الخميس أكتوبر 31, 2024

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ

   الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الْمُنْفَرِدِ بِالأُلُوهِيَّةِ وَالْمَنْعُوتِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ الْمُنَزَّهِ عَنْ شَرِيكٍ فِي التَّخْلِيقِ وَالإِبْدَاعِ وَالْمُتَعَالِى عَنْ نَظِيرٍ فِى الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى الْمَبْعُوثِ لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَرَحْمَةً وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى ءَالِهِ وَصَحْبِهِ وَبَعْدُ فَإِنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَزَّ فَرَضَ مَعْرِفَتَهُ لِتَصِحَّ عِبَادَتُهُ فَمَنْ عَرَفَ مَا يَجِبُ لَهُ وَيَجُوزُ وَيَسْتَحِيلُ فِى حَقِّهِ فَقَدْ أَدَّى الْفَرْضَ وَمَنْ جَهِلَ ذَلِكَ فَتَذَلَّلَ غَايَةَ التَّذَلُّلِ لِغَيْرِ ذَاتِهِ وَلِمَنْ يَتَّصِفُ بِصِفَاتٍ غَيْرِ صِفَاتِهِ فَقَدْ عَبَدَ فِى الْوَاقِعِ غَيْرَ الْخَالِقِ تَقَدَّسَ وَتَعَالَى وَخَشَعَ لِغَيْرِ الإِلَهِ الْوَاحِدِ وَلَمْ يَصِحَّ فِى التَّوْحِيدِ عَقْدُهُ وَلا ثَبَتَتْ فِيهِ قَدَمُهُ، وَكَذَلِكَ مَنْ جَهِلَ مَا يَجِبُ لِرَسُولِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا يَجُوزُ فِى حَقِّهِ وَمَا يَسْتَحِيلُ فَنَسَبَهُ إِلَى مَا لا يَلِيقُ بِهِ وَوَصَفَهُ بِمَا يُنَاقِضُ نَعْتَهُ وَمَنْصِبَهُ فَقَدْ وَقَعَ فِى هُوَّةِ التَّلَفِ وَلَمْ يَنْفَعْهُ تَصْدِيقُهُ بِوُجُودِ الْخَالِقِ تَعَالَى مَعَ تَكْذِيبِهِ لِرَسُولِهِ الَّذِى أَرْسَلَهُ وَنَصَبَ الأَدِلَّةَ الْقَاطِعَةَ عَلَى وُجُوبِ تَصْدِيقِهِ إِذْ كَانَ تَكْذِيبُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ ذَلِكَ تَكْذِيبًا لِمَنْ بَعَثَهُ، فَلَمَّا كَانَتْ مَعْرِفَةُ اللَّهِ عَلَى مَا يَجِبُ وَمَعْرِفَةُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى هَذِهِ الْمَثَابَةِ وَالْجَهْلُ بِهِمَا عَلَى الدَّرَجَةِ الْمَوْصُوفَةِ مِنَ الْخُطُورَةِ قَامَ شَيْخُنَا الْمُتَكَلِّمُ الْفَقِيهُ الْمُحَدِّثُ اللُّغَوِىُّ عَبْدُ اللَّهِ بنُ مُحَمَّدٍ الْهَرَرِىُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِتَصْنِيفِ كِتَابِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ بَيَّنَ فِيهِ أُصُولَ الدِّينِ الْمُنْجِيَةَ بِتَحْرِيرٍ وَتَحْقِيقٍ وَإِتْقَانٍ وَضَبْطٍ وَسُهُولَةٍ وَسَلاسَةٍ وَعِبَارَاتٍ وَاضِحَةٍ يَسْهُلُ فَهْمُهَا لَيْسَ فِيهَا لُبْسٌ وَلا تَدْلِيسٌ وَلا مُدَاهَنَةٌ رَاعَى فِيهَا أَحْوَالَ أَهْلِ الْعَصْرِ وَأَفْهَامَهُمْ وَاعْتَبَرَ حَاجَاتِهِمْ وَمَا انْتَشَرَ مِنَ الْبِدَعِ بَيْنَ ظَهْرَانِيهِمْ ثُمَّ عَمِلَ لِهَذَا الْكِتَابِ شَرْحًا بَسَطَ فِيهِ الْبَيَانَ بَعْضَ الْبَسْطِ سَمَّاهُ الشَّرْحَ الْقَوِيمَ فَكَانَ كَاسْمِهِ إِيضَاحًا وَاسْتِقَامَةً فَرَأَيْتُ حَاجَةً لِحَلٍّ مُخْتَصَرٍ لِأَلْفَاظِ كِتَابِ الصِّرَاطِ يَكُونُ تَوْطِئَةً وَمُقَدِّمَةً لِلشَّرْحِ الْقَوِيمِ وَحَاوِيًا لِنُكَتٍ وَفَوَائِدَ لَمْ تُذْكَرْ فِيهِ، فَأَقْدَمْتُ عَلَى ذَلِكَ بَعْدَ تَرَدُّدٍ وَعَمِلْتُ شَرْحًا مُخْتَصَرًا مَمْزُوجًا بِالْمَتْنِ سَمَّيْتُهُ نُورَ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الْكَاشِفَ لِطَرِيقِ أَهْلِ النَّعِيمِ وَاللَّهُ تَعَالَى الْمَسْئُولُ أَنْ يَنْفَعَ بِهِ وَيَجْعَلَهُ خَالِصًا لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ إِنَّهُ كَرِيمٌ وَهَّابٌ فَقُلْتُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ أَبْتَدِئُ (بِسْمِ اللَّهِ) وَهُوَ عَلَمٌ لِلذَّاتِ الْمُقَدَّسِ أَىِ اسْمٌ دَالٌّ عَلَى الذَّاتِ الْمُسْتَحِقِّ لِنِهَايَةِ التَّعْظِيمِ وَغَايَةِ الْخُضُوعِ وَمَعْنَاهُ مَنْ لَهُ الإِلَهِيَّةُ وَهِىَ الْقُدْرَةُ عَلَى اخْتِرَاعِ الْجَوَاهِرِ وَالأَعْرَاضِ أَىِ الأَحْجَامِ وَصِفَاتِ الأَحْجَامِ أَىِ الْمُخْرِجُ لَهَا مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ (الرَّحْمٰنِ الرَّحيمِ) وَهُمَا اسْمَانِ لِلذَّاتِ الْمُقَدَّسِ الْمُتَّصِفِ بِالرَّحْمَةِ وَالأَوَّلُ مَعْنَاهُ الْكَثِيرُ الرَّحْمَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ فِى الدُّنْيَا وَلِلْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً فِى الآخِرَةِ وَأَمَّا الرَّحِيمُ فَمَعْنَاهُ الْكَثِيرُ الرَّحْمَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ.

   عُنْوَانُ هَذَا الْكِتَابِ (الصِّرَاطُ) وَهُوَ الطَّرِيقُ (الْمُسْتَقِيمُ) أَىِ الْقَوِيمُ فَيَكُونُ الْمُرَادُ أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ يُبَيِّنُ الطَّرِيقَ الْحَقَّ الَّذِى لا اعْوِجَاجَ فِيهِ.

(الْحَمْدُ) أَىِ الثَّنَاءُ بِاللِّسَانِ عَلَى الْجَمِيلِ الِاخْتِيَارِىِّ عَلَى جِهَةِ التَّبْجِيلِ وَالتَّعْظِيمِ مُسْتَحَقٌّ (لِلَّهِ) تَعَالَى أَىْ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُثْنَى عَلَيْهِ عَلَى نِعَمِهِ الَّتِى لا تُحْصَى الظَّاهِرَةِ مِنْهَا وَالْبَاطِنَةِ مِمَّا تَفَضَّلَ بِهِ عَلَى عِبَادِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَاجِبًا عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ (وَالصَّلاةُ) أَىِ التَّعْظِيمُ (وَالسَّلامُ) أَىِ الأَمَانُ (عَلَى رَسُولِ اللَّهِ) مُحَمَّدٍ وَهِىَ جُمْلَةٌ خَبَرِيَّةٌ لَفْظًا دُعَائِيَّةٌ مَعْنًى أَىِ اللَّهُمَّ زِدْ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعْظِيمًا وَأَمِّنْهُ مِمَّا يَخَافُ عَلَى أُمَّتِهِ.

   (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى) فِى سُورَةِ الْحَشْرِ (﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ﴾) أَىْ يَجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ يَتَّقِىَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَأَنْ يُرَاقِبَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِاسْتِدَامَةِ خَوْفٍ يَحْمِلُهُ عَلَى أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ وَاجْتِنَابِ الْمُحَرَّمَاتِ (وَ)يَنْبَغِى أَنْ يُحَاسِبَ نَفْسَهُ قَبْلَ أَنْ يُحَاسَبَ وَأَنْ يَتَفَكَّرَ فِى مَا يُعِدُّ وَيُقَدِّمُ لِآخِرَتِهِ الَّتِى يَنْفَعُ فِيهَا الْعَمَلُ الصَّالِحُ (قَالَ) سَيِّدُنَا (عَلِىُّ) بنُ أَبِى طَالِبٍ (رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَرَّمَ وَجْهَهُ) ارْتحَلَتِ الدُّنْيَا أَىْ سَارَتْ مُدْبِرَةً أَىْ إِلَى الِانْقِطَاعِ وَالزَّوَالِ وَارْتَحَلَتِ الآخِرَةُ مُقْبِلَةً وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَنُونَ فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الآخِرَةِ وَلا تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا (الْيَوْمَ) أَىْ فِى الدُّنْيَا (الْعَمَلُ) وَلا حِسَابَ أَىْ فَلَيْسَتْ دَارًا لَهُ[1] (وَغَدًا) أَىْ فِى الآخِرَةِ (الْحِسَابُ) أَىِ الْجَزَاءُ وَلا عَمَلٌ اﻫ فَلَيْسَتْ دَارًا لِلتَّكْلِيفِ (رَوَاهُ الْبُخاَرِىُّ فِى كِتَابِ الرِّقَاقِ) مِنَ الْجَامِعِ الْمُسْنَدِ لَهُ الْمَعْرُوفِ بِاسْمِ صَحِيحِ الْبُخَارِىِّ.

(1) أَىْ أَنَّ أَغْلَبَ الْجَزَاءِ عَلَى الْعَمَلِ لا يَكُونُ فِى الدُّنْيَا.