الجمعة أكتوبر 18, 2024

التصوف علمٌ وعمل

 

قال تعالى: {إنَّما يَخشى اللهَ مِنْ عبادِهِ العُلمَاءُ إنَّ اللهَ عزيزٌ غفورٌ} [سورة فاطر] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ومن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له به طريقًا إلى الجنة” الحديث رواه مسلم.

 

اعلم أرشدك الله أن مذهب القوم وطريقهم، هو طريق أهل السنة والجماعة، فقد صحت عقيدتهم وصح اتباعهم، غرضهم الالتزام بما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح، مع الإكثار من النوافل، والخروج عن الدنيا والملذات، ويدل على حست اتباعهم وصدق يقينهم وصحة معتقدهم، أنهم رفعوا لواء العلم، فكان منهم العلماء والقراء والمحدثون، وما ينقل عنهم من عبارات خالصة في التوحيد والتنزيه دالٌ على حسن اتباعهم وصدق انتمائهم وما سنذكره لك في سياق كلامنا عن علومهم واقتدائهم بسنة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم.

 

قال القوم: “تعلموا علم عقيدة أهل السنة والجماعة، والطهارة والصلاة الصوم والحج والزكاة، والعقود من البيوع والحلال والحرام، والمكروه والواجب والمندوب، والمباح والصحيح والباطل”.

 

واعلم أن العلم يورث الخوف من الله، وطول الصمت، وكثرة التفكر والاعتبار، وإذا اعتبرت علماء السلف رأيت الخوف غالبًا عليهم، والدعاوى بعيدة عنهم، قالت عائشة: “ليتني كنت نسيًا منسيًا”، وإنما صدر هذا عن مثل هؤلاء السادة لقوة علمهم بالله، وقوة العلم به تورث الخوف والخشية، قال الله عز وجل: {إنَّما يَخشى اللهَ مِنْ عبادِهِ العُلمَؤا إنَّ اللهَ عزيزٌ غفورٌ} [سورة فاطر] أي العلماء الأتقياء يخشون الله يخافونه أكثر من غيرهم وقال عليه الصلاة والسلام: “أنا أعلمكم بالله وأخشاكم له” [7] فقدم صلى الله عليه وسلم العلم بالله على الخشية منه.

[7] بوب البخاري في صحيحه: كتاب الإيمان: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم “أنا أعلمكم الله”.

 

قال سهل بن عبد الله التستري: “علامة حب الله حب القرءان، وعلامة حب الله وحب القرءان حب النبيّ، وعلامة حبه حب السنة، وعلامة حب السنة حب الآخرة، وعلامة حب الآخرة بغض الدنيا، والمقصود بالسنة هنا الشريعة وهي العقيدة والأحكام التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم.

 

وأنشدوا: [الطويل]

 

فما لك يوم الحشر شيءٌ سوى الذي *** تزودته قبل الممات إلى الحشر

إذا أنت لم تزرع وأبصرت حاصدًا *** ندمت على التفريط في زمن البذر

 

ويقول السيد الرفاعي الكبير رضي الله عنه: “الطريق واضح صلاة وصوم وحج وزكاة، فالتوحيد والشهادة برسالة الرسول عليه الصلاة والسلام أول الأركان واجتناب المحرمات هذا هو الطريق”.

 

وأنشد بعضهم: [الطويل]

 

لكل بني الدنيا مرادٌ ومقصدٌ *** وإن مرادي صحةٌ وفراغ

لأبلغ في علم الشريعة مبلغًا *** يكون به لي في الجنان بلاغ

 

ويقول الفضيل بن عياض: “اتبع طرق الهدى ولا تغتر بقلة السالكين، وإياك وطرق الضلالة ولا تغتر بكثرة الهالكين”.

 

ويقول الجنيد: “من لم يحفظ القرءان ولم يكتب الحديث لا يقتدى به في هذا الأمر، لأن علمنا هذا مقيد بأصول السنة”.

 

واعلم أن كثيرًا من المتصوفة الجاهلين قد فرقوا بين الشريعة والطريقة وبين الشريعة والحقيقة، وتوهموا أن الحقيقة تخالف الشريعة وأن الباطن يخالف الظاهر وهذا خطر محدق وجهل مطبق، لأن الشريعة كلها حقائق، وقد أنكر السادة الصوفية الحقيقيون الإعراض عن ظواهر الشرع، وقال السيد أحمد الرفاعي رضي الله عنه: “كل باطن خالف الظاهر فهو مردود”، وقال أيضًا: “شيدوا أركان هذه الطريقة المحمدية بإحياء السنة وإماتة البدعة”. فكل من رام الحقيقة في غير الشريعة فمغرورٌ مخدوع.

 

ولا عبرة ولا اعتبار بقول من قال: دع علم الورق وخذ علم الخرق، بل قل كما قال الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه لما رؤي وهو يحمل المحبرة على كِبَر سنه فقال له رجل: إلى متى يا أبا عبد الله فقال: “المحبرة إلى المقبرة”.

 

وكان الإمام أحمد رضي الله عنه يرى المحابر بأيدي طلبة العلم فيقول: “هذا سرج الإسلام”.

 

وأنشد سيدي الرواس فقال في القصيدة القدسية: [الطويل]

 

تمسك بذي علم منيرٍ على هدى *** فأهل علومٍ كالنجوم الزواهر

وإن أخا علمٍ به الزيغ كامنٌ *** أضرّ على الإسلام من ألف كافر

 

هذا شأنهم وهذا مشربهم علم وعمل واتباع للسنة واقتداء واتباع لسيد الانبياء.

 

وإليك ما يقول العالم العلم البحر الحبر السيد الشريف الشيخ أحمد الرفاعي الكبير في تعظيم العلم والعلماء: “أي سادة عظموا شأن الفقهاء والعلماء كتعظيمكم شأن الأولياء والعرفاء، فإن الطريق واحد، وهؤلاء ورّاث ظاهر الشريعة ومحلة أحكامها الذين يعلمونها الناس وبها يصل الواصلون إلى الله، إذ لا فائدة بالسعي والعمل على الطريق المغاير للشرع، ولو عبدَ الله العابدُ خمسمائة عام بطريقة غير شرعية فعبادته راجعة إليه، ووزره عليه، ولا يقيم الله له يوم القيامة وزنًا، فإياكم وإهمال حقوق العلماء وعليكم بحسن الظن بهم جميعًا –أي بالعلماء العُلماء- وأما أهل التقوى منهم العاملون بما علمهم الله فهم الأولياء على الحقيقة فلتكن حرمتهم عندكم محفوظة”.

 

ويقول أيضًا: “العلماء سادات الماس وأشراف الخلق والدالون على طريق الحق، لا تقولوا كما يقول بعض المتصوفة نحن أهل الباطن وهم أهل الظاهر، فإنه لولا الظاهر لما بطن، ولولا الظاهر لما كان الباطن ولما صح، القلب لا يقوم بلا جسد، بل لولا الجسد لفسد”.

 

ويقول الصوفي سهل بن عبد الله التستري: “الدنيا كلها جهل إلا ما كان علمًا وعملًا، والعمل كله موقوف إلا ما كان على الكتاب والسنة وتقوم السنة على التقوى”.

 

وقال أيضًا: “احفظوا السواد على البياض [أي كتابة العلم] فما أحد ترك الظاهر إلا تزندق”.

 

وأنشد بعضهم: [الطويل]

 

رضيت من الدنيا بقوت يقيمني *** ولا أبتغي من بعده أبدًا فضلًا

فما هذه الدنيا بطيب نعيمها *** لأيسر ما في العلم من لذة عدلا

 

وقال بعضهم: “ما من طريق إلى الله أفضل من العلم فإن عدلت عن طريق العلم خطوة تهت في الظلام”.

 

وقال أبو سعيد الخراز: “كل باطن خالف الظاهر فهو باطل”.

 

وسئل الإمام أحمد بن حنبل في قوله عليه الصلاة والسلام: “لا تزال طائفة من أمتي منصورين لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة” رواه الخطيب البغدادي في شرح أصحاب الحديث، فقال: “إن لم يكونوا أصحاب الحديث فلا أدري من هم”.

 

وقال الصوفي عبد الله بن خفيف الشيرازي: “اشتغلوا بتعلم العلم ولا يغرنكم كلام الصوفية”. أي جهلة المتصوفة.

 

ويقول سيدنا أحمد الرفاعي رضي الله عنه: “أي حالة باطنة لقوم لم يأمر ظاهر الشرع بعملها، وأي حالة ظاهرة لم يأمر ظاهر الشرع بإصلاح الباطن لهما لا تعملوا بالفرق والتفريق بين الظاهر والباطن فإن ذلك زيغ وبدعة”.

 

وعنه أيضًا: “لا تهملوا حقوق العلم والفقهاء، أي سادة تقولون قال الحارث قال أبو يزيد ما هذا الحال قبل هذه الكلمات، قولوا قال الشافعي قال مالك قال أحمد قال نعمان. قال الحارث قال يزيد لا ينقص ولا يزيد، قال الشافعي وقال مالك أنجح الطرق وأقرب المسالك”.

 

وقال السيد الرفاعي أيضًا: “شيدوا دعائم الشريعة بالعلم والعمل، وبعدها ارفعوا الهمة للغوامض من أحكام العلم وأحكام العمل. أشياخ الطريقة وفرسان ميادين الحقيقة يقولون لكم خذوا بأذيال العلماء تفقهوا”.

 

وكتب الشيخ الغجدواني [وهو واضع أصول الطريقة النقشبندية] إلى أحد تلاميذه: “يا بني أوصيك بتحصيل العلم والأدب وتقوى الله تعالى، واتبع ءاثار السلف الصالح ولازم السنة والجماعة، واقرأ الفقه والحديث والتفسير، واجتنب الصوفية الجاهلين –أي مدعي التصوف-، ولازم صلاة الجماعة، وإياك والشهرة فإنها ءافة وكن واحدًا من الناس”.

 

ويقول الصالح أحمد بن الحواري: “كل عمل بغير اتباع السنة باطل”.

 

ويقول الإمام الجنيد رحمه الله: “ما يصل أحد إلى الله إلا بالله والسبيل إلى الوصول متابعة المصطفى”.

 

ويقول السيد الرفاعي الكبير رضي الله عنه: “الصوفي تدل ءادابه على مقامه، زنوا أقواله وأفعاله وأخلاقه بميزان الشرع”.

 

وقال الإمام علي رضي الله عنه: “لا يعرف الحق بالرجال وإما الرجال يعرفون بالحق”.

 

وقال الإمام أحمد الرفاعي رضي الله عنه: “لا تعجب للمرء طار في الهواء أو سار على وجه الماء، ولكن اعرض كلامه على الشرع، فإن وافقه فخذ به وإلا اضرب به عُرض الحائط”.

 

فهذا الكلام الذي سبق يدل على أن من ادعى من جهلة المتصوفة أن الأولياء والخواص لا حاجة لهم إلى علم الدين ولا إلى النصوص الشرعية، بل يكفيهم الإلهام والفيوضات كلام مردود، قائله ليس صوفيًا ولا يعرف طريقهم، لأن كلامه يخالف نصوص السادة الصوفية.

 

وقد ذكر الشيخ الفقيه يوسف الأردبيلي في كتابه “الأنوار لأعمال الأبرار” ما نصه: “ولو قال: الله يلهمني ما أحتاج إليه من أمر الدين فلا أحتاج إلى العلم والعلماء فمبتدع كذاب يلعب به الشيطان” اهـ.

 

أما ما ذهب إليه بعض مدعي التصوف الذين رفعوا للجهل لواء، ولبسوا للشيطان رداء، في معرض تحريضهم الناس على ترك تعلم علم الدين، وإيهام أتباعهم أن الوصول إلى الولاية والمقامات العالية يحصل لهم من غير تعلم علم الدين الذي أوجبه الله تعالى على المكلفين مستدلين بزعمهم بقوله تعالى: {واتَّقوا اللهَ ويُعَلِّمُكم اللهُ} [سورة البقرة]. فيقال لهم: إن هذه الآية ليس معناها ما ذهبتم إليه لأن قوله تعالى: {واتَّقوا اللهَ ويُعَلِّمُكم اللهُ} دلالة على لزوم أداء الواجب، لأن التقوى لا تحصل بترك الواجب، وطلب علم الدين الضروري واجب، فكيف يكون من ترك هذا العلم الضروري تقيًّا، ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم في بيان فرضية علم الدين: “طلب العلم فريضة على كل مسلم” رواه البيهقي.

 

والمعلوم أن التقي هو الذي أدى جميع ما افترضه الله عليه واجتنب جميع ما حرمه الله عليه، فمن ترك هذا العلم الضروري الذي فرضه الله على المكلف لا يكون مندرجًا تحت قوله تعالى: {ويعلمكم اللهُ} لأن الوارد في الآية {واتقوا الله ويعلمكم الله} معناه اتقوا الله بأداء الواجبات واجتناب المحرمات، {ويعلمكم الله} يعني بعد أن تتموا ما أورده الله في أول الآية من أمر التقوى يفيض الله على قلوب بعض الصالحين منكم علمًا لدنيًا أي علمًا غير مكتسب لا يؤخذ من الكتب ولا من ألسنة المشايخ، وإنما هو إفاضة من الله عز وجل على قلب من يشاء من عباده الأتقياء، وهذا العلم اللدني لا يكون من أبواب علوم العقيدة الضرورية ولا من علوم الطهارة والصلاة والصيام الضرورية للمكلف، والعلم اللدني كما قال العلماء هو كعلم تفسير المنام. وأما ما ذهب إليه هؤلاء الجهال واستساغوه وعلموه لاتباعهم فهو مخالف لتعاليم الإسلام، ومخالف لما نص عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أعلم الناس بالقرءان وتفسيره وقد رُوي عنه عليه الصلاة والسلام: “من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم” رواه أبو نعيم في الحلية.

 

والقاعدة أنه لا يصير العبد وليًا وهو جاهل، فقد قال الإمام الشافعي رضي الله عنه: “ما اتخذ الله وليًّا جاهلًا”.

 

واعلم أن مشايخ القوم هم علماء عاملون فقهاء مشهورون نذكر بعض علمائهم لا على سبيل الحصر إنما على سبيل المثال منهم:

 

الحافظ الأصبهاني، والمحدث والمؤرخ الروذباري، والغزالي، والقاضي بكار بن قتيبة، والقاضي رويم البغدادي، وأبو القاسم القشيري، والفقيه ابن خفيف الشيرازي، والحافظ أبو الفضل المقدسي، والعز بن عبد السلام المالكي، والحافظ ابن الصلاح، والحافظ النووي، والإمام تقي الدين السبكي، والفقيه تاج الدين السبكي، والمفسر النحوي أبو حيان الأندلسي، والحافظ قطب الدين القسطلاني، والحافظ السيوطي، وأبو الحسين محمد النوري، وأبو سعيد أحمد بن عيسة الخراز، وأبو العباس أحمد بن عطاء البغدادي، وأبو عبد الله عمرو بن عثمان المكي، وأبو يعقوب يوسف بن حمدان السوسي، وأبو يعقوب إسحاق بن محمد بن أيوب النهرجوري، وأبو محمد الحسن بن محمد الجريري، وأبو عبد الله محمد بن علي الكناني، وأبو إسحاق إبراهيم بن أحمد الخواص، وأبو بكر محمد بن موسى الواسطي، وأبو بكر الشبلي وغيرهم.

 

فلا يغرنك أيها المحب ما تعرض له بعض الأسلاف وتشبث به من أولي الجهل بعض الأخلاف، من الكلام على طرق الصوفية ورجالها، أرباب أشرف المزايا السنية، فحطوا على التصوف وساداته كالحسن البصري والجنيد والسري والكرخي والإمام الرفاعي والجيلاني والدسوقي والبدوي وأبو الحسن الشاذلي رضي الله عنهم وأمثالهم فإنهم سادة الطريق، واعلم أنه لم يثبت عنهم مخالفة السنة، وإن ما ينقل عنهم مما يخالف الشرع فهو محض افتراء، فالطعن فيهم غير محقق، وكيف يكون وقد شهروا بخلافه، فإن عاداتهم ومجالسهم وأورادهم ومشاربهم الشريفة واضحة ظاهرة، والحق يُعرف به أهله.