الجمعة يوليو 26, 2024

خطبة الكتاب

الحمد لله حقَّ حمده، وصلى الله وسلم على سيدنا رسول الله وعبده، محمد وعلى آله وصحبه من بعده، وبعد، فإن الله تبارك وتعالى يقول في محكم القرآن الكريم: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (٤١) لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 41، 42]. ويقول سبحانه: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّـهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّـهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [البقرة: 213]، ويقول جلّ شأنه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم: 58]. ويقول عزّ من قائل: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الأحزاب: 40].

وبعد اطّلاعي على الكثير من الافتراءات والدسائس التي زُرِعَت في طيّات قصص بعض الأنبياء الكرام عليهم الصلاة والسلام وحُشِيَتْ بها بطون الكتب، وذاعتْ بين كثير من أدعياء المشيخة الذين يتصدَّرون للتدريس والتأليف، عَقدتُ العزم على أن أجمع كتابًا أبيّنُ فيه بعض الدسائس المبثوثة في كتب التفاسير وغيرها وأُنبّه على وجه فسادها لئلا يغترَّ وينخدع بها العوامّ فيهلكوا ويَضلّوا.

وأَعني بالدسائس تلك الأساطير والأحاديث المكذوبة المنقولة عن مصادر يهودية على كثرتها، أو التي دسّها زورًا بعضُ من ينتسب للإسلام أو ينسب نفسه للعلم.

ومن المعروف أن التفسير مرتبطٌ بالحديث ارتباطًا وثيقًا، إذ كان رسول الله ﷺ يفسّر لأصحابه ما خفي عليهم من كتاب ربهم، فأخذت الرواية أول شكل من أشكال التفسير، ومن ثَـمَّ كان الصحابة يروون ما سمعوه وشاهدوه حتى وفاة النبيّ عليه الصلاة والسلام.

وعلى هذا النّهْج درج التابعون، ولكن لم تكن درجة الدقة والتثبت في الرواية على مستوى واحد في مراحلها المختلفة، فقد فشا الكذب في عصر التابعين وتساهل بعضهم في الرواية، ثم جاءت مرحلة التدوين. ونتيجة الانفصال الذي تـمّ بين تدوين التفسير وتدوين الحديث مع حذف الأسانيد كثرت الدسائس والموضوعات – أي: الأخبار المكذوبة – التي أُلصقت بالتفاسير.

ولا شك أن لهذه الترَّهات والأكاذيب المفتراة أثرًا سيئًا في الكثير من كتب التفسير، إذ كانت مدخلًا لتسرّب الأباطيل والأساطير التي أدى دخولها إلى النظر بعين الشكّ والاتهام لمن قام بروايتها، كما انتهز البعض الفرصة ونسبوا هذه الأكاذيب إلى النبيّ محمد ﷺ كبعض المستشرقين الذين استغلّوا هذه المفتريات وما تعلّق بها من موضوعات للطعن في الإسلام وتصويره دينًا مليئًا بالخرافات؛ بل إن بعضهم قال إن محمدًا ﷺ قد أخذ دينه بالكامل عن علماء اليهود وأحبارهم والعياذ بالله، لكن ولله الحمد فقد كانت هذه الدسائس مكشوفة عند أهل العلم والفهم رغم خبث طريقة حبكها ودسّها، فلم تنل من التشريع الإسلاميّ وأحكامه، ولم تستطع أن تزعزع أركان الدين ودعائمه، لأنَّ هذه الأمة – كما أخبر النبيُّ ﷺ – لا تجتمع على ضلالة([1]).

ولأن العلم يؤخذ مشافهة وبالتلقي بقي الحفّاظ المحقّقون المدقّقون يقومون بمهمتهم في إزالة الشوائب التي كانت تطرأ من خلال العلم المسمَّى بالجرح والتعديل الذي تكون به معرفة الرواة وأحوالهم وتوثيقهم أو الطعن بهم ونحو ذلك.

وإنني أتشرَّف بإهداء هذا العمل إلى كل محبٍ للخير وأهله، ساعٍ في سبيل نشر علوم دين الله المجيد، سائلًا الله عزَّ وجلَّ من فضله وجوده ومنّه وكرمه أن يجعل فيه النفع العميم، إنَّ الله على كل شيء قدير.

وما ورد من تكرار في هذا الكتاب فهو متعمد لترسيخ الأفكار، ولأن دواعيَ السياق والجمع ربَّما اقتضَتْ ذلك. كما وأرجو من كل ناصح شفيق على ديننا الحنيف إن وجد خللًا في هذا الكتاب أن يبيّن ذلك عملًا بحديث رسول الله ﷺ: «الدين النصيحة»([2]) رواه البخاري([3]) ومسلم([4]) وغيرهما.

 

 

[1])) سنن ابن ماجه، ابن ماجه، (2/1303)، رقم 3950.

[2])) صحيح البخاريـ، البخاري، كتاب الإيمان، باب: قول النبي r: «الدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم»، (1/21)، صحيح مسلم، مسلم، كتاب الإيمان، باب: بيان أن الدين النصيحة، (1/74).

[3])) محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاريّ (ت256هـ)، أبو عبد الله، حبر الإسلام، والحافظ لحديث رسول الله r، صاحب (الجامع الصحيح) المعروف بصحيح البخاري، و(التاريخ)، و(خلق أفعال العباد). قام برحلة طويلة في طلب الحديث، فزار خراسان والعراق ومصر والشام، وسمع من نحو ألف شيخ. الأعلام، الزركلي، (6/34).

[4])) مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيريّ النيسابوريّ (ت261هـ)، أبو الحسين، حافظ، من أئمة المحدثين. ولد بنيسابور، ورحل إلى الحجاز ومصر والشام والعراق، أشهر كتبه (صحيح مسلم) جمع فيه اثني عشر ألف حديثٍ، كتبه في خمس عشرة سنة، وهو أحد الصحيحين، المعوّل عليهما عند أهل السُّنَّة في الحديث، وقد شرحه كثيرون. ومن كتبه: (المسند الكبير) رتَّبه على الرجال، و(الكنى والأسماء). تذكرة الحفاظ، الذهبيّ، (2/160). تهذيب الأسماء واللغات، النوويّ، (10/126). الأعلام، الزركلي، (7/221، 222).