الجمعة نوفمبر 8, 2024

العارف بالله الشيخ عبد القادر الجيلاني


ترجمته:
هو السيد الشريف الشيخ محيي الدين أبو محمد عبد القادر بن أبي صالح موسى بن أبي عبد الله بن يحيى الزاهد بن محمد بن داود بن موسى بن عبد الله بن موسى الجون بن عبد الله المحض بن الحسن المثنى بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضوان الله تعالى عليهم.

وذكر أبو الفضل أحمد بن صالح الجيلي أم مولد الشيخ محيي الدين المذكور سنة إحدى وسبعين وأربعمائة، وأنه دخل بغداد سنة ثمان وثمانين وأربع مائة وله ثماني عشرة سنة.

وذكر بعضهم أنه منسوب إلى جيل بكسر الجيم وهي بلاد متفرقة وراء طبرستان، وبها ولد. ويقال لها أيضًا جيلان وكيلان. وكيل أيضًا قرية على شاطئ دجلة على مسيرة يوم من بغداد من جهة طريق واسط.

أما صفة الشيخ رضي الله عنه فروي أنه كان نحيف البدن ربع القامة، عريض الصدر، عريض اللحية وطويلها، أسمر مقرون الحاجبين [أي متصل الحاجبين]، أدعج العينين [أي أسود العينين مع سعهما]، ذا صوت جهوري وسَمْت بهي [أي هيئة حسنة]، وقدر علي رضي الله عنه.


مناقبه:
من القصص التي تظهر أبواب الشيطان وتمويهاته، وتبين أهمية تعلم العقيدة الإسلامية والتسلح بها في مواجهة وساوس الشيطان وتلبيساته، ما رواه ابن العماد في “شذرات الذهب” ومفاده أن الشيخ موسى روى عن والده الشيخ عبد القادر الجيلاني أنه خرج في بعض سياحاته إلى البرية فمكث أيامًا لا يجد ماء حتى اشتد به العطش، فأظلته سحابة ونزل عليه منها شيء يشبه الندى، فحاول الشيطان أن يغويه فموه على عيني الشيخ فرأى في الأفق نورًا قويًا وصورة عظيمة، وناداه الشيطان بقوله: يا عبد القادر أنا ربك وقد أحببت لك المحرمات، فقال الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، اخسأ يا لعين، فإذا بالنور قد صار ظلامًا والصورة دخانًا، ثم خاطبه الشيطان قائلاً: يا عبد القادر نجوت مني بعلمك، وقد أضللتُ بهذه الواقعة سبعين من أهل الطريق.

لقد كانت هذه القصة مصداقًا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: “فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد”، إذ أن العلم بالله هو الذي جعل الشيخ الديلاني يعلم أن هذه الصورة وهذا الضوء وهذا الكلام المخلوق الذي سمعه من صفات المخلوقات التي تستحيل على الله الذي ليس كمثله شيء.


علمه ومشايخه:
قال بعض الأئمة المتكلمين في مناقبه: لما علم أن طلب العلم على كل مسلم فريضة، وأنه شفاء للأنفس المريضة، إذ هو أوضح مناهج التقوى سبيلاً، وأبلغها حجة وأظهرها دليلاً، وأرفع معارج اليقين وأعلى مدارج المتقين وأعظم مناصب الدين وأفخر مراتب المهتدين، شمّر عن ساق الجد والاجتهاد في تحصيله، وسارع في طلب فروعه وأصوله وقصد الأشياخ الأئمة أعلام الهدى علماء الأمة فاشتغل بالقرءان العظيم حتى أتقنه وعمّر بدرايته سرّه وعلنه، وتفقه بالشيوخ منهم: أبو الوفاء علي بن عقيل، وأبو الخطاب محفوظ بن أحمد الكلوذاني، وأبو الحسين محمد بن القاضي أبي يعلى، وأبو سعد المبارك بن علي المخزومي رضي الله عنهم، وأخذ عنهم مذهبًا وخلافًا وفروعًا وأصولاً.


مجاهدته وسيرته:
كان رضي الله عنه يلبس لباس العلماء، ويركب البغلة ويتكلم على كرسي عال وربما خطا في الهواء على رءوس الناس ثم يرجع إلى الكرسي. وكان يقول: قاسيت الأهوال في بدايتي فما تركت هولاً إلا ركبته وكان لباسي جبة صوف وعلى رأسي خريقة وكنت أقتات بخرنوب الشوك وورق الخس من شاطئ النهر ولم أزل ءاخذ نفسي بالمجاهدات حتى طرقني من الله تعالى الحال [الحال عند أهل الحق معنًى يَرِدُ على القلب من غير تصنع ولا اجتلال ولا اكتساب من طرب أو حزن أو قبض أو بسط أو هيئة ويزول بظهور صفات النفس، فالأحوال مواهب، والمقامات مكاسب]، فإذا طرقني صرخت وهمت على وجهي سواء كنت في صحراء أو بين الناس”.

وكان من أخلاقه أن يقف مع جلالة قدره مع الصغير والجارية ويجالس الفقراء ويفلي لهم ثيابهم وكان لا يقوم قد لأحد من العظماء ولا أعيان الدولة وما ألمّ قد بباب وزير ولا سلطان. وكان رضي الله عنه يقول: أقمت في صحراء العراق وخرابه خمسًا وعشرين سنة مجردًا سائحًا لا أعرف الخلق ولا يعرفونني يأتيني طوائف من رجال الغيب والجان أعلمهم الطريق إلى الله عز وجل، ورافقني الخضر عليه السلام في أول دخولي العراق وما كنت عرفته وشرط أن لا أخالفه وقال لي: اقعد هنا فجلست في الموضع الذي أقعدني فيه ثلاث سنين يأتيني كل سنة مرة ويقول لي: مكانك حتى ءاتيك. ذكر ذلك الشعراني في طبقاته.


من أقواله في التحذير من أهل الضلال:
يقول رضي الله عنه هناك طائفة ضلوا في تيه التمويه ووقعوا في التجسيم والتشبيه، الذين أهلكهم الشقاء حتى ابتلى أخيارهم، وأولئك الذين لعنهم الله فأصمَّهم وأعمى أبصارهم. ومنهم فرقة حاروا في أضاليل التعطيل [أي نفى صفات الله]. ومنهم عصابة هلكوا بأباطيل الحلول [أي القول بأن الله يحل في الأجساد]، وأغرقوا فأدخلوا نارًا، فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارًا. ويقول في التنزيه إن الله لم ينتقل إلى مكان، ولم يتغير عما عليه كان.


ذكر بعض كراماته:
جاء رجل من أهل بغداد وذكر أن له بنتًا قد اختطفت من سطح داره وهي بكر فقال له الشيخ عبد القادر رضي الله عنه: اذهب هذه الليلة إلى خراب الكرخ واجلس عند التل الخامس وخط عليك دائرة في الأرض وقل وأنت تخطها: بسم الله، على نية عبد القادر، فإذا كانت فحمة العشاء مرت بك طوائف الجن على صور شتى فلا يرعك منظرهم فإذا كان السَّحَر مر بك ملكهم في جحفل منهم فيسألك عن حاجتك فقل له: بعثني إليك الشيخ عبد القادر رضي الله عنه، فمرت بي صور مزعجة المنظر ولم يقدر أحد منهم أن يمر على الدائرة التي أنا فيها وما زالوا يمرون زمرًا زمرًا إلى أن جاء ملكهم راكبًا فرسًا وبين يديه أمم منهم فوقف بإزاء الدائرة وقال: يا إنسي ما حاجتك فقلت له: قد بعثني إليك الشيخ عبد القادر فنزل عن فرسه وقبَّل الأرض وجلس خارج الدائرة وجلس من معه ثم قال: ما شأنك فذكرت له قصة ابنتي فقال من حوله: عليَّ بمن فعل هذا، فأتاني بمارد ومعه بنتي فقيل له إن هذا مارد شيطان من مردة الصين فقال له: ما حملك على أن اختطفت هذه من تحت ركاب القطب فقال: إنها وقعت في نفسي، فأمر به فضربت عنقه، وأعطاني ابنتي فقلت: ما رأيت مثل الليلة من امتثالك أمر الشيخ عبد القادر. فقال: نعم إنه في داره ينظر إلى مردة الجن وهم بأقصى الأرض فيفرون من هيبته، وإن الله تعالى إذا أقام قطبًا مكنه من الجن والإنس [كذا في حياة الحيوان للدميري في حرف الجيم عند الكلام على الجن].


من حكمه ومواعظه:
يقول رضي الله عنه يا قوم عليكم بأعمال القلوب وإخلاصها. معرفة الله عز وجل هي الأصل ما أرى أكثركم إلا كذابين في الأقوال والأفعال في الخلوات والجلوات. ما لكم إثبات، لكم أقوال بلا أفعال، وأفعال بلا إخلاص. انفوا ثم اثبتوا، انفوا عنه ما لا يليق به، وهو ما رضيه لنفسه وعلّمنا إياه رسوله صلى الله عليه وسلم.

دنياكم قد أعمت قلوبكم فما تبصرون بها شيئًا، احذروا منها فهي تمكنكم من نفسها تارة بعد أخرى حتى تدرجكم وفي الأخيرة تذبحكم، تسقيكم من شرابها وبنجها ثم تقطع أيديكم وأرجلكم وتسمل أعينكم فإذا ذهب البنج وجاءت الإفاقة رأيتم ما صنعت بكم، هذا عاقبة حب الدنيا والعدو خلفها والحرص عليها وعلى جمعها، هذا فعلها فاحذروا منها.

يا غلام: اشتغل بنفسك، انفع نفسك ثم غيرك، لا تكن كالشمعة تحرق هي نفسها وتضىء لغيرها.


ذكر وفاته رضي الله عنه:
استوصى عبد الوهاب والده الشيخ رضي الله عنه في مرض موته فقال: عليك بتقوى الله وطاعته، ولا تخف أحدًا ولا ترجه، وكِل الحوائج كلها إلى الله عز وجل، واطلبها منه، ولا تعتمد إلا عليه سبحانه، التوحيد، التوحيد، التوحيد وجماع الكل التوحيد.

كانت وفاته رضي الله عنه في بغداد سنة خمسمائة وإحدى وستين للهجرة، ودفن فيها وقبره معروف ويزال ويتبرك به.