(قِدَمُ اللَّهِ لَيْسَ زَمَانِيًّا)
(اللَّهُ تَعَالَى كَانَ قَبْلَ الزَّمَانِ وَقَبْلَ الْمَكَانِ وَقَبْلَ الظُّلُمَاتِ وَقَبْلَ النُّورِ) أَىْ كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَىْءٌ مِمَّا ذُكِرَ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَوْجُودٌ بِلا ابْتِدَاءٍ قَدِيمٌ لَمْ يَسْبِقْ وُجُودَهُ عَدَمٌ وَكُلُّ مَا سِوَاهُ حَادِثٌ لِوُجُودِهِ ابْتِدَاءٌ فَالزَّمَانُ حَدَثَ مَعَ وُجُودِ أَوَّلِ الْمَخْلُوقَاتِ وَهُوَ الْمَاءُ وَكَذَا الْمَكَانُ وَبَعْدَ ذَلِكَ بِزَمَانٍ خَلَقَ اللَّهُ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ فَالْقَدِيمُ إِذَا أُطْلِقَ عَلَى اللَّهِ لَيْسَ بِالْمَعْنَى الَّذِى يُطْلَقُ فِيهِ عَلَى الْمَخْلُوقِ لِأَنَّ الْمَخْلُوقَ الْقَدِيمَ هُوَ مَا مَضَى عَلَيْهِ زَمَانٌ طَوِيلٌ وَأَمَّا اللَّهُ تَعَالَى فَيُطْلَقُ عَلَيْهِ الْقَدِيمُ بِمَعْنَى الأَزَلِىِّ الَّذِى لا ابْتِدَاءَ لَهُ فَلَيْسَ قِدَمُهُ مُرُورَ زَمَانٍ كَقِدَمِ الْمَخْلُوقِ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لا مُنَاسَبَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَخْلُوقِينَ (فَهُوَ تَعَالَى لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الْعَالَمِ الْكَثِيفِ) الَّذِى يُقْبَضُ بِالْيَدِ (كَالأَرْضِ وَالْحَجَرِ وَالْكَوَاكِبِ) أَىِ النُّجُومِ (وَالنَّبَاتِ وَالإِنْسَانِ وَلَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الْعَالَمِ اللَّطِيفِ) الَّذِى لا يُقْبَضُ بِالْيَدِ (كَالنُّورِ) أَىِ الضَّوْءِ (وَالرُّوحِ وَالْهَوَاءِ وَالْجِنِّ وَالْمَلائِكَةِ لِمُخَالَفَتِهِ لِلْحَوَادِثِ أَىْ لِمُخَالَفَتِهِ جَمِيعَ الْمَخْلُوقَاتِ) أَىْ عَدَمِ مُشَابَهَتِهِ لَهَا بِأَىِّ وَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ (فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ مِنْ أَسْمَائِهِ اللَّطِيفُ فَالْجَوَابُ أَنَّ مَعْنَى اللَّطِيفِ الَّذِى هُوَ اسْمٌ لِلَّهِ الرَّحِيمُ بِعِبَادِهِ أَوِ الَّذِى احْتَجَبَ عَنِ الأَوْهَامِ فَلا تُدْرِكُهُ) أَىْ لا تَبْلُغُهُ تَصَوُّرَاتُ الْعِبَادِ وَلِذَلِك نُهِينَا عَنِ التَّفَكُّرِ فِى ذَاتِ اللَّهِ وَأُمِرْنَا بِالتَّفَكُّرِ فِى مَخْلُوقَاتِهِ لِأَنَّ التَّفَكُّرَ فِى مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ يُقَوِّى الْيَقِينَ وَأَمَّا تَصَوُّرُ ذَاتِ اللَّهِ فَكُفْرٌ وَضَلالٌ لِأَنَّهُ تَشْبِيهٌ لِلَّهِ تَعَالَى بِالصُّورَةِ الْمُتَخَيَّلَةِ (فَلا نَظِيرَ لَهُ تَعَالَى أَىْ لا مَثِيلَ لَهُ وَلا شَبِيهَ فِى ذَاتِهِ وَلا فِى صِفَاتِهِ وَلا فِى فِعْلِهِ) أَىْ أَنَّ ذَاتَهُ لا يُشْبِهُ الذَّوَاتِ وَصِفَاتِهِ لا تُشْبِهُ الصِّفَاتِ وَفِعْلَهُ لا يُشْبِهُ الأَفْعَالَ (لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُمَاثِلًا لِمَخْلُوقَاتِهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ كَالْحَجْمِ وَالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ خَالِقًا لَهَا) لِأَنَّ الْمُتَشَابِهَاتِ يَجُوزُ عَلَيْهَا مَا يَجُوزُ عَلَى بَعْضِهَا وَصِفَاتُ الْمَخْلُوقَاتِ هِىَ دَلائِلُ حُدُوثِهَا وَعَلامَاتُهُ فَلَوْ كَانَ اللَّهُ مُتَّصِفًا بِالْحَجْمِ أَوِ الْحَرَكَةِ أَوِ السُّكُونِ أَوْ نَحْوِهَا مِنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقَاتِ لَكَانَ حَادِثًا مِثْلَهَا وَلَجَازَ عَلَيْهِ مَا يَجُوزُ عَلَيْهَا مِنْ حُدُوثٍ وَنَقْصٍ وَفَنَاءٍ إِذًا (فَاللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الِاتِّصَافِ بِالْحَوَادِثِ وَكَذَلِكَ صِفَاتُ اللَّهِ تَعَالَى هِىَ قَدِيمَةٌ أَىْ أَزَلِيَّةٌ) لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ حَادِثَةً لَقَامَتْ بِذَاتِ اللَّهِ الْحَوَادِثُ وَقِيَامُ الْحَوَادِثِ بِالذَّاتِ دَلِيلُ حُدُوثِ الذَّاتِ كَمَا تَقَدَّمَ.
(وَلِأَهَمِيَّةِ هَذَا الْمَبْحَثِ قَالَ الإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ) رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ (مَنْ قَالَ بِحُدُوثِ صِفَاتِ اللَّهِ أَوْ شَكَّ أَوْ تَوَقَّفَ) أَىْ قَالَ لا أَقُولُ هِىَ حَادِثَةٌ وَلا أَقُولُ أَزَلِيَّةٌ (فَهُوَ كَافِرٌ) اﻫ (ذَكَرَهُ فِى كِتَابِ الْفِقْهِ الأَكْبَرِ. وَقَالَ) الإِمَامُ أَحْمَدُ بنُ سَلامَةَ (الطَّحَاوِىُّ) رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى (وَمَنْ وَصَفَ اللَّهَ بِمَعْنًى مِنْ مَعَانِى الْبَشَرِ فَقَدْ كَفَرَ) أَىْ مَنْ وَصَفَ اللَّهَ تَعَالَى بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الْبَشَرِ فَهُوَ كَافِرٌ ذَكَرَهُ فِى عَقِيدَتِهِ الْمَشْهُورَةِ وَمِنْ أَظْهَرِ صِفَاتِ الْبَشَرِ الْحُدُوثُ أَىِ الْوُجُودُ بَعْدَ عَدَمٍ.