الأعلام، الزركلي، (3/324).

[3])) السيوطيّ هو: عبد الرحمن بن أبي بكر الخضيريّ السيوطيّ (ت911هـ)، فقيه حافظ مؤرخ أديب، له نحو ستمائة مصنف، منها: (الإتقان في علوم القرآن)، و(الدرّ المنثور)، و(همع الهوامع)، و(تدريب الراوي)، و(تاريخ الخلفاء)، وغيرها. الأعلام، الزركلي، (2/69).

[4])) وهب بن منبّه الأبناويّ الصنعانيّ الذماريّ (ت114هـ)، أبو عبد الله، مؤرخ كثير الأخبار عن الكتب القديمة، عالم بأساطير الأولين ولا سيما الإسرائيليات. يعد في التابعين. أصله من أبناء الفرس الذين بعث بهم كسرى إلى اليمن. وأمه من حِمْيَر. ولد ومات بصنعاء. وفي (طبقات الخواص) أنه صحب ابن عباس رضي الله عنهما ولازمه ثلاث عشرة سنة. من كتبه: (ذكر الملوك المتوجة من حمير وأخبارهم وقصصهم وقبورهم وأشعارهم) رآه ابن خلكان في مجلد واحد، وقال: «هو من الكتب المفيدة».اهـ. الأعلام، الزركلي، (8/125، 126).

[5])) صندوق فيه آثار من أنبياء بني إسرائيل كانوا يقدمونه بين يدي الجيش كي يُنصروا قال تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَىٰ وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [البقرة: 248].

[6])) تفسير الطبريّ، الطبري، (21/174). تفسير ابن أبي حاتم، ابن أبي حاتم، (10/3240). الدرّ المنثور، السيوطيّ، (12/525).

[7])) أنس بن مالك بن النضر بن ضمضم النجاري الخزرجي الأنصاري، أبو ثمامة، أو أبو حمزة، صاحب رسول الله ﷺ وخادمه. روى عنه رجال الحديث 6822 حديثًا. مولده بالمدينة وأسلم صغيرًا وخدم النبي ﷺ إلى أن قبض. ثم رحل إلى دمشق، ومنها إلى البصرة، فمات فيها. وهو آخر من مات بالبصرة من الصحابة. الأعلام، الزركلي، (2/24).

[8])) «العَدْلُ في أسماء الله سبحانه: هو الذي لا يميل به الهوى فيجوز في الحكْم، وهو في الأصل مصدر سمّي به، فوُضع موضع العادل، وهو أبلغ منه، لأنّه جُعل المسمّى نفسه عَدْلًا».اهـ. تاج العروس، الزبيديّ، مادة: (ع د ل)، (29/452).

[9])) تفسير الطبريّ، الطبري، (21/181). نوادر الأصول، محمد الحكيم الترمذيّ، (1/393). تفسير ابن أبي حاتم، ابن أبي حاتم، (10/3239).