توسل الصحابة بالنبي صلى الله عليه وسلم
وروى البيهقي [1] أيضًا بإسناد صحيح عن مالك الدار –وكان خازن عمر- قال: “أصاب الناس قحط في زمان عمر فجاء رجل إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله استسقِ لأمتك فإنهم قد هلكوا، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فقال: إيت عمر فأقرئه مني السلام وأخبره أنهم يسقون وقل له: عليك بالكيس الكيس، فأتى الرجل فأخبر عمر فقال: “يا رب ما ءالوا إلا ما عجزت” اهـ. وهذا الرجل هو بلال بن الحارث المزني الصحابي، فهذا الصحابي قد قصد قبر الرسول للتبرك فلم ينكر عليه عمر ولا غيره.
وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري [2] ما نصه: “وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح من رواية أبي صالح السمان عن مالك الدار قال: أصاب الناس قحط في زمن عمر فجاء رجل إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله استسق لأمتك فإنهم قد هلكوا، فأُتي الرجل في المنام فقيل له: ائت عمر… الحديث. وقد روى سيف في الفتوح أن الذي رأى المنام المذكور هو بلال بن الحارث المزني أحد الصحابة” اهـ.
وقال ابن كثير [3] ما نصه: “وقد روينا أن عمر عسَّ المدينة ذات ليلة عام الرمادة فلم يجد أحدًا يضحك، ولا يتحدثُ الناس في منازلهم على العادة، ولم يرَ سائلاً يسأل، فسأل عن سبب ذلك فقيل له: يا أمير المؤمنين إنّ السؤال سألوا فلم يعطوا فقطعوا السؤال، والناس في همّ وضيق فهم لا يتحدثون ولا يضحكون. فكتب عمر إلى أبي موسى بالبصرة أن يا غوثاه لأمة محمد، وكتب إلى عمرو بن العاص بمصر أن يا غوثاه لأمة محمد، فبعث إليه كل واحد منهما بقافلة عظيمة تحمل البُرّ وسائر الأطعمات، ووصلت ميرة عمرو في البحر إلى جدة ومن جدة إلى مكة. وهذا الأثر جيد الإسناد” اهـ. وهذا فيه الرد على ابن تيمية لقوله إنه لا يجوز التوسل إلا بالحي الحاضر، فهذا عمر بن الخطاب استغاث بأبي موسى وعمرو بن العاص وهما غائبان.
ثم يقول في الصحيفة التي تليها: “وقال سيف بن عمر، عن سهل بن يوسف السلمي، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك قال: كان عام الرمادة في ءاخر سنة سبع عشرة وأوّل سنة ثماني عشرة أصاب أهل المدينة وما حولها جوع فهلك كثير من الناس حتى جعلت الوحش تأوي إلى الإنس، فكان الناس بذلك وعمرُ كالمحصور عن أهل الأمصار حتى أقبل بلال بن الحارث المزني فاستأذن على عمر فقال: أنا رسول رسول الله إليك، يقول لك رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لقد عهدتك كيسًا، وما زلت على ذلك فما شأنك”. قال: متى رأيت هذا؟ قال: البارحة، فخرج فنادى في الناس الصلاة جامعة، فصلى بهم ركعتين ثم قام فقال: أيها الناس أنشدكم الله هل تعلمون مني أمرًا غيره خير منه فقالوا: اللهم لا. فقال: إنّ بلال بن الحارث يزعم ذيْت وَذيت [4]. قالوا: صدق بلال فاستغث بالله ثمّ بالمسلمين، فبعث إليهم وكان عمر عن ذلك محصورًا، فقال عمر: الله أكبر، بلغ البلاءُ مدته فانكشف، ما أُذن لقوم في الطلب إلا وقد رفع عنهم الأذى والبلاء، وكتب إلى أمراء الأمصار أن أغيثوا أهل المدينة ومَن حولها، فإنه قد بلغ جهدهم، وأخرج الناس إلى الاستسقاء، فخرج وخرج معه العباس بن عبد المطلب ماشيًا، فخطب وأوجز وصلى ثم جثا لركبتيه، وقال: اللهم إياك نعبد وإياكَ نستعين، اللهم اغفر لنا وارحمنا وارضَ عنا، ثم انصرف، فما بلغوا المنازل راجعين حتى خاضوا الغدران.
ثم روى سيفٌ عن مبشر بن الفضيل عن جبير بن صخر، عن عاصم بن عمر بن الخطاب أن رجلاً من مزينة عام الرمادة سأله أهلُه أن يذبح لهم شاةً فقال: ليس فيهنّ شئ، فألحوا عليه فذبح شاةً فإذا عظامها حمرٌ فقال: يا محمداه. فلمّا أمسى أُرِيَ في المنام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: “أبشر بالحياة، ائت عمر فأقرئه مني السلام وقل له: إن عهدي بك وفيّ العهد شديدَ العقدِ فالكيس الكيس يا عمر”. فجاء حتى أتى بابَ عمر فقال لغلامه: استأذن لرسول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى عمر فأخبره، ففزع ثمّ صعد عمر المنبر فقال للناس: أنشدكم الله الذي هداكم للإسلام هل رأيتم مني شيئًا تكرهونه؟ فقالوا: اللهم لا، وعمَّ ذاك؟ فأخبرهم بقول المزني –وهو بلال بن الحارث- ففطنوا ولم يفطن، فقالوا: إنما استبطأك في الاستسقاء فاستسقِ بنا، فنادى في الناس فخطب فأوجز ثمّ صلى ركعتين فأوجز ثم قال: اللهم عَجزت عنا أنصارنا وعجز عنّا حولنا وقوتنا وعجزت عنا أنفسنا، ولا حول ولا قوة إلا بك، اللهم اسقنا وأحيِ العبادَ والبلاد.
وقال الحافظ أبو بكر البيهقي: أخبرنا أبو نصر بن قتادة وأبو بكر الفارسي قالا: حدثنا أبو عمرو بن مطر، حدثنا إبراهيم بن علي الذهلي، حدثنا يحيى بن يحيى، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح عن مالك الدار قال: أصاب الناس قحط في زمن عمر بن الخطاب فجاء رجلٌ إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله استسق لأمتك فإنهم قد هلكوا، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فقال: “ائت عمر فأقرئه مني السلام وأخبرهم أنهم مُسقون وقل له: عليك بالكيس الكيس”، فأتى الرجل فأخبر عمر فقال: “يا رب ما ءالوا إلا ما عجزت عنه”. هذا إسناد صحيح” انتهى كلام ابن كثير، وهذا إقرار بصحة هذا الحديث من الحافظ ابن كثير.
قال الحافظ ولي الدين العراقي [5] في شرح حديث: أن موسى قال: رب أدنني من الأرض المقدسة رَميةً بحجر وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “والله لو أني عنده لأريتكم قبره إلى جنب الطريق عند الكثيب الأحمر” ما نصه: “وفيه استحباب معرفة قبور الصالحين لزيارتها والقيام بحقها، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لقبر السيد موسى عليه السلام علامة هي موجودة في قبر مشهور عند الناس الآن بأنه قبره، والظاهر أن الموضع المذكور هو الذي أشار إليه النبي عليه الصلاة والسلام، وقد دل على ذلك حكايات ومنامات، وقال الحافظ الضياء: حدثني الشيخ سالم التل قال: ما رأيت استجابة الدعاء أسرع منها عند هذا القبر، وحدثني الشيخ عبد الله بن يونس المعروف بالأرمني أنه زار هذا القبر وأنه نام فرأى في منامه قبة عنده وفيها شخص أسمر فسلم عليه وقال له: أنت موسى كليم الله؟ أو قال: نبي الله، فقال: نعم، فقلت: قل لي شيئًا، فأومأ لي بأربع أصابع ووصف طولهن، فانتبهت فلم أدر ما قال، فأخبرت الشيخ ذيالاً بذلك فقال: يولد لك أربعة أولاد، فقلت: أنا قد تزوجت امرأة فلم أقربها، فقال: تكون غير هذه، فتزوجت أخرى فولدت لي أربعة أولاد” انتهى.
وابن تيمية هو أول من منع التوسل بالنبي عليه السلام كما ذكر ذلك الفقيه علي السبكي في كتابه شفاء السقام [6] ونص عبارته: “اعلم أنه يجوز ويحسن التوسل والاستعانة والتشفع بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه سبحانه وتعالى، وجواز ذلك وحُسْنهُ من الأمور المعلومة لكل ذي دين المعروفة من فعل الأنبياء والمرسلين وسير السلف الصالحين والعلماء والعوام من المسلمين، ولم ينكر أحد من أهل الأديان ولا سمع به في زمن من الأزمان حتى جاء ابن تيمية فتكلم في ذلك بكلام يلبس فيه على الضعفاء الأغمار، وابتدع ما لم يسبق إليه في سائر الأعصار…” اهـ.
قال بعض أهل العصر في كلام له في الرد على ابن تيمية: “فسَعيُ ابن تيمية في منع الناس من زيارته صلى الله عليه وسلم يدل على ضغينةٍ كامنةٍ فيه نحو الرسول، وكيف يتصور الإشراك بسبب الزيارة والتوسل في المسلمين الذين يعتقدون في حقه عليه السلام أنه عبده ورسوله وينطقون بذلك في صلواتهم نحو عشرين مرة في كل يوم على أقلّ تقدير إدامة لذكرى ذلك، ولم يزل أهل العلم ينهون العوام عن البدع في كل شؤونهم ويرشدونهم إلى السنة في الزيارة وغيرها إذا صدرت منهم بدعة في شئ، ولم يعدّوهم في يوم من الأيام مشركين بسبب الزيارة أو التوسل، وكيف وقد أنقذهم الله من الشرك وأدخل في قلوبهم الإيمان، وأول من رماهم بالإشراك بتلك الوسيلة هو ابن تيمية وجرى خلفه من أراد استباحة أموال المسلمين ودمائهم لحاجة في النفس، ولم يخف ابن تيمية من الله في رواية عدّ السفر لزيارة النبي صلى الله عليه وسلم سفر معصية لا تقصر فيه الصلاة عن الإمام أبي الوفاء بن عقيل الحنبلي، وحاشاه عن ذلك –راجع كتاب التذكرة له تجد فيه مبلغ عنايته لزيارة المصطفى صلى الله عليه وسلم والتوسل به كما هو مذهب الحنابلة- وإنما قوله بذلك في السفر إلى المشاهد المعروفة بالعراق لما قارن ذلك من البدع في عهده وفي نظره، وإليك نص عبارته في التذكرة المحفوظة بظاهرية دمشق: فصل: ويستحب له قدوم مدينة الرسول صلوات الله عليه فيأتي مسجده فيقول عند دخوله: بسم الله اللهم صلّ على محمد وعلى ءال محمد، وافتح لي أبواب رحمتك، وكُفّ عني أبواب عذابك، الحمد لله الذي بلغ بنا هذا المشهد وجعلنا لذلك أهلاً، الحمد لله رب العالمين، إلى أن قال: واجعل القبر تلقاء وجهك وقم مما يلي المنبر وقل: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، اللهم صل على محمد وعلى ءال محمد إلى ءاخر ما تقوله في التشهد الأخير، ثم تقول: اللهم أعط محمدًا الوسيلة والفضيلة والدرجة الرفيعة والمقام المحمود الذي وعدته، اللهم صل على روحه في الأرواح وجسده في الأجساد كما بلّغ رسالاتك وتلا ءاياتك وصدع بأمرك حتى أتاه اليقين، اللهم إنك قلت في كتابك لنبيك صلى الله عليه وسلم: {ولوْ أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوكَ فاستغفروا اللهَ واستغفرَ لهم الرسولُ لوجدوا اللهَ توابًا رحيمًا} [سورة النساء/64] وإني قد أتيت نبيك تائبًا مستغفرًا فأسألك أن توجب لي المغفرة كما أوجبتها لمن أتاه في حياته، اللهم إني أتوجه إليك بنبيك صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة، يا رسول الله إني أتوجه بك إلى ربي ليغفر لي ذنوبي، اللهم إني أسألك بحقه أن تغفر لي ذنوبي، اللهم اجعل محمدًا أوّل الشافعين وأنجح السائلين وأكرم الأولين والآخرين، اللهم كما ءامنا به ولم نره وصدقناه ولم نلقه فأدخلنا مدخله واحشرنا في زمرته وأوردنا حوضه واسقنا بكأسه مشربًا صافيًا رويًا سائغًا هنيًا لا نظمأ بعده أبدًا، غير خزايا ولا ناكثين ولا مارقين ولا مغضوبًا علينا ولا ضالين، واجعلنا من أهل شفاعته. ثم تقدم عن يمينك فقل: السلام عليك يا أبا بكر الصديق، السلام عليك يا عمر الفاروق، اللهم اجزهما عن نبيهما وعن الإسلام خيرًا، {ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذينَ سبقونا بالإيمان} [سورة الحشر/10] الآية، وتصلي بين القبر والمنبر في الروضة، وإن أحببت تمسّح بالمنبر وبالحنانة وهو الجذع الذي كان يخطب عليه صلى الله عليه وسلم فلما اعتزل عنه حنّ إليه كحنين الناقة. وتأتي مسجد قباء فتصلي لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصده فيصلي فيه، وإن أمكنك فأتِ قبور الشهداء وزرهم وأكثِر من الدعاء في تلك المشاهد حتى كأنك إلى مواقفهم، واصنع عند الخروج ما صنعت عند الدخول” اهـ.
وابن عقيل هذا من أساطين الحنابلة قال ابن تيمية عن كتابه عمدة الأدلة له إنه من الكتب المعتمدة في المذهب، ويقال عن كتابه المسمى بالفنون إنه في ثمانمائة مجلد.
وأخرج الطبراني في معجميه الكبير [7] والصغير [8] عن عثمان بن حُنيف أنّ رجلاً كان يختلف إلى عثمان بن عفان في حاجة له فكان عثمان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته، فلقي عثمان بن حُنيف فشكى ذلك إليه فقال له عثمان بن حنيف: ائت الميضأة فتوضأ ثم ائت المسجد فصل فيه ركعتين ثم قل: “اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بكَ إلى ربي عز وجل لتقضى لي حاجتي” وتذكر حاجتك ورح إليّ حتى أروح معك فانطلق الرجل فصنع ما قال عثمان له ثم أتى عثمان بن عفان، فجاء البواب حتى أخذه بيده فأدخله على عثمان بن عفان فأجلسه معه على الطنفسة وقال: ما حاجتك؟ فذكر حاجته فقضاها له ثم قال له: ما ذكرت حاجتك حتى كانت هذه الساعة وقال له: ما كان لك حاجة فأتنا، ثم إن الرجل خرج من عنده فلقي عثمان بن حنيف فقال له: جزاك الله خيرًا ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت حتى كلمته فيّ، فقال عثمان بن حنيف: والله ما كلمته ولكن شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتاه ضرير فشكا إليه ذهاب بصره فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: “أو تصبر” فقال: يا رسول الله إنه ليس لي قائد وقد شق عليّ، فقال له النبي: “ائت الميضأة فتوضأ ثم صلّ ركعتين ثم ادعُ بهذه الدعوات”، قال عثمان بن حنيف: فوالله ما تفرقنا وطال بنا الحديث حتى دخل علينا الرجل كأنه لم يكن به ضرٌّ قط. قال الطبراني: والحديث صحيح.
ففيه دليل على أن الأعمى توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم في غير حضرته، بل ذهب إلى الميضأة فتوضأ وصلى ودعا باللفظ الذي علمه رسول الله، ثم دخل على النبي صلى الله عليه وسلم والنبي لم يفارق مجلسه لقول راوي الحديث عثمان بن حنيف: والله ما تفرقنا وطال بنا المجلس حتى دخل علينا الرجل كأنه لم يكن به ضر قط [9].
وليس للوهابية جواب عن هذا الحديث، فإن الحديث يفيد ضد عقيدتهم يفيد أن الرسول علم الأعمى التوسل به بلفظ فيه “يا محمد” في غير حضرته صلى الله عليه وسلم، لأنه عليه السلام لا يجوز نداؤه مشافهة يا محمد، للنهي الذي ورد في القرءان عن ذلك، وهذا النداء أي نداء النبي بلفظ “يا محمد” في غير حضرته معروف عند الوهابية أنه شرك وكفر، هذه عقيدتهم تكفير من ينادي الرسول بهذا اللفظ ومن ينادي غيره من نبي أو ولي كقول: يا عبد القادر. ولا يظن ظانّ أن الأعمى قرأ هذا التوسل في وجه رسول الله لما عُلم من ثبوت النهي عن ذلك، وهذا دليل على ضيق دائرة اطلاعهم وأن تسميتهم لأنفسهم سلفيين خلاف الواقع والحقيقة.
فإن قيل: إن الطبراني لم يصحح بقوله: “والحديث صحيح” إلا الأصل وهو ما حصل بين النبي والأعمى ويسمى مرفوعًا، وأما ما حصل بين عثمان بن حنيف وذلك الرجل فلا يسمى حديثًا لأنه حصل بعد النبي صلى الله عليه وسلم وإنما يسمى موقوفًا.
فالجواب: أن علماء الحديث يطلقون الحديث على المرفوع والموقوف، وقد نصّ على ذلك غير واحد منهم كابن حجر العسقلاني [10] وابن الصلاح [11]، ففي كتاب فتاوى الرملي [12] ما نصه: “سئل عن تعريف الأثر فأجاب: إن تعريف الأثر عند المحدثين هو الحديث سواء أكان مرفوعًا أو موقوفًا وإن قصره بعض الفقهاء على الموقوف” اهـ. فدعوى الألباني وبعض تلامذته وحملهم قول الطبراني: “والحديث صحيح” على ما حصل للأعمى مع رسول الله دون ما حصل للرجل مع عثمان بن حنيف دعوى باطلة مخالفة لقواعد الاصطلاح.
فمن أين لناصر الدين الألباني أن يضعف هذه القصة بعد تصحيح الحافظ الطبراني لها وموافقة الحافظ المنذري في تصحيح الحديث، وكيف راج عنده ذلك مع أن الطبراني بدأ بذكر القصة أولاً ثم أورد المرفوع وهو توسل الأعمى، وهذا من الألباني خروج على أهل الحديث كعادته، أو لم يعلم أن أهل المصطلح قالوا: التصحيح والتضعيف من وظيفة الحافظ، وهو قد اعترف أنه ليس بحافظ، فليرجع أتباعه إلى كلام المحدثين في كتب المصطلح فيرتدعوا عن اتباعه في التجرؤ على التصحيح والتضعيف من قبل أنفسهم، مع أنهم يعرفون أنهم بعيدون من مرتبة الحفظ بعد الأرض من السماء.
قال الحافظ السيوطي في ألفية المصطلح:
وخُذه حيث حافظٌ عليه نص *** ومن مُصنفٍ بجمعه يُخص
أي أن الحديث الصحيح يعرف بنص إمام حافظ على صحته، وبوجوده في كتاب التزم مصنفه الحافظ أنه مقتصر فيه على الصحيح.
والألباني كأنه يرى أن الحديث لا يطلق إلا على المرفوع دون الموقوف وهو خلاف المقرر عند المحدثين، فليرجع إلى كتب المصطلح، وقد وقع ذلك للإمام أحمد فإنه سمى أثرًا لعمر حديثًا وذلك في الجبن الذي يعمله المجوس من الأنفحة الميتة.
قال المناوي [13] في حديث: “اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة” ما نصه: “قال ابن عبد السلام: ينبغي كونه مقصورًا على النبي صلى الله عليه وسلم وأن لا يقسم على الله بغيره من الأنبياء والملائكة والأولياء لأنهم ليسوا في درجته، وأن يكون مما خصّ به، قال السبكي: يحسن التوسل والاستعانة والتشفع بالنبي إلى ربه، ولم ينكر ذلك أحد من السلف ولا الخلف حتى جاء ابن تيمية فأنكر ذلك وعدل عن الصراط المستقيم وابتدع ما لم يقله عالم قبله وصار بين أهل الإسلام مُثلةً” اهـ.
وقول ابن تيمية ليس التوسل الواردُ في الحديث توسلاً بذات النبي بل بدعائه فهو دعوى باطلة، لأن التوسل نوعٌ من أنواع التبرك، الرسول ذاته مباركة وءاثاره أي شعرهُ وقلامة ظفره والماء الذي توضأ به ونُخامته وريقه مبارك، لأنّ الصحابة كانوا يتبركون بذلك كما ورد في الصحيح فكأنّ قول ابن تيمية هذا ينادي بأن الصحابة ما كانوا يعرفون الحقيقة بل كانوا جاهلين وما قاله مخالف للأصول، فإن
علماء الأصول لا يُسوغون التأويل إلا لدليل عقلي قاطع أو سمعي ثابت، وكلام ابن تيمية معناه أنه يجبُ تقدير محذوف فالحديث عنده يُقدر فيه محذوف فيكون التقدير على موجَب دعواه: اللهم إني أسألك وأتوجهُ إليك بدعاء نبينا، وكذلك يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي يلزمُ منه التقدير: إني أتوجه بدعائك إلى ربي، والأصل في النصوص عدمُ التقدير والتقديرُ لا يُصار إليه إلا لدليل وهذا المعروف عند علماء الأصول، فابن تيمية حُبب إليه الشذوذ وخَرقُ الإجماع من شدة إعجابه بنفسه، ومن فرطِ إعجابه بنفسه أنه ذكرت مسئلة نحويةٌ عنده فقيل له هكذا قال سيبويه فقال سيبويه يكذب، ومن ابنُ تيمية في النحو حتى يكذب إمام النحو لأنه خالف رأيه، وهذا خفيفٌ بالنسبة لتخطئة علي بن أبي طالب في سبع عشرة مسئلة، فلهذا انحرف عنه أبو حيان النحوي بعد أن كان يحبه وقد امتدحه بقصيدةٍ ثم لما رأى منه تكذيب سيبويه ورأى كتابه الذي سماه كتاب العرش الذي ذكر فيه أنّ الله قاعدٌ على الكرسي وأنه أخلى موضعًا للرسول ليقعده فيه زادت كراهيته له فصار يلعنه حتى مات، ذكر ذلك الحافظ محمد مرتضى الزبيدي، وأبو حيان إمامٌ في القراءات والنحو والتفسير. وقد وصف الذهبي ابن تيمية في رسالته “بيان زغلِ العلمِ والطلب” [14] بأنه أهلكه فرطُ الغرام في رئاسة المشيخة والازدراء بالأكابر وما قاله الذهبي صحيحٌ لأن ابن تيمية انتقص سيدنا عليًا بقوله إنّ حروبه ما نفعت المسلمين بل ضرتهم في دينهم ودنياهم، وبقوله إن القتال معه ليس بواجبٍ ولا مستحب، وابن تيمية يعلمُ أن الله تعالى قال: {يا أيُّها الذينَ ءامنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسولَ وأولي الأمرِ منكم} وعليّ داخلٌ في هذه الآية بلْ هو أولُ من امتثلَ الأمرَ الذي في هذه الآيةِ فقاتلَ من بغى عليه، وقد أجمع أهلُ السنةِ على أن عليًّا مصيبٌ في حروبهِ الثلاثةِ وقعةِ الجمل ووقعة صفين ووقعة النهروان، ويؤيدُ ذلك حديثُ رسول الله: “إن منكم من يُقاتل على تأويله كما قاتلتُ على تنزيله”، فقيل: من هو؟ فقال: “خاصفُ النعل”، وكان علي يخصفُ نعله. ففي هذا الحديث تصويب قتال علي وهذا الحديث صحيح ثابتٌ أخرجه ابن حبان وغيره [15]. ورسالةُ الذهبي بيان زغل العلم والطلب صحيحة النسبة إليه لأن الحافظ السخاوي نسبها للذهبي في كتابه “الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ” ونقل فيه بعض ما مر ذكرهُ من وصفهِ لابن تيمية بأنّ فرطَ الغرامِ في رئاسةِ المشيخةِ والازدراءِ بالأكابر أهلكه، فلا التفاتَ إلى مَن ينفي صحتها ونسبتها إلى الذهبي بلا دليلٍ بل ليرضي أتباع ابن تيمية الوهابية لأجلِ المال.
ومما يدل على جواز التوسل أيضًا ما رواه البخاري [16] ومسلم [17] عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “انطلق ثلاثة نفر ممن كان قبلكم حتى أواهم المبيت إلى غار فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، قال رجل منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران وكنت لا أغبق قبلهما أهلاً ولا مالاً، فنأى بي طلب الشجر يومًا فلم أُرح عليهما حتى ناما، فحلبت لهما غبوقهما [18] فوجدتهما نائمين فكرهت أن أوقظهما وأن أَغبق قبلهما أهلاً أو مالاً، فلبثت والقدح على يديّ أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر والصبية يتضاغون عند قدمي، فاستيقظا فشربا غبوقهما، اللهم إن كنتُ فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت شيئًا لا يستطيعون الخروج منه”، الحديث. فإذا كان التوسل بالعمل الصالح جائزًا فكيف لا يصحّ بالذوات الفاضلة كذوات الأنبياء، فهذا يكفي دليلاً لو لم يكن دليل سواه للتوسل بالأنبياء والأولياء.
ومن الدليل أيضًا على جواز التوسل بالأنبياء والصالحين حديث أبي سعيد الخدري الذي حسنه الحافظ ابن حجر في نتائج الأفكار [19] وغيره كما سيأتي بيان ذلك مفصلاً إن شاء الله تعالى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إذا خرج الرجل من بيته إلى الصلاة فقال: اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا، فإني لم أخرج أشرًا ولا بطرًا ولا رياءً ولا سمعة، خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك، أسألك أن تنقذني من النار وأن تغفر لي ذنوبي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، وكَّلَ الله به سبعين ألف ملك يستغفرون له، وأقبل الله عليه بوجهه [20]حتى يقضي صلاته”.
الهوامش:
[1] البداية والنهاية [7/91-92].
[2] فتح الباري شرح صحيح البخاري [2/495-496].
[3] البداية والنهاية [7/90].
[4] معناه كيت وكيت.
[5] طرح التثريب [3/303].
[6] شفاء السقام [ص/160].
[7] المعجم الكبير [9/17-18].
[8] المعجم الصغير [ص/201-202].
[9] المعجم الكبير للطبراني [9/17-18]، والمعجم الصغير [ص/201-202]، قال الطبراني: والحديث صحيح.
[10] تدريب الراوي [1/42].
[11] مقدمة ابن الصلاح في علوم الحديث [ص/22].
[12] فتاوى ابن الصلاح في علوم الحديث لابن حجر الهيتمي [4/371].
[13] فيض القدير [2/134].
[14] بيان زغل العلم والطلب [ص/17].
[15] أخرجه أحمد في مسنده [3/82]، والحاكم في المستدرك [3/122-123] وصححه ووافقه الذهبي على تصحيحه، وابن حبان في صحيحه، انظر الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان [9/46].
[16] صحيح البخاري: كتاب البيوع: باب إذا اشترى شيئًا لغيره بغير إذنه فرضي.
[17] صحيح مسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار: باب قصة أصحاب الغار الثلاثة، والتوسل بصالح الأعمال.
[18] الغَبوق: الطعام الذي يكون في النصف الأخير من النهار كالذي يؤكل العصر.
[19] نتائج الأفكار في تخريج أحاديث الأذكار [مخطوط].
[20] الإقبال بالوجه من الله تعالى ليس على ظاهره بل يؤول بمعنى الرضا عنه.