الخميس نوفمبر 21, 2024

الْمُقَدِّمُ الْمُؤَخِّرُ: هوَ المنزِلُ للأشياءِ منازلَها يقدِمُ ما يشاءُ منها ويؤخرُ ما يشاءُ بحكمتهِ وفي الحديثِ أَنَّ رسولَ اللهِ قالَ: ((أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ([1]))). فاللهُ تعالى هوَ الذي يُقدِّمُ ما يشاءُ ويُؤخِّرُ ما يشاءُ سبحانَه، فمخلوقاتُ اللهِ تعالى يجوزُ عليها مِنْ حيثُ العقلُ ما يجوزُ على بعضٍ، ولكنَّ اللهَ قَدَّمَ ما شاءَ وأَخَّرَ ما شاءَ سبحانَه فهوَ الذي جعلَ السماءَ فوقَ الأرضِ وجعلَ العرشَ سقفًا للجنةِ وجعلَ محلَّ جهنمَ الآنَ تحتَ الأرضِ السابعةِ، وجعلَ الأنبياءَ مفضلينَ على بعضٍ في الدرجاتِ، فَفَضَّلَ سيدَنا محمَّدًا عليهم وخصَّه بالوسيلةِ والفضيلةِ والدرجةِ العاليةِ الرفيعةِ مِنَ الجنةِ ورفعَ لهُ ذكرَه في الأرضِ والسماءِ، حيثُ قالَ اللهُ تعالى:  ﱡﭐ ([2])، فقدَّمَ اللهُ تعالى محمَّدًا على أنبيائِه في الحشرِ يومَ الدينِ وفي الدنيا وخصَّهُ بمراتبَ عظيمةٍ فهوَ أوَّلُ مَنْ يخرجُ مِنْ قبرِه وهوَ أوَّلُ مَنْ يدخلُ الجنةَ وهوَ أوَّلُ مَنْ يُكْسَى في الجنةِ مِنْ حُلَلِ أهلِ الجنةِ وهوَ صاحبُ الحوضِ المورودِ والمقامِ المحمودِ وهوَ صاحبُ لواءِ الحمدِ يومَ الدينِ وقائدُ الغرِّ المحجلينَ ، فسبحانَ اللهِ الْمُقَدِّمِ الْمُؤَخِّرِ.  ثُمَّ إِنَّ النَّبيَّ عليهِ الصَّلاةُ والسّلامُ هوَ أوَّلُ مَنْ يَشفعُ وأوَّلُ مَنْ تُقبَلُ شفاعَتُهُ([3])، وهوَ يختصَّ بالشّفاعَةِ العُظمَى، وقد سُمِّيتْ بذلكَ لأنَّها لا تختصُّ بأمَّتِهِ فقطْ بلْ ينتفعُ بها غيرُ أمَّتِهِ مِنَ المؤمنينَ، وهيَ لتخليصِهم مِنَ الاستمرارِ في حَرِّ الشّمسِ في الموقِفِ، فَسُبْحَانَ المقَدِّمِ المؤَخِّرِ. وقدْ فضَّلَ اللهُ تعالى مدينةَ رسولِ اللهِ على باقي البلادِ على قولِ بعضِ الفقهاءِ، وبعضُهم فضَّلَ مكةَ المكرمةَ على المدينةِ المنورةِ، أما مدينةُ رسولِ اللهِ الكريمِ ، فهيَ طيبةُ الطيّبةُ مهبطُ الوحيِ ومُتَنَزَّلُ جبريلَ الأمينِ على الرسولِ الكريمِ ﷺ، وهيَ مأرزُ الإيمانِ وملتقى المهاجرينَ والأنصارِ، وموطنُ الذينَ تبوأوا الدارَ والإيمانَ، وهيَ العاصمةُ الأولى للمسلمينَ، فيها عُقِدَتِ الألويةُ في سبيلِ اللهِ، فانطلقتْ كتائبُ الحقِّ لإخراجِ الناسِ مِنَ الظلماتِ إلى النورِ، ومنها شعَّ النورُ فأشرقتِ الأرضُ بنورِ الهدايَةِ، وهيَ دارُ هجرةِ المصطفى ﷺ، إليهَا هاجرَ وفيها عاشَ ءاخرَ حياتِهِ، وبها ماتَ وفيها دُفِنَ، ومنها يبعثُ ، وقبرُه أوَّلُ القبورِ انشقاقًا عَنْ صاحبِه، وهذهِ المدينةُ المباركةُ شَرَّفَها اللهُ وفَضَّلَها وجعَلَها خيرَ البقاعِ بعدَ مكةَ([4])، ويدلُّ على تفضيلِ مكةَ على المدينةِ قولُ الرسولِ الكريمِ ﷺ، لما أخرجَه الكفارُ منها واتَّجَهَ إلى المدينةِ مهاجِرًا قالَ مخاطِبًا مكةَ: ((وَالله إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ الله وَأَحَبُّ أَرْضِ الله إِلَى اللهِ وَلَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ([5]))) ، فَسُبْحَانَ اللهِ المقَدِّمِ المؤَخِّرِ.

فاللهُ تَعَالَى هُوَ الْمُقَدِّمُ وَهُوَ الْمُؤَخِّرُ سُبْحَانَهُ هوَ الذي جعلَ أبا جهلٍ وأبا لهبٍ وفرعونَ وهامانَ وقارونَ في أسفلِ الدركاتِ، وجعلَ أبا بكرٍ الصديقَ أفضلَ البشرِ بعدَ الأنبياءِ، فأبو بكرٍ  سمعَ دعاءَ محمَّدٍ لهُ بالإسلامِ فآمنَ باللهِ ورسولِه فورًا بلَا ترددٍ، فقدَّمَه اللهُ على كلِّ أولياءِ البشرِ، وأبو جهلٍ دعاهُ رسولُ اللهُ كثيرًا فلمْ يَشَإِ اللهُ لهُ الهدايةَ، فبقيَ على كفرِه لآخرِ لحظةٍ مِنْ عمرِه، فكانَ في أسفلِ الدرجاتِ، فَسُبْحَانَ اللهِ الْمُقَدِّمِ الْمُؤَخِّرِ.

فَائِدَةٌ : عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ  عَنِ النَّبِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاءِ: ((اللهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي جِدِّي وَهَزْلِي وَخَطَئِي وَعَمْدِي وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَىءٍ قَدِيرٌ ([6]).(( وعَنْ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ  قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلاةِ ءَاخِرَ مَا يَقُولُ بَيْنَ التَّشَهُّدِ وَالتَّسْلِيمِ: ))اللهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ وَمَا أَسْرَفْتُ وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ([7])))

دُعَاءٌ: اللَّهُمَّ يَا مُقَدِّمُ يَا مُؤَخِّرُ اجْعَلْنَا مِنَ الذينَ يَدْخُلُوْنَ الجَنَّةَ مَعَ الأَوَّلِيْنَ.



([1]) صحيح البخاري كتاب التهجد باب التَّهجُّد بالليل وقوله ﱡﭐ ﱭ ﱮ ﱯ ﱰ  ﱱ ﱲ ﱹ.

 سورة الشرح / 4.([2])

صحيح مسلم كتاب الفضائل: باب تفضيل نبيّنا على جميع الخلائق. ([3])

([4]) فضَّل بعض الفقهاء مكة على المدينة المنورة لكن هذا التفضيل محلُّه دون البقعة التي حوت جسد النبي أمَّا إذا ضُمَّت إليها هذه البقعة فهي بالإجماع أفضل بقاع الدنيا ولا خلاف في ذلك بين الفقهاء. وقد نقل الإجماعَ على تفضيل البقعة التي حوت جسد سيدنا رسول الله على كل بقاع الدنيا القاضي عياضٌ من المالكية وابن عقيل الحنبلي والسبكي في فتاويه وغيرهم.

سنن الترمذي ج 10 ص 325. ([5])

صحيح مسلم كتاب الذكر والدعاء والتوبة باب التعوذ من شر ما عمل، ومن شر ما لم يعمل. ([6])

صحيح مسلم كتاب صلاة المسافرين وقصرها باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه. ([7]