الجمعة ديسمبر 27, 2024

غزوة المريسيع وهي غزوة بني المصطلق

العشرون غزوة المريسيع وهي غزوة بني المصطلق [35]: والمريسيع ماء لخزاعة من قولهم رسعت عين الرجل إذا دمعت من الفساد، والمصطلق مفتعل من الصلق وهو رفع الصوت، بينها وبين الفرع نحو يوم وبين الفرع والمدينة ثمانية برد، وهم بنو جذيمة بن سعد بطنٌ من خزاعة.

وسببها أن رئيسهم الحارث بن أبي ضرار سار في قومه ومن أمكنه من العرب فدعاهم إلى حرب المصطفى فأجابوه وتهيأوا للمسير معه، فبعث المصطفى بريدة بن الحصيب يعلم علم ذلك فلقي الحارث بن أبي ضرار وكلمه ورجع إلى المصطفى فأخبره، فأسرع الخروج إليهم وخرج معهم نفر كثير من المنافقين لم يخرجوا في غزوة قبلها، واستخلف على المدينة زيد بن حارثة وكان معه فرسان لزاز والظرب، وبلغ الحارث ومن معه سيره فخافوا وتفرق من معهم، وانتهى المصطفى إلى المريسيع وهو الماء فضرب عليه قبته ومعه عائشة وأم سلمة، فتأهبوا للقتال، وصف الرسول أصحابه ودفع راية المهاجرين لأبي بكر والأنصار لسعد بن عبادة فتراموا بالنبل ساعة ثم أمر أصحابه فحملوا حملة رجل واحد فما أفلت منهم إنسان، وقتل عشرة منهم وأسر بقيتهم وسبي الرجال والنساء والذرية والنعم والشاء، ولم يقتل من المسلمين إلا رجل واحد فاحتبسوا على طلب الماء فنزلت ءاية التيمم، وغاب المصطفى ثمانية وعشرين يومًا، وكان شعار المسلمين يومئذ يا منصور أمت أمت، وأصاب يومئذ رجل من الأنصار مسلمًا من بني كلب فقتله ظانًّا أنه من العدو، وازدحم في الواردة جهجاه الغفاري أجير لعمر وسنان بن وبر حليف الخزرج فاقتتلا فصرخ أحدهما: يا معشر الأنصار، والآخر يا معشر المهاجرين، فغضب ابن أبيّ رأس المنافقين وقال: أوَ قد فعلوها نافرونا وكاثرونا في بلادنا ما أحدنا وجلابيب قريش هؤلاء إلا كما قال الأول “سمن كلبك يأكلك” لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، ثم أقبل على من حضره من قومه وفيهم زيد بن الأرقم ذو الأذن الواعية غلام حدثٌ فقال: هذا ما فعلتم بأنفسكم أحللتموهم بلادكم وقاسمتموهم أموالكم، أما لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم، فمشى زيد إلى المصطفى فأخبره فقال عمر: مر به عباد بن بشر فليقتله قال: “كيف إذا تحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه”، لكن أذّن بالرحيل وذلك في ساعة لم يكن ليرتحل فيها، ومشى بن أبيّ إلى المصطفى فحلف ما قلت وكان في قومه شريفًا عظيمًا فقال من حضر من الأنصار: عسى أن يكون الغلام أوهم في حديثه حدبًا على ابن أبيّ ودفعا عنه: وجاء أسيد بن حضير فحيا رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحية النبوة وقال: يا نبي الله رحت في ساعة منكرة ما كنت تروح في مثلها قال: “أما سمعت ما قال صاحبكم زعم أنه إذا رجع إلى المدينة أخرج الأعز الأذل” قال: أنت تخرجه إن شئت هو والله الذليل وأنت العزيز ثم قال: ارفق به صلى الله عليك فوالله لقد جاءنا الله بك وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه فإنه ليرى أن قد استلبته ملكًا، ثم مشى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس وسار بهم يومهم وليلتهم فأصبحوا سائرين حتى ئاذتهم الشمس فهبت ريح شديدة وخافوها، فأخبر المصطفى أنها لموت عظيم من الكفار [فلما قدموا المدينة وجدوا] رفاعة بن زيد من عظماء يهود بني قينقاع وكان كهفًا للمنافقين [قد مات]، ونزلت سورة المنافقين التي فيها ابن أبيّ ومن على مثل أمره، فأخذ المصطفى بأذن زيد بن أرقم فقال: “هذا الذي أوفى الله بأذنه” وبلغ عبد الله بن عبد الله بن أبيّ فأتى وقال: يا رسول الله بلغني أنك تريد قتل أبي فما بلغك عنه فإن كنت فاعلًا فمرني أحمل إليك رأسه فلقد علمت الخزرج ما بها أبر بوالده مني إني أخشى أن تأمر غيري فيقتله فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتله يمشي في الناس فأقتله فأقتل مؤمنًا بكافر فأدخل النار، فقال: “بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا” فلما أراد دخول المدينة وقف عبد الله لأبيه وقال: لا تدخلها حتى تقرّ أنك الذليل ورسول الله صلى الله عليه وسلم العزيز ويأذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدخول، فأذن فدخل فجعل بعد ذلك إذا أحدث أمرًا كان قومه الذين يعاتبونه ويعنفونه، فقال المصطفى حين بلغه ذلك من شأنهم لعمر: “أما والله لو قتلته يوم قلت لي أقتله لأرعدت له أنف” فقال عمر: قد علمت ولأمر رسول الله أعظم بركة.

وفيها سئل عن العزل فقال: “ما عليكم أن لا تعزلوا ما من نسمةٍ كائنة [إلا وهي كائنة]” ثم أمر بالأسارى فكتفوا واستعمل عليهم بريدة، وجمعت الغنائم واستعمل عليها شقران مولاه، وجمع الذرية ناحيته، وكانت الإبل ألفين والشاء خمسة ءالاف والسبي مائتين.

وفي هذه الغزوة كان حديث الإفك في حق أم المؤمنين الحصان الرزان عائشة رضي الله عنها، وأصله أن المصطفى لما قرب إلى المدينة نزل منزلًا بات فيه بعض الليل ثم أذن بالرحيل فخرجت عائشة لحاجتها وفي جيدها عقد فيه جزع فانسل ولا تدري، فلما رجعت فقدته فذهبت تطلبه فشدوا هودجها على بعير لا يشكّون أنها فيه، وانطلقوا فرجعت إلى العسكر وما فيه من داع ولا مجيب فتلففت بجلبابها واضطجعت إذ مر صفوان بن المعطل السلمي فوقف عليها فقال: إنا لله [وإنا إليه راجعون] ظعينة رسول الله، ولم تكلمه فقرب بعيره فقال: اركبي فركبته وأخذ برأسه فما أدرك العسكر حتى نزلوا فقال أهل الإفك ما قالوا، وارتج العسكر وهي لا تعلم بشيء، فلما قدموا المدينة شكت وانتهى الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبويها وأنكرت من المصطفى ما كانت تعهده من لطفه بها، وكان إذا دخل يقول: “كيف تيكم” ولا يزيد، فاستأذنته أن تُمرَّض عند أمها فأذن، فلما نقهت بعد عشرين يومًا خرجت لحاجتها ومعها أم مسطح فعثرت في مرطها فقالت: تعس مسطح، فقالت عائشة: بئس لعمر الله ما قلت، قالت: أو ما بلغك الخبر، فأخبرتها بما قال أهل الإفك، فما زالت تبكي حتى كاد البكاء يصدع كبدها فقالت أمها: أي بنية خففي عنك فقلما كانت امرأة حسناء عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن القول فيها، وخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فحمد اللخ وقال: “يا أيها الناس ما بال رجال يؤذونني في أهلي ويقولون غير الحق والله ما علمت عليهم إلا خيرًا ويقولون ذلك لرجل ما علمت منه إلا خيرًا وما يدخل بيتًا من بيوتي إلا وهو معي” وكان كبر ذلك عند عبد الله بن أبيّ في رجال من الخزرج مع الذي قال مسطح وحمنة بنت جحش لمكان أختها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أسيد بن حضير: يا رسول الله إن يكونوا من الأوس نكفكهم أو من إخواننا الخزرج فمرنا بأمرك فإنهم لأهلٌ لأن تضرب أعناقهم، فقام سعد بن عبادة فكانت بينهما مقاولة حتى كاد يكون بين الحيين شرٌّ، هذا هو الصحيح لا ما ذُكِر أنه سعد بن معاذ فإنه كان مات.

فنزل المصطفى فدعا عليًّا وأسامة فاستشارهما فأثنى أسامة خيرًا وقال: هذا كذب وباطل، وقال علي: النساء كثير وسل الجارية فإنها تصدقك، فدعا المصطفى بريرة وقام علي يضربها ضربًا شديدًا ويقول: اصدقي رسول الله فتقول: لا أعلم إلا خيرًا ولا أعيب عليها إلا أني كنت أعجن عجيني فآمرها أن تحفظه فتنام فتأتي الداجن فتأكله، ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها فقال: “يا عائشة إن كنت ألممت بذنب فتوبي إلى الله فإنه يقبل التوبة عن عباده” قالت: فما هو إلا أن قال ذلك وقلص دمعي وانتظرت أبوي أن يجيبا فلم يتكلما، وأيمُ اللهِ لأنا كنت أحقر في نفسي من أن يُنزِلَ اللهُ فيَّ قرءانًا يُقرأ به ويصلى به، وكنت أرجو أن يرى المصطفى في منامه ما فيه براءتي، وما أهل بيت دخل عليهم ما دخل على ءال أبي بكر في تلك الأيام، فما برح رسول الله مجلسه حتى تغشاه ما كان يتغشاه فسجي بثوبه، ثم سرى عنه فجلس وإنه ليتحدر منه مثل الجمان في يوم شات فجعل يمسح العرق ويقول: “أبشري يا عائشة قد أنزل الله براءتك”، قلت: بحمد الله لا بحمد أحد غيره. وفي الطبراني أن أبا بكر دخل وعندها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما تنتظر بهذه التي خانتك وفضحتني فما كان غير يسير حتى نزل الوحي وجاء عذرها من السماء، ثم خرج إلى الناس فخطبهم وتلا عليهم ما نزل من القرءان، ثم أمر بمسطح وحمنة وحسان بن ثابت وكان ممن أفصح بالفاحشة فحُدّوا، ولما نزلت الآيات حلف أبو بكر أن لا ينفق على مسطح ولا ينفعه أبدًا فأنزل الله: {ولا يأْتَلِ أولوا الفَضْلِ مِنكُم} [سورة النور/22] الآية فرجع إلى نفقته، ثم ظهر أن ابن المعطل كان حصورًا لا يأتي النساء ومات شهيدًا انتهى.

ثم هذا القول من كون قريظة بعد الخندق ثم لحيان ثم ذو قرد ثم المريسيع هو القول الأسد الأصح من أقوال أهل السير، ووراء ذلك أقوال أخر لا يليق إيرادها بهذا المجموع الموجز المختصر.

ثم تليها عُمرةُ الحُدَيبيَهْ *** فخيبرٌ فعُمرةُ القضيَّهْ

[35] راجع تفصيل هذه الغزوة في: السيرة النبوية [2/289]، تاريخ ابن جرير [2/109]، الدرر [ص/200]، عيون الأثر [2/128]، الكامل [2/192]، فتح الباري [7/428].