الجمعة نوفمبر 8, 2024

هذه الرواية من أشهر ما تُكُلِمَ بها على صحيح مسلم:

فقد أخرج مسلم ، الجزء الرابع، كتاب فضائل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، باب من فضائل أبي سفيان بن حرب، رضي الله عنه : حدثني عباس بن عبد العظيم العنبري وأحمد ابن جعفر المعقري. قالا: حدثنا النضر (وهو ابن محمد اليمامي). حدثنا عكرمة. حدثنا أبو زميل. حدثني ابن عباس قال:

كان المسلمون لا ينظرون إلى أبي سفيان ولا يقاعدونه. فقال للنبي صلى الله عليه وسلم : يا نبي الله! ثلاث أعطنيهن. قال «نعم » قال: عندي أحسن العرب وأجمله، أم حبيبة بنت أبي سفيان، أزوجكها. قال «نعم » قال: ومعاوية، تجعله كاتبا بين يديك. قال «نعم ». قال: وتؤمرني حتى أقاتل الكفار، كما كنت أقاتل المسلمين. قال «نعم ». قال أبو زميل: ولولا أنه طلب ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم ، ما أعطاه ذلك. لأنه لم يكن يسئل شيئا إلا قال «نعم» اهـ.

قال النووي في شرح صحيح مسلم [(263)]، تتمة كتاب فضائل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، باب من فضائل أبي سفيان بن حرب رضي الله عنه:

واعلم أن هذا الحديث من الأحاديث المشهورة بالإشكال، ووجه الإشكال أن أبا سفيان إنما أسلم يوم فتح مكة سنة ثمان من الهجرة وهذا مشهور لا خلاف فيه، وكان النبي – صلى الله عليه وسلم – قد تزوج أم حبيبة قبل ذلك بزمان طويل. قال أبو عبيدة وخليفة ابن خياط وابن البرقي والجمهور: تزوجها سنة ست. وقيل: سنة سبع. قال القاضي عياض: واختلفوا أين تزوجها؟ فقيل: بالمدينة بعد قدومها من الحبشة. وقال الجمهور: بأرض الحبشة. قال: واختلفوا فيمن عقد له عليها هناك؟ فقيل: عثمان. وقيل: خالد بن سعيد بن العاصي بإذنها. وقيل: النجاشي لأنه كان أمير الموضع وسلطانه. قال القاضي: والذي في (مسلم) هنا أنه زوجها أبو سفيان غريب جدًا وخبرها مع أبي سفيان حين ورد المدينة في حال كفره مشهور ولم يزد القاضي على هذا.

وقال ابن حزم: هذا الحديث وهم من بعض الرواة لأنه لا خلاف بين الناس أن النبي – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – تزوج أم حبيبة قبل الفتح بدهر، وهي بأرض الحبشة، وأبوها كافر. وفي رواية عن ابن حزم أيضًا أنه قال: موضوع، قال: والآفة فيه من عكرمة بن عمار الراوي عن أبي زميل، وأنكر الشيخ أبو عمرو ابن الصلاح – رحمه اللَّه – هذا على ابن حزم وبالغ في الشناعة عليه. قال: وهذا القول من جسارته فإنه كان هجومًا على تخطئة الأئمة الكبار وإطلاق اللسان فيهم. قال: ولا نعلم أحدًا من أئمة الحديث نسب عكرمة بن عمار إلى وضع الحديث، وقد وثقه وكيع ويحيى بن معين وغيرهما، وكان مستجاب الدعوة.

قال: وما توهمه ابن حزم من منافاة هذا الحديث لتقدم زواجها غلط منه وغفلة، لأنه يحتمل أنه سأله تجديد عقد النكاح تطييبًا لقلبه لأنه كان ربما يرى عليها غضاضة من رياسته ونسبه أن تزوج بنته بغير رضاه أو أنه ظن أن إسلام الأب في مثل هذا يقتضي تجديد العقد.

وقد خفي أوضح من هذا على أكبر مرتبة من أبي سفيان ممن كثر علمه وطالت صحبته، هذا كلام أبي عمرو رحمه الله. وليس في الحديث أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جدد العقد، ولا قال لأبي سفيان أنه يحتاج إلى تجديده فلعله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أراد بقوله: نعم، أن مقصودك يحصل وإن لم يكن بحقيقة عقد، والله أعلم اهـ. كلام النووي.

وقال الحافظ البيهقي في سننه الكبرى[(264)]:

فهذا أحد ما اختلف فيه البخاري ومسلم بن الحجاج، فأخرجه مسلم وتركه البخارى وكان لا يحتج فى كتابه الصحيح بعكرمة بن عمار، وقال: لم يكن عنده كتاب فاضطرب حديثه. قال الشيخ رحمه الله: وهذا الحديث فى قصة أم حبيبة رضي الله عنها قد أجمع أهل المغازي على خلافه فإنهم لم يختلفوا في أن تزويج أم حبيبة رضي الله عنها كان قبل رجوع جعفر بن أبي طالب وأصحابه من أرض الحبشة، وإنما رجعوا زمن خيبر، فتزويج أم حبيبة كان قبله وإسلام أبي سفيان بن حرب كان زمن الفتح فتح مكة بعد نكاحها بسنتين أو ثلاث، فكيف يصح أن يكون تزويجها بمسألته وإن كانت مسألته الأولى إياه وقعت فى بعض خرجاته إلى المدينة وهو كافر حين سمع نعى زوج أم حبيبة بأرض الحبشة والمسألة الثانية والثالثة وقعتا بعد إسلامه لا يحتمل إن كان الحديث محفوظا إلا ذلك والله تعالى أعلم اهـ.

وقال الحافظ الذهبي: في سير أعلام النبلاء: المجلد السابع،[تابع: الطبقة السادسة من التابعين]، عكرمة ابن عمار، أبو عمار العجلي:

قد ساق له مسلم في الأصول حديثا منكرا، وهو الذي يرويه عن سماك الحنفي، عن ابن عباس، في الأمور الثلاثة التي التمسها أبو سفيان من النبي صلى الله عليه وسلم اهـ.

وممن تعرّض لهذا الحديث بالنقد ابن قيم الجوزية تلميذ ابن تيمية وهما منتقدان عند من اطلع على فسادهما من أهل السنة والجماعة، فقال – موافقًا أهل السنة والجماعة في هذه المسألة – في كتابه «جلاءِ الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام»[(265)]، وتوسّع بنقل أجوبةِ طوائفِ العلماء فيه، وقد بلَغَتْ نحو عشرة أجوبة. ثم ناقشها جوابًا جوابًا، ثم قال: «فالصوابُ أن الحديث غير محفوظ. بل وقع فيه تخليط، والله أعلم». وقال في حاشيته على سنن أبي داود[(266)]: «وهذه التأويلات في غاية الفساد والبطلان، وأئمة الحديث والعلم لا يرضون بأمثالها، ولا يصححون أغلاط الرواة بمثل هذه الخيالات الفاسدة والتأويلات الباردة، التي يكفي في العلم بفسادها: تصورها وتأمل الحديث».

ـ[263]   شرح صحيح مسلم (16/63 – 64)، دار الفكر – بيروت، 1402هـ.

ـ[264]   السنن الكبرى (7/140).

ـ[265]   جلاءِ الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام (ص/159 – 168).

ـ[266] سنن أبي داود (6/76).