وتَنْصِبُ الفعلَ السليمَ أنْ ولنْ *** وكيْ وكيلا ثمَّ حتى وإذَنْ
أي وتنصب الفعل السليم أي الصحيح، واحتُرزَ به عن المعتل بالألف نحو: يخشى كما سيذكره بقول: “وإن تكن خاتمة الفعل ألف”، فتنصبه أن المفتوحة الخفيفة وهي أمّ الباب وتسمى المصدرية لأنها يصح أن تقدَّر هي والفعلُ المنصوب بها بمصدر نحو: أريد أن أعطيك أي إعطاءك، وخفت من أن تهجرني أي من هجرك، ولن وهي حرف ينفي المضارع ويخلصه للاستقبال نحو قوله تعالى: {لَن نُؤمِنَ لكَ} [سورة البقرة/55]، و{لن نصبِرَ} [سورة البقرة/61]، وكي غالبًا حرف تعليل بمعنى لام العلة نحو: جئت كي تكرمني، أي لتكرمني في الإثبات وكيلا تهجرني في النفي، وقد يجمع بينهما وبين اللام تأكيدًا نحو: لكي تكرمني، ولكيلا تهجرني، وقد تتصل بها ما فلا تَكفُّ عملها عن الفعل نحو: لكيما تكرمَني، وهو مراد الناظم بقوله في بعض النسخ: “وكي وإن شئت لكيما وإذن”، وعلى هذه النسخة فيوجد في بعض النسخ أيضًا متأخرًا قوله: “وتنصب الفعل بأو وحتى” البيت، والتحقيق أن الناصب أن مقدرة بعدُ لظهورها في قول الشاعر:
فقالت أكلَ الناس أصبحتَ مانحا *** لسانَك كيما أن تَغُرَّ وتخدَعا
وحتى: وهي لانتهاء الغاية بمعنى إلى أن، فالناصب إنما هو “أن” المقدرة بعدها، وحتى هي الجارية السابقة نحو: {حتى تَفِئَ إلى أمرِ اللهِ} [سورة الحجرات/9]، وقد تكون للتعليل كاللام نحو قوله تعالى:{حتى ينْفَضُّوا} [سورة المنافقون/7] ولا تنصب إلا المستقبل في المعنى دون الحال فتقول: لأسيرنَّ حتى أدخلَ البلد بالنصب، وسرت حتى أدخلها بالرفع إذا قلت ذلك حال الدخول، وإذن: وهي حرف جواب، كما دل على ذلك كلام الناظم في الأمثلة الآتية، فإذا قال لك قائل: إني سآتيك، قلتَ له: إذن أكرمَك بالنصب.
تنبيه: أطلق الناظم النصب بأنّ وإذن ولهما شروط، أما شروط “إن” فشرط النصب بها أن لا يتقدمها فعل من أفعال الشك واليقين السابقة كما مثّلنا به، فلو سُبقت بفعل اليقين وجب رفع الفعل بعدها نحو قوله تعالى: {عَلِمَ أن سيكون} [سورة المزمل/20]، وقوله تعالى: {أفلا يَرَونَ ألا يرجعُ إليهم قولاً} [سورة طه/89]، وإن سُبقت بفعل الشك جاز في الفعل الذي بعدها الرفع والنصب، وبهما قرئ قوله تعالى: {وحَسِبوا ألا تكونَ فِتنةٌ} [سورة المائدة/71] والنصب أرجح ولهذا أجمعوا على النصب في قوله تعالى: {الم* أَحَسِبَ الناسُ أن يُترَكوا أن يَقُولوا} [سورة العنكبوت/1-2] وإذا ارتفع الفعل بعدها فهي المخففة من الثقيلة واسمها مضمر والتقدير: أفلا يرون أنه وحسبوا أنه، وأما إذن فشرط النصب بها أن تكون مصدّرة وأن يتصل بها الفعل كما مثّلنا به في الجواب، فلو قلت: إني إذن أكرمُكَ رفعت الفعل، وكذا لو قلت: إذن أنا أكرمُكَ.
واللامُ حينَ تَبْتَدِئ بالكسرِ *** وهْيَ إذا حَقَّقْتَ لامُ الجرّ
أي وتنصبه أيضًا اللام المكسورة وهي نوعان: لام كي كجئت لأكرمك، ولام الجحود وهي الواقعة بعد كان المنفية نحو قوله تعالى: {وما كانَ اللهُ ليُعَذّبهم وأنتَ فيهم} [سورة الأنفال/33] فالناصب في الحقيقة “أن” المقدرة بعدها واللام داخلة على المصدر المؤول بأن والفعلِ، فهي لام الجر السابقة، والتقدير: جئت لإكرامك كما سبق في حتى، ويجوز إظهار “أن” بعدها نحو قوله تعالى: {وأُمِرتُ لِأنْ أكونَ}[سورة الزمر/12]، ويجب في نحو: {لئلا يعلَمَ} [سورة الحديد/29] ولا يجوز في نحو قوله تعالى: {لمْ يكُنِ اللهُ ليَغفرَ لَهُم} [سورة النساء/168].
والفاءُ إنْ جاءَتْ جوابَ النَّهي *** والأمرِ والعَرضِ معًا والنفيِ
وفي جوابِ ليتَ لي وهلْ فَتى *** وأينَ مَغْداكَ وأنَّى ومتى
أي وتنصبه الفاء الآتية في جواب النهي نحو قوله تعالى: {ولا تَطْغَوا فيهِ فيَحِلَّ عليكم} [سورة طه/81]، أو الأمر نحو: زرني فأكرمَك، أو العرض نحو: ألا تستغفرون الله ليغفر لكم، أو النفي نحو: {لا يُقضى عليهم فيَمُوتوا} [سورة فاطر/36]، أو التمني نحو: يا ليتني كنت معهم فأفوزَ، أو الاستفهام بشئ من أدواته كهل وأين وأنى ومتى نحو: هل فتى فأقصدَه، وأين زيد فأرفدَه، ومتى تسير فأصحَبَك، ومن هذا فأعرِفَهُ، وما هذا فأشتريه، ومنه قوله تعالى: {فهلْ لنا مِن شُفعاءَ فيَشفَعوا لنا أوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ} [سورة الأعراف/53]، والمغدى: بغين معجمة موضع الغُدو وهو السير أول النهار.
تنبيه: لم يتعرض الناظم لحكم فاء الجواب هذه إذا حذفت من الفعل وحكمه الجزم لأنه حينئذ يكون جوابًا لشرط مقدر نحو: زرني أكرمْكَ، ومنه قوله تعالى: {ربَّنا أخِّرْنا إلى أجَلٍ قريبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ ونتَّبِعِ الرُّسُلَ} [سورة إبراهيم/44]، وقس على ذلك جواب العرض والتمني والاستفهام لا النفي، فجوابه مرفوع نحو: ما جاء زيد أكرمُهُ. وشرط الجزم بعد النهي أن يصح المعنى إذا قدرتَ “إن” الشرطية قبل لا الناهية فتقول: لا تشرك بالله تدخُل الجنةَ بالجزم، بخلاف لا تشركْ بالله تدخلُ النارَ فإنه بالرفع.
والواوُ إنْ جاءَتْ بمعنى الجمعِ *** في طلبِ المأمورِ أوْ في المنعِ
أي وتنصبه الواو إذا جاءت بمعنى مع في جواب الأمر أو المنع وهو النهي والنفي، نحو: زرني وأكرمك، ولا تنه عن خُلُقٍ وتأتيَ مثله، ونحو ذلك، ومنه قوله تعالى: {ولا تَلبِسُوا الحقَّ بالباطلِ وتَكْتُموا الحقَّ} [سورة البقرة/42]، وقوله تعالى: {ولمَّا يعلَمِ اللهُ الذينَ جاهَدوا منكُم ويعلمَ الصابرين} [سورة ءال عمران/142].
وتَنصِبُ الفعلَ بأوْ وحتى *** وكلُّ ذا أُودِعَ كُتْبًا شَتَّى
أي وتنصب الفعل بأو إذا كانت بمعنى إلى أن أو إلا أن، والناصب في الحقيقة أن المصدرية المقدرة نحو: لأنتظرنه أو يجيءَ أي إلى أن يجيء ونحو: لأقتلن الكافر أو يسلمَ أي إلا أن يسلم، قال الشاعر:
لأستسهلنَّ الصعبَ أو أدركَ المُنى *** فما انقادت الآمال إلا لصابرِ
وقال امرؤ القيس:
وكنت إذا غمزت قناة قوم *** كسرت كعوبها أو تستقيما
وقد سبق ذكر حتى على النسخة السابقة. ثم أشار الناظم رحمه الله إلى أنه قد اختصر النواصب في هذه الأبيات، وقربها على الطالب على أنها كانت متفرقة في كتب شتى، أي متفرقة، فجزاه الله خيرًا لأنه أول من نظم في هذا الفن فيما علمت، لأن وفاته كانت على رأس الخمسمائة من الهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، وابن معطي على رأس الستمائة.
تنبيه: سبق أن حتى والفاء في الجواب والواوَ بمعنى الجمع، وأو بمعنى إلى أن أو إلا أن ليست هي الناصبة وإنما الناصب “أن” المقدرةُ بعدها فتحصَّل حينئذ أن نواصب الفعل أربعة فقط: لن وإذن وكي وأن ظاهرة ومقدرة، فليُعلم ذلك، ثم ذكر أمثلة النواصب السابقة مجموعة ليزيد في البيان والإيضاح كما هي طريقته رحمه الله تعالى فقال:
تقولُ أبْغي يا فتى أنْ تذهبا *** ولنْ أزالَ قائمًا أوْ تَرْكبا
وجِئتُ كيْ تُوليَني الكرامَهْ *** وسِرتُ حتى أدخُلَ اليمامهْ
واقْتَبِسِ العلمَ لكَيما تُكرما *** وعاصِ أسبابَ الهوى لِتَسلما
ولا تُمارِ جاهلاً فتَتْعَبا *** وما عليكَ عَتْبُهُ [1] فتُعْتَبا
وهلْ صديقٌ مُخلصٌ فأقصدهْ *** وليتَ لي كنزَ الغِنى فأرْفِدهْ
وزُرْ فَتَلْتَذَّ بأصنافِ القِرى *** ولا تُحاضِرْ وتُسيءَ المَحْضرا
ومَنْ يقُلْ إني سأغشى حَرَمَكْ *** فقُلْ لهُ أنتَ إذًا أحترمكْ
وقُلْ لهُ في العرْضِ يا هذا ألا *** تنزلُ عندي فتُصِيبَ مأكلا
فهذهِ نواصبُ الأفعالِ *** مثَّلتُها فاحْذُ على تِمثالي
أي صورتها فقس على تصويري، ولا يخفى أن قوله: “أن تذهبا” مثال للنصب بأن بعد غير فعل الشك واليقين، لأن أبغي بمعنى أطلب ويجوز أن يقرأ بنون الجمع وتاء الخطاب، وقوله: “ولن أزال” مثال للنصب بلن أو تركب مثال للنصب بأو التي بمعنى إلى أن أو إلا أن، “وكي توليني” مثال للنصب بكي المجردة عن ما الزائدة، والياء التي قبل نون الوقاية مفتوحة لظهور النصب في المعتل بالياء وياء النفس ساكنة. و”حتى أدخل” مثال للنصب بحتى فقوله: “سرت” بمعنى ها أنا أسير، وقد يؤخذ من تمثيله لها بعد كي صحة النسخة الأولى أي قوله: “وكي وكيلا ثم حتى وإذن”، “ولكيما تكرما” مثال للنصب بكي مع اقترانها باللام قبلها وبما الزائدة بعدها، “ولتسلما” مثال للنصب بلام كي، وقوله: “فتتعبا” من التعب مثال للنصب بالفاء في جواب النهي، وقوله: “فتعتبا” مثال له بالفاء في جواب النفي وهو من العتب بضم حرف المضارعة مبنيًا لما لم يسم فاعله يقال: عَتَبَهُ يَعْتِبُهُ إذا لامه على قبيح، أي وما عليك لوم الجاهل فتلامَ على فعله، وقوله: “فاقصده” مثال للنصب بالفاء في جواب الاستفهام هو بكسر الصاد، وقوله: “فارفده” مثال له بالفاء في جواب التمني وهو بفتح همزة المتكلم وكسر الفاء، يقال رَفَدَهُ يرفِدُهُ كضربه يضربه إذا أعطاه، وقوله: “فتلتذ” مثال للنصب بالفاء في جواب الأمر، والأصنافُ جمع صنف بكسر الصاد المهملة وبالنون، و”القرى” بكسر القاف الضيافة، وقوله: “وتسيء المحضرا” مثال للنصب بالواو التي بمعنى مع بعد النهي، اي لا تجمع بين المحاضرة أي المجالسة وسوء الأدب مع الجلساء بل أحسن المحاضرة لا ترك المحاضرة رأسًا، ويوجد في بعض النسخ “فتسيء المحضرا” بالفاء وهو غلط أو سبق قلم، لأن مثال النصب بالفاء بعد النهي قد سبق قريبًا فيتكرر لمثال وتبقى واو الجمع بلا مثال مع ضعف المعنى أيضًا فإنه يقتضي أن محاضرة المخاطب سيئة مطلقًا، وقوله: “فقل له أنت إذا أحترمك” مثال للنصب بإذن جوابًا مع اجتماع شروطها، ويوجد في بعض النسخ: “فقل له إني إذا أحترمك” وهو أيضًا غلط أو سبق قلم لما ذكرناه أن من شرط النصب بها تصديرُها، واتفق الجمهور على أن قول الشاعر:
لا تتركنّي فيهمُ شطيرا *** إني إذًا أهلِكَ أو أطيرا
ضرورة.
ثم أشار إلى المعتل بالألف الذي احترزَ عنه بالسليم فقال:
وإنْ تكُنْ خاتِمةُ الفعلِ ألِفْ *** فهيَ على سُكُونها لا تختلِفْ
تقولُ لنْ يرضى أبو السعودِ *** حتى يرى نتائجَ الوُعودِ
أي وإذا كان ءاخر الفعل المضارع ألفًا كيرضى ويخشى ويرى، فهي على سكونها لا يظهر للنصب فيها أثر كما مثّل به الناظم في قوله: “لن يرضى” و”حتى يرى”، ونتيجة الشئ ما يتولد منه.
تنبيه: إنما اقتصر الناظم على ما ءاخرُهُ ألفٌ دون ما ءاخره واو كغدا يغدو، أو ياء كرمى يرمي، لأن النصب يظهر فيهما كالصحيح، كجئت كي توليني الكرامة، وأما رفعهما فبالسكون كالمنقوص، نحو: هو يدعو ويقضي، وسيأتي أن حرفَ العلة إذا كان ءاخرَ فعلٍ فجزمه بحذفه.
[1] في نسخة: “غَيُّهُ”.