الجمعة يوليو 26, 2024

الفصل الرابع:
في بيان ما يفترى على سيدنا لوط
عليه السلام

الرد على من زعم أن سيدنا لوطا عرض بناته للزنا

قال الله تعالى في القرآن: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79) قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آَوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود: 77 – 80].

وهنا ينبغي التنبه إلى معنى كلام سيدنا لوط عليه السلام، حتى لا يتوهم متوهم أنه يُؤَيّد ويوافق ما في بعض الكتب الـمُضلّلة من أنه عَرَضَ بناته على أولئك الرجال من قومه وقال لهم: افعلوا بهنَّ ما شئتم، فإن هذا لا يُتصوّر من نبيّ منهجه ومسلكه هداية الناس وإرشادهم إلى أسباب الخير والصلاح، فالأنبياء هم صفوة العباد اجتباهم الله وزيّنهم بأفضل الصفات وأحسن الأخلاق فلا يقع أحدهم بما يؤدي إلى الطعن في عرضه أو الغَمز في شرفه ومروءته.

وقد حكى القرطبيّ في تفسيره الحادثة بأكملها فقال: «كان سبب إسراعهم – أي: الكَفَرَة – ما روي أن امرأة لوط الكافرة لـمَّا رأت الأضياف وجمالهم وهيئتهم، خرجت حتى أتت مجالس قومها، فقالت لهم: إن لوطًا قد أضاف الليلة فتية ما رُئِيَ مثلهم جمالًا، وكذا وكذا، فحينئذٍ جاؤوا يُهْرَعون إليه. ويذكر أن الرسل لـمَّا وصلوا إلى بلد لوط وجدوا لوطًا في حرث له. وقيل: وجدوا ابنته تستقي ماء من نهر سَدُوْم، فسألوها الدلالة على مَن يضيفهم، ورأت هيئتهم فخافت عليهم من قوم لوط، وقالت لهم: مكانَكُم، وذهبت إلى أبيها فأخبرَتْهُ، فخرج إليهم، فقالوا: نريد أن تضيفنا الليلة، فقال لهم: أو ما سمعتم بعمل هؤلاء القوم؟ فقالوا: وما عملهم؟ فقال: «أشهد بالله إنهم لشرُّ قوم في الأرض»، وقد كان الله عزَّ وجلَّ قال لملائكته: «لا تعذبوهم حتى يشهد لوط عليهم أربع شهادات»، فلمَّا قال لوط هذه المقالة، قال جبريل لأصحابه: هذه واحدة، وتردد القول بينهم حتى كرَّر لوط الشهادة أربع مرات، ثم دخل بهم المدينة.

وقوله تعالى: {وَمِن قَبْلُ}، أي: ومن قبل مجيء الرسل. وقيل: من قبل لوط عليه السلام {كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ}، أي: كانت عادتهم إتيان الرجال، فلمَّا جاؤوا إلى لوط وقصدوا أضيافه قام إليهم لوط مدافعًا، وقال: {هَؤُلَاءَ بَنَاتِي} ابتداء وخبر، وقد اختلف في قوله: {هَؤُلَاءِ بَنَاتِي} فقيل: كان له ثلاث بنات من صلبه وقيل: بنتان، زيتا وزعوراء، فقيل: كان لهم سيدان مطاعان فأراد أن يزوجهما ابنتيه. وقيل: ندبهم في هذه الحالة إلى النكاح، وكانت شريعة لوط جواز نكاح الكافر المؤمنة، وقد كان هذا في أول شريعة محمد ﷺ جائزًا ثم نسخ، فزوَّج رسول الله ﷺ بنتًا له من عُتْبَةَ بن أبي لهب([1])، والأخرى من أبي العاص بن الربيع([2]) قبل الوحي، وكانا كافرين.

وقالت فرقة – منهم مجاهد وسعيد بن جبير([3]) -: أشار بقوله إخبارًا عن سيدنا لوط: {بَنَاتِي} إلى النساء جملة، إذ نبيُّ القوم أب لهم، ويقوّي هذا أن قراءة ابن مسعود([4]): {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } [الأحزاب: 6] فهو أب لهم. وقول الله تعالى: {هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} ابتداء وخبر: أي: أزوّجكموهن، فهو أطهر لكم مما تريديون؛ أي: أحلّ. والتطهر التنزه عما لا يحل وقال ابن عباس: كان رؤساؤهم خطبوا بناته فلم يجبهم، وأراد ذلك اليوم أن يفدي أضيافه ببناته. وليس أَلِفُ {أطْهَرُ} للتفضيل حتى يتوهم أن في نكاح الرجال طهارة؛ بل هو كقولك: الله أكبرُ وأعلى وأَجَلّ وإن لم يكن تفضيل، وهذا جائز شائع في كلام العرب، ولم يكابر الله تعالى أحد حتى يكون الله تعالى أكبر منه. وقد قال أبو سفيان ابن حرب يوم أُحُد([5]): اُعل هُبَل، اُعل هُبَل، فقال النبيّ ﷺ لعمر: «قل: الله أعلى وأجلُّ». وهبل لم يكن قط عاليًا ولا جليلًا. وقوله تعالى: {قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ} فوجه الكلام أنه ليس لنا إلى بناتك تعلق، ولا هن قصدنا، ولا لنا عادة نطلب ذلك، {وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} إشارة إلى الأضياف»([6]).اهـ. وقال القرطبي أيضًا في تفسير آية الحجر: {قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ} [الحجر: 71]: «أي: فتزوَّجوهنَّ ولا تركنوا إلى الحرام»([7]).اهـ.

فثبت أن سيدنا لوطًا عليه السلام لم يعرض بناته للزنا كما قد يظن بعض الجهال، حاشاه من ذلك. ومن وصفه بهذا الفعل الشنيع فقد أعظم الفِرْيَةَ عليه.

[1])) عُتْبَةُ بن أبي لهب، واسم أبي لهب عبد العُزَّى بن عبد المطلب القرش الهاشمي، وهو ابن عم النبي ﷺ، وأمه أم جميل بنت حَرْب بن أمية أخت أبي سفيان وهي حمالة الحطب. أسلم هو وأخوه مُعَتّب يوم الفتح وكانا قد هربا من النبي ﷺ فبعث النبي ﷺ العباس بن عبد المطلب عمهما إليهما فأتى بهما فأسلما فسر رسول الله ﷺ بإسلامهما، وشهدا مع رسول الله ﷺ حُنَيْنًا وكانا ممن ثبت ولم ينهزم، وشهدا الطائف ولم يخرجا عن مكة ولم يأتيا المدينة، ولهما عقب. أسد الغابة، ابن الأثير، (3/562).

[2])) أبو العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس بن عبد مناف بن قُصَيّ القرشي العَبْشَمِيّ. صهر رسول الله ﷺ على ابنته زينب أكبر بناته، وأمه هالة بنت خويلد أخت خديجة لأبيها وأمها قاله أبو عمر. وقال ابن منده وأبو نعيم: «اسمها هند».اهـ. فهو ابن خالة أولاد رسول الله ﷺ من خديجة. واختلف في اسمه فقيل: لَقِيْط. وقيل: هُشَيْم. وقيل: مهشم. والأكثر لقيط. أسد الغابة، ابن الأثير، (5/185).

[3])) سعيد بن جبير الأسديّ بالولاء، الكوفيّ (ت95هـ)، أبو عبد الله، تابعيّ، كان أعلم التابعين، وهو حبشيّ الأصل. أخذ العلم عن عبد الله بن عباس وابن عمر رضي الله عنهم. ثم كان ابن عباس إذا أتاه أهل الكوفة يستفتونه، قال: «أتسألونني وفيكم ابن أم دهماء».اهـ. يعني: سعيدًا. قال الإمام أحمد بن حنبل: «قتل الحجاجُ سعيدًا وما على وجه الأرض أحد إلا وهو مفتقر إلى علمه».اهـ. وفيات الأعيان، ابن خلكان (1/204). طبقات ابن سعد، ابن سعد، (6/178). الأعلام، الزركلي، (3/93).

[4])) عبد الله بن مسعود بن غافل بن حبيب الهذليّ (ت32هـ)، أبو عبد الرحمن صحابيّ من أكابرهم فضلًا وعقلًا وقربًا من رسول الله ﷺ، كان من السابقين الأولين، ومن النجباء العالمين، شهد بدرًا وهاجر الهجرتين، وكان يوم اليرموك على النفل، ومناقبه غزيرة، روى علمًا كثيرًا. حدّث عنه أبو موسى وأبو هريرة وابن عباس وابن عمر وغيرهم، وهو من أهل مكة ومن السابقين إلى الإسلام وأول من جهر بقراءة القرآن بمكة. وكان خادم رسول الله الأمين وصاحب سره ورفيقه في حله وترحاله وغزواته، له 848 حديثًا. سير أعلام النبلاء، الذهبيّ، (1/461، 499). الأعلام، الزركلي، (4/137).

[5])) الكامل في التاريخ، ابن الأثير، (1/297).

[6])) الجامع لأحكام القرآن، القرطبيّ، (9/73 – 78).

[7])) الجامع لأحكام القرآن، القرطبيّ، (10/39).