بيان أن الألباني متناقض لا يعتمد عليه في التضعيف والتحسين
ومما يدل على أن الألباني ليس من المحققين المدققين في علم الحديث وأن كلامه على رواة الأحاديث ليس مبنيًا على قواعد هذا العلم الشريف اتهامه عبد الصمد بن موسى بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أن ابن موسى غير متهم بالكذب ولا بالوضع وإنما وُصف بأنه روى مناكير عن جده فقط، ثم إن الألباني رأى رأيًا ءاخر وهو أن المتهم بوضع الحديث هو محمد بن هارون بن عيسى لمجرد وجود هذا الاسم في تاريخ بغداد من غير أن يكون عنده حجة قاطعة بأن الراوي في سند حديث: “نعم المذكر السبحة” هو نفسه المترجم له في تاريخ بغداد.
ثم قال الألباني عن نفسه إنه وقع في وهم عند كلام على الراوي محمد بن هارون، فإنه نسبه إلى ابن هارون بن العباس، ثم قال إن هذا وهم وأن الراوي هو ابن هارون بن عيسى بن إبراهيم، ونص عبارته [166]: “وقولي أولاً هو محمد بن هارون بن العباس وهم سببه أنني ذهلت عن الترجمة التي بعد ابن العباس هذا في “تاريخ الخطيب” فقد قال: محمد بن هارون بن عيسى بن إبراهيم…” انتهى كلام الألباني.
نقول: ترجمة ابن العباس وابن عيسى في نفس الصحيفة من “تاريخ بغداد”، فإن ترجمة الثاني ورقمها/1461 بعد ترجمة الأول التي رقمها/1460 بثمانية أسطر. وإنما ذكرنا ذلك ليحذر القارئ من تلبيسات الألباني وادعاءاته التي يوهم بها أنه فاق غيره علمًا ومعرفة، وأنه من أهل اليقظة والنباهة.
وللألباني من الأوهام والتناقضات الشيء الكثير مما يجعل القارئ في حيرة من أمره، فيقرأ كلامًا متناقضًا في توثيقه وتضعيفه لنفس الراوي، ويجده يضعف الحديث في موضع ويحسنه في موضع ءاخر، وإليك بعض الامثلة على ذلك:
* المثال الأول: قال الألباني في كتابه المسمى “إرواء الغليل” ما نصه [167]: “وهذا إسناد ضعيف رجاله ثقات غير أبي عامر الخزاز، واسمه صالح بن رستم المزني مولاهم” ا.هـ، وتناقض في كتابه المسمى “السلسلة الصحيحة” فقال ما نصه [168]: “صالح بن رستم وهو أبو عامر الخزاز البصري، مختلف فيه، قال الذهبي نفسه في الضعفاء: “وثقه أبو داود، وقال ابن معين: ضعيف الحديث. وقال أحمد: صالح الحديث. وهذا هو الذي اعتمده في الميزان. قلتُ –أي الألباني-: فهو حسن الحديث إن شاء الله” ا.هـ.
* المثال الثاني: قال الألباني في كتابه المسمى “السلسلة الصحيحة” ما نصه [169]: “وهذا سند حسن رجاله ثقات وفي شبيب –هو ابن بشر- كلام لا يضر. وقال الحافظ في التقريب: صدوق يخطئ” ا.هـ.
وناقض نفسه في كتابه المسمى “إرواء الغليل” فقال ما نصه [170]: “وشبيب بن بشر ضعيف، قال الحافظ في “التقريب”: “صدوق يخطئ”، قال أبو حاتم: “لين الحديث”. قلت –أي الألباني-: فقول الهيثمي في المجمع [7/86]: “رواه البزار والطبراني ورجالهما رجال صحيح غير شبيب بن بشر وهو ثقة” ليس منه بجيد مع تضعيف من ذكرنا لشبيب هذا” ا.هـ.
فليتأمل القارئ رده على الحافظ الهيثمي لأنه وثق شبيب بن بشر مع أن الألباني نفسه وثقه وحسن إسناده!!.
* المثال الثالث: قال الألباني في كتابه المسمى “السلسلة الصحيحة” ما نصه [171]: “وهذا سند ضعيف من أجل عنعنة ابن جريج، وضعف سعيد بن سالم” ا.هـ.
وناقض نفسه في كتابه المسمى “إرواء الغليل” فقال ما نصه [172]: “وهذا إسناد جيد رجاله كلهم ثقات رجال الشيخين غير سعيد بن سالم” ا.هـ.
* المثال الرابع: قال الألباني في كتابه “الإرواء” ما نصه [173]: “وزاد أبو داود وأحمد والخطيب والبيهقي: “وإذا أنكح أحدكم عبده أو أجيره فلا ينظرن إلى شيء من عورته، فإن ما أسفل من سرته إلى ركبته من عورته”.. وسوّار –أبو حمزة- هو ابن داود المزني الصيرفي وهو حسن الحديث أيضًا كما يتلخص من أقوال الأئمة فيه” ا.هـ، وحسّن الألباني الحديث، ثم أعاد ذكره في موضع ءاخر وقال [174]: “حسن”.
وتناقض الألباني في كتابه المسمى “السلسلة الضعيفة” فقال بعد أن ذكر نفس الرواية ما نصه [175]: “ضعيف مضطرب، يرويه سوّار بن داود أبو حمزة أخرجه أحمد والبيهقي والخطيب وأبو داود” ا.هـ، ثم قال ما نصه: “وجملة القول إن الحديث اضطرب فيه سوار، فلا يطمئن القلب إلى ترجيح رواية من روايتيه” ا.هـ.
فانظر إلى تحسينه للحديث في كتابه “الإرواء” بناء على تحسينه للراوي سوار، ثم تناقض في كتابه الآخر فضعف الحديث من نفس طريق الراوي أي طريق سوّار لزعمه أن قلبه لم يطمئن لروايته، فيقع القارئ في حيرة من أمره، فلذلك لا يطمئن قلب القارئ لمؤلفات هذا الرجل لما فيها من كثرة التناقضات والفتاوى الشاذة التي ما أنزل الله بها من سلطان، كتلك التي حرّم فيها لبس خاتم وسوار الذهب على النساء، وتحريمه قيام رمضان بأكثر من إحدى عشرة ركعة.
ومما يدل أيضًا على أن تضعيفه للأحاديث لا يخضع لقواعد علم الحديث وإنما لرأيه لا سيما إذا كان الحديث على خلاف مشربه وأنه يُحسّن أحاديث لأقل من كنانة ما نذكره من الأمثلة القليلة جدًا ليتعرف القارئ إلى مبلغ علم الألباني:
المثال الأول: حسّن الألباني حديث الترمذي: “إذا كانت الفتنة بين المسلمين فاتخذ سيفًا من خشب” من رواية عُديسة بنت أهبان، وقال إنه روى عنها ثلاثة: عبد الله بن عبيد، وعبد الكبير بن الحكم الغفاري، وأبو عمرو القسملي، ثم قال ما نصه: “وعُديسة لم يوثقها أحد فيما علمتُ، لكنها تابعية وابنة صحابي، وقد روى عنها ثلاثة كما تقدم، فالنفس تطمئن لثبوت حديثها، فلا جرم حسنه الترمذي [176]” ا.هـ.
أقول: كنانة ليس أقل شأنًا منها، فهو تابعي أيضًا ووثقه ابن حبان، وروى عنه خمسة أنفس منهم زهير بن معاوية وهو ثقة ثبت حافظ متقن، فما قولك بعد ذلك؟!.
المثال الثاني: حسَّن الألباني حديثًا من رواية أبي سعيد الغفاري، وذكر عنه راويان هما: حميد بن هانيء، وخلاد بن سليمان، وأنه ذكره ابن حبان في الثقات، ثم قال ما نصه: “قد روى عنه خلاد بن سليمان أيضًا كما تقدم، فقد ارتفعت عنه جهالة العين، ثم هو تابعي، فمثله يحسّن حديثه جماعة من الحفاظ، فلا جرم جود إسناده الحافظ العراقي، وهو الذي انشرح له صدري، واطمأنت إليه نفسي” [177] ا.هـ.
أقول: فإذا كان تصحيح الأحاديث وتضعيفها خاضع لانشراح صدرك وما اطمأنت إليه نفسك –على حد زعمك- كما في هذين المثالين فلن يَسلم منك حديث يكون حجة عليك كما في حديث التسبيح بالحصى أو النوى الذي عمل به علماء الحديث كالحافظ ابن حجر العسقلاني، والحافظ السيوطي، والتابعي الجليل الحسن البصري، والحافظ يحيى بن سعيد القطان الذي قال عنه الحافظ ابن حبان [178]: “وهو الذي مهد لأهل العراق رسم الحديث وأمعن في البحث عن النقل وترك الضعفاء، ومنه تعلم علمَ الحديث أحمدُ بن حنبل، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، وسائر شيوخنا” ا.هـ، ولا يخفى مكانة هؤلاء في علم الحديث وعلم الجرح والتعديل، وإذا كنت تدعي أنك من أهل الحديث فلا يسعك إلا اتباعهم، فما بالك تحرم ما أحله أهل الحديث، أليس هذا شذوذًا عنهم، فاندفع بذلك هجومك وعاد عليك بالخجل.
أيضًا فإن انشراح الصدر واطمئنان النفس لم ينص عليه أحد من علماء الجرح والتعديل كقاعدة للحكم على الحديث بالصحة أو الضعف، والألباني في الواقع ينطبق عليه المثل السائر: “خالِف تُعرف”.
المثال الثالث: ضعَّف الألباني أثر الاستسقاء بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته لأنه لا يوافق هواه، فقال ما نصه [179]: “قال الحافظ في “الفتح” ما نصه: “وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح من رواية أبي صالح السمان عن مالك الدار –وكان خازن عمر- قال: أصاب الناس قحط في زمن عمر فجاء رجل إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله استسق لأمتك..” ا.هـ. قلتُ –أي الألباني-: مالك الدار غير معروف العدالة والضبط، وقد أورده ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ولم يذكر راويًا عنه غير أبي صالح هذا، ففيه إشعار بأنه مجهول، ويؤيده أن ابن أبي حاتم نفسه لم يحك فيه توثيقًا فبقي على الجهالة، ولا ينافي هذا قول الحافظ: “.. بإسناد صحيح من رواية أبي صالح السمان..” لأننا نقول: إنه ليس نصًا في تصحيح جميع السند بل إلى أبي صالح فقط، ولولا ذلك لما ابتدأ هو الإسناد من عند أبي صالح، ولقال رأسًا: “عن مالك الدار.. وإسناده صحيح” ولكنه تعمد ذلك ليلفت النظر إلى ها هنا شيئًا ينبغي النظر فيه، والعلماء إنما يفعلون ذلك لأسباب منها: أنهم قد لا يحضرهم ترجمة بعض الرواة فلا يستجيزون لأنفسهم حذف السند كله لما فيه من إيهام صحته لا سيما عند الاستدلال به، بل يوردون منه ما فيه موضع للنظر فيه، وهذا هو الذي صنعه الحافظ هنا، وكأنه يشير إلى تفرد أبي صالح السمان عن مالك الدار، وهو يحيل بذلك إلى وجوب التثبت من حال مالك هذا أو يشير إلى جهالته. وهذا علم دقيق لا يعرفه إلا من مارس هذه الصناعة، ويؤيد ما ذهبتُ إليه أن الحافظ المنذري قال في “الترغيب”: “مالك الدار لا أعرفه”، وكذا قال الهيثمي في “مجمع الزوائد” انتهى كلام الألباني.
الجواب من وجوه:
أولاً: قولك “مالك الدار غير معروف العدالة والضبط، وقد أورده ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ولم يذكر راويًا عنه غير أبي صالح هذا، ففيه إشعار بأنه مجهول” مردود لأن مالك الدار واسمه مالك بن عياض ذكره ابن حبان في كتابه “الثقات” [180]، وابن سعد في كتابه “الطبقات” الكبرى [181] وقال: “وكان معروفًا” ا.هـ، والحافظ أبو يعلى الخليلي في الإرشاد [182] وقال: “تابعي قديم، متفق عليه. أثنى عليه التابعون” ا.هـ. والحافظ ابن حجر في الإصابة [183] وقال: “روى عنه –أي عن مالك الدار- أبو صالح السمان، وابناه عون وعبد الله ابنا مالك” ا.هـ، وذكر عنه راويًا رابعًا [184] هو عبد الرحمن بن سعيد بن يربوع المخزومي، ثم وجدنا راويًا خامسًا عن مالك الدار وهو يحيى بن عبد الله بن مالك الدار ذكره ابن حبان في كتابه “الثقات” [185] وقال: “يروي عن جده” ا.هـ.
فلماذا أعرضتَ عن هذه المصادر وأخفيتها عن الناس؟
وهل عملتَ بما قلتَ: “يجب التثبت من حال مالك هذا”؟ فدعنا من ادعاءاتك الواهية واسلك سبيل الصواب.
ثانيًا: أوهمتَ القراء أن ابن أبي حاتم يقول بجهالة مالك الدار لأنه ذكر عنه راويًا واحدًا ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلاً، وأخفيتَ عنهم ما ذكره ابن أبي حاتم نفسه في كتابه “الجرح والتعديل” [186] ونص عبارته: “على أنّا قد ذكرنا أساميَ كثيرة مهملة من الجرح والتعديل كتبناها ليشتمل الكتاب على كل من روي عنه العلم رجاء وجود الجرح والتعديل فيهم، فنحن ملحقوها بهم من بعد إن شاء الله تعالى” ا.هـ.
فإذا كان هذا هو شرط ابن أبي حاتم في كتابه، فكيف تجعل من يذكر فيه جرحًا وبين من لم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلاً على حد سواء؟!
ثالثًا: تقوّلتَ على الحافظ ابن حجر وادعيتَ أنه ابتدأ الإسناد بذكر أبي صالح السمان لأن في إسناده من ينبغي النظر فيه، وادعيتَ أن الحافظ تعمد ذلك، فالجواب: أن فعل الحافظ هذا في كتابه “فتح الباري” من تصحيح أو تحسين أسانيد الأحاديث والآثار كثير جدًا فمن شاء فليراجع. ثم قل لنا في أي كتاب اشترط ذلك الحافظ ابن حجر، بل إنه ذكر في مقدمته للفتح خلاف ما ذكرتَ، فإنه ذكر أن ما يذكره من الفوائد المتنية والإسنادية من تتمات وزيادات وتصريح مدلس بسماع ومتابعة منتزعًا كل ذلك من أمهات المسانيد والجوامع والمستخرجات والأجزاء والفوائد بشرك الصحة أو الحسن فيما يورده.
وقولك: “وهذا علم دقيق لا يعرفه إلا من مارس هذه الصناعة” حق، لكن على ما هو مقرر عند علماء الحديث الذين اتفقوا على أن هذا العلم يؤخذ بالتلقي سماعًا من أفواه علماء الحديث وحضور مجالسهم، وليس بالمطالعة وإعداد فهارس لبعض الكتب كما فعلتَ.
وكفاك ادعاء أنك بلغتَ في الحديث ما لم يبلغه غيرك، فإن الذي نسبته للحافظ محض تقوّل عليه، فهل هذا هو العلم الدقيق الذي عرفته أنت ولم يعرفه الحافظ؟!
رابعًا: أوهمتَ القراء أن الحافظ يقول بتفرد أبي صالح السمان عن مالك الدار بقولك: “وكأنه يشير إلى تفرد أبي صالح…” وكلامك هذا يتعارض مع ما ذكره الحافظ نفسه في كتابه “الإصابة” الذي ذكر فيه أربعة رواة عن مالك الدار، وهم: أبو صالح السمان، وعون وعبد الله ابنا مالك الدار، وعبد الرحمن بن سعيد بن يربوع المخزومي، فهل هذا هو التحقيق والتدقيق الذي تدعيه بعد عشرين سنة من دراسة علم الحديث كما زعمتَ في حين أن المبتدئ بهذا العلم الشريف إذا أُسند إليه إخراج ترجمة مالك الدار من كتب التراجم لاستطاع القيام بهذا العمل بوقت قصير وبدون مشقة.
والأثر صحيح على رغم أنف الألباني وأشباهه، وكان يغنيه لو كان منصفًا قول الحافظ: “بإسناد صحيح” لأنه لو كان واحد من رواته مجهولاً ما قال: “بإسناد صحيح”.
الهوامش:
[166] إرواء الغليل [6/242 رقم/1839].
[167] السلسلة الصحيحة [1/377 رقم 216].
[168] السلسلة الصحيحة [1/622 رقم/354].
[169] إرواء الغليل [6/332 رقم/1914].
[170] السلسلة الصحيحة [1/780 رقم/477].
[171] إرواء الغليل [4/211 رقم/1020].
[172] إرواء الغليل [1/266 رقم/247].
[173] إرواء الغليل [6/207 رقم/1803].
[174] السلسلة الضعيفة [2/372-374 رقم/956].
[175] السلسلة الصحيحة [3/368].
[176] السلسلة الصحيحة [2/297-298].
[177] الثقات [7/611].
[178] التوسل أنواعه وأحكامه [ص/130-132].
[179] الثقات [5/384].
[180] الطبقات الكبرى [5/8].
[181] الإرشاد في معرفة علماء الحديث [ص/63].
[182] الإصابة في تمييز الصحابة [3/484].
[183] الإصابة في تمييز الصحابة [3/484].
[184] الثقات [7/608].
[185] الجرح والتعديل [2/38].
[186] تدريب الراوي [ص/20].