الأحد ديسمبر 22, 2024

باب كيف كان بدء الوحي

أي الإرسال إليه صلى الله عليه وسلم، وأول ما بُدئ به الرؤيا الصالحة فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت كفلق الصبح واضحة، وحُبب إليه الخلاء والانفراد عن الناس. والحي أصله إلقاء المعنى في النفس في خفاءٍ ثم قيل للكلام الإلهي الذي يلقى إلى الأنبياء وحي وذلك إما برسول مشاهَدٍ يُرى ذاته ويسمع كلامه، وإما بسماع كلام بغير معاينة، وإما بإلقاء في الرُّوع [1].

حتى إذا بلغَ الرسولُ *** الأربعينَ جاءهُ      جبريلُ

وهو بغارٍ بحيراءٍ مُختلي *** فجاءهُ بالوحي من عندِ العلي

في يوم الاثنين وكانَ قد خلت *** من شهرِ مولدٍ ثمانٌ انْ ثبتْ

وقيلَ في سابعِ عشري رجبِ *** وقيلَ بلْ في رمضانَ الطيّبِ

قال لهُ اقرأ وهْوَ في المِرار *** يُجيبُ نُطقًا    ما أنا بقاري

فغطَّهُ ثلاثةً حتى بلغْ *** الجَهْدَ فاشتدَّ  لذاكَ وانصبغ

لما بلغ سن المصطفى أربعين سنة تحديدًا أو ويومًا، أو وعشرة أيام، أو وعشرين، أو وأربعين، أو وستين يومًا، أو ونصف سنة، أو إلا نصفها، أو تسعًا وثلاثين، أو ثنتين وأربعين عامًا، أو غير ذلك، أتاه جبريل عليه السلام وهو مُختلٍ بغار حراء بالكسر والمد ويجوز صرفه وعدمه جبلٌ على ثلاثة أميال من مكة وهو أول موضع نزل فيه القرءان، وذلك أنه كان يخلو فيه في كل عام شهرًا يتحنث أي يتعبد فيه ويطعم مَنْ جاءه من الفقراء، فإذا قضى جواره يُفيض فيطوف ثم يذهب إلى بيته، فلما أراد الله إكرامه بالإرسال جاءه جبريل بالوحي من عند الله العلي شأنه في يوم الاثنين لخبر مسلم [2]: “وأنزل علي فيه” قال ابن عبد البر: وكان قد خلت من شهر ربيع الاول وهو شهر مولده ثمانية أيام سنة إحدى وأربعين منذ الفيل، واعترضه الناظم بأنه إنما يتم إن ثبت بتوقيف صحيح وأنى به، وقيل: أول ربيع، وقيل في سابع عشري رجب، وقيل بل في رمضان الطيب ذكره العطر عبيره ونشره العظيمة بركته وسره سابعَ عشره أو ثامن عشره أو تاسع عشره، وقال ابن الشحنة: وكونه في رمضان هو الذي عليه الاكثر، فقال له جبريل: اقرأ، وكرره ثلاث مرات وهو في المرار الثلاث يجيب جبريل نطقًا باللسان بقوله: “ما أنا بقارئ” أي ما أحسن القراءة، فغطه أي عصره ثلاث مرات في كل مرة منها يقول له: اقرأ، فيقول: “ما أنا بقارئ” حتى بلغ منه الجهد أي بلغ الغط منه غاية الوسع، فاشتد أي قوي وصلب جسمه على الحركة، وانصبغ أي اكتسى جلدًا وقوة على مخالطة الروحانيات بالضم ويجوز الفتح على أنه من الرُّوح أو الرَّوح منها شبّهه بالثوب المصبوغ.

وما في قول الناظم: “ما بلغ” زائدة للتأكيد، و”المِرار” بكسر الميم، والباء في “بقارئ” مزيدة لتأكيد النفي، وغطه بغين معجمة وطاء مشددة، و”الجَهْدَ” بالنصب وفتح الجيم.

تنبيه: قال في سفر السعادة في سياق هذه الباب: كان المصطفى في ابتداء أمره بعيدًا جدًا من المخالطات حتى من الأهل والمال والعيال بالكلية، واستغرق في بحر الاذكار القلبية فانقطع عن الاضداد فاستشعر حصول المراد وظهر له الانس والخلوة فتذكر من أجل ذلك الجلوة، ولم يزل في فلك الأنس ومراءة الوحي تزداد من الصفاء والصقال حتى بلغ من درجات الكمال ما بلغ فظهرت بشائر صبح الوحي، وأشرقت وانتشرت بروق السعادة وتألقت فكان لا يمر بشجر ولا حجر إلا قال بلسان فصيح ونُطقِ صحيح: “السلام عليك يا رسول الله” فينظر يمينًا وشمالًا ولا يرى شيئًا، فبينما هو ذات يوم قائمًا على جبل حراء ظهر له شخص بين السماء والأرض وقال: “أبشِر يا محمد أنا جبريل وأنت رسول الله إلى هذه الامة” ثم أخرج له قطعة نمطٍ مرصعة بجوهر ووضعها في يده وقال: يا محمد اقرأ، فقال: “ما أنا بقارئ ولا أرى في هذه الرسالة كتابة”، فضمه وغطه حتى بلغ منه الجهد ثم أطلقه وقال: اقرأ، فقال: “لست بقارئ”، فعل ذلك ثلاثًا، ثم قال: {اقرأ باسمِ ربِّكَ} [سورة العلق] ثم نزل عن الجبل إلى قرار الأرض فأجلسه على دُرنوك [3] أبيض وعليه ثوبان أخضران ثم ضرب برجله الارض فنبعت عين ماء فتوضأ جبريل وأمر النبي أن يفعل كفعله، فلما تم وضوؤه أخذ جبريل كفًا من ماءٍ فرشّ به وجه رسول الله ثم قام فصلى ركعتين والرسول مقتد به ثم قال: الصلاة هكذا، وغاب عنه، فجاء الرسول إلى مكة وقص على خديجة القصة ففعلت ما سيأتي ذكره.

أقرأهُ جبريلُ أولَ العلق *** قرأهُ كما لهُ بهِ نطقْ

وكونُ ذا الأولَ فهْوَ الاشهرُ *** وقيلَ بل يا   أيها المُدّثر

وقيلَ بل فاتحة الكتابِ *** والأولُ الأقربُ للصواب

روى الشيخان [4]: “أول ما نزل به جبريل وأقرأه إياه سورة العلق: {اقرأ باسم ربك} [سورة العلق] إلى قوله {ما لم يعلم} [سورة العلق] فأقرأه قراءة حصل بها كماله حين نطق أي بالمقروء، ثم حفر جبريل بعقبه فنبع ماء فتوضأ وعلمه الوضوء وصلى ركعتين.

روى أحمد والدارقطني والحاكم مرفوعًا [5] أنه عليه السلام قال: “أتاني جبرائيل في أول ما أوحي إلي فعلمني الوضوء والصلاة فلما فرغ أخذ غرفة بها من الماء فنضح فرجه”، وكون هذا هو الأول مما أنزل من القرءان هو القول الأشهر الذي عليه الاكثر، وحكمة خصوص هذه الآيات بالأولية تضمنها أطوار الآدمي من الخلق والتعليم والإفهام فناسب تقديمه رعاية التقديم الطبيعي. وقيل: أول ما نزل سورة المدثر، روي من حديث جابر مرفوعًا: “جاورت بحراء فلما قضيت جواري هبطت فنوديت فنظرت عن يميني فلم أر شيئًا فنظرت عن يساري فلم أر شيئًا فنظرت من خلفي فلم أر شيئًا فرفعت رأسي فإذا الملك بين السماء والأرض فأتيت خديجة فقلت: دثروني دثروني، فصبوا علي ماءً باردًا فنزلت هذه الآية {يا أيُّها المُدَّثِّرُ* قُمْ فأنذِرْ} [سورة المدثر] رواه مسلم [6].

وقيل: أول ما نزل الفاتحة روى البيهقي [7] مرسلًا “أن خديجة قالت لأبي بكر: يا عتيق اذهب بمحمد إلى ورقة فذهب به فقال له: “إذا خلوتُ وحدي سمعت نداءً خلفي يا محمد فانطلق”، فقال: لا تفعل إذا أتاك فاثبت حتى تسمع ثم ائتني فأخبرني، فلما ناداه ثبت فقال له: قل بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين إلى ءاخرها، قل لا إله إلا الله، فأتى ورقة فأخبره فقال: أبشر فإني أشهد بأنك الذي بشر به ابن مريم، وأنك على مثل ناموس موسى وعيسى وأنك نبي مرسل، وأنك تؤمر بالجهاد بعد يومك هذا ولئن أدركت ذلك لأجاهدن معك” انتهى. قالوا: وفيه غرابة والأول أقرب إلى الصواب بل قال النووي [8]: القول بأن أول ما نزل المدثر باطل.

جاءَ إلى خديجةَ الامينهْ *** يشكو لها ما قد رءاهُ حِينه

فثبَّتتهُ إنَّها موفَّقهْ *** أولُ مَنْ ءامنت مُصدقهْ

ولما أقرأه جبريل ما ذكر جاء إلى زوجته خديجة بنت خويلد الأمينة على وحي الله وأمرِ رسوله لأنها كانت صاحبة سره لأمانتها وصدقها، فشكا إليها ما قد رءاه من نزول الملك عليه وغطه إياه بشدة وما قاله له في حينه ذلك وهو بكسر الحاء زمن بلوغ الشيء وحصوله، والمراد به هنا زمن الغط، وقال لها: “والله لقد خشيت على نفسي” [9] فثبتته بأن قالت له: اثبت يا ابن عم وأبشر إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكلّ وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على النوائب، وفي رواية [10] أنها قالت له: “أتستطيع أن تخبرني بصاحبك” فجاءه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “هذا جبريل”، قالت: قم فاجلس على فخذي اليسرى، فجلس فقالت: هل تراه، قال: “نعم”، قالت: تحول فاقعد على فخذي اليمنى، فقعد فقالت: هل تراه، قال: “نعم”، قالت: تحول فاجلس في حجري ففعل فقالت: هل تراه، قال: “نعم”، فألقت خمارها ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في حجرها ثم قالت: هل تراه، قال: “لا”، قالت: اثبت وأبشر فوالله إنه ملكٌ ما هذا بشيطان. انتهى.

وإنها كانت موفقة بتوفيق الله تعالى وهي أول من ءامن بالله ورسوله من النساء حالة كونها مصدقة له فيما جاء به، وهذه الأولية مذكورة في عدة أخبار وصرح بها أهل الآثار.

ثمَّ أتت به تؤمُّ ورقهْ *** قصَّ عليهِ ما رأى فصدَّقهْ

فهو الذي ءامن بعدُ ثانيا *** وكان برًا      صادقًا مواتيا

والصادقُ المصدوقُ قال إنهْ *** رأى له تَخَضْخُضًا في الجنة

ثم إن خديجة أتت به تؤم أي تقصد به ورقة بن نوفل ابن عمها وكان تنصر في الجاهلية وقرأ الكتب العبرانية فقالت خديجة: يا ابن عم اسمع من ابن أخيك، فقصّ عليه ما رءاه فصدقه وقال: هذا الناموس الذي أنزل على موسى، يا ليتني فيها جذعًا ليتني أكون حيًا إذ يخرجك قومك، فقال “أوَ مُخرجيّ هم”، قال: نعم لم يأت رجلٌ بما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا، فورقة هو الذي ءامن بعدُ أي بعد خديجة كما جرى عليه الناظم، فقول الناظم: “بعدُ” بالبناء على الضم لحذف المضاف إليه، وقوله: “ثانيا” أي هو ثاني من ءامن به، فقد ورد في رواية أنه قال: “أشهد إنك الذي بشر به ابن مريم وإنك نبي مرسل” كما مر.

وقوله: “وكان برًا” بفتح الموحدة أي طائعًا لله، وقوله: “صادقًا” أي مصدقًا لما أخبر به، وقوله: “مواتيا” أي مترفقًا متلطفًا، وقد أخبر الصادق المصدوق رسول الله أنه رأى له تخضخضًا أي تحركًا واضطرابًا في الجنة حين اطلع عليها، وورد في حديث النهي عن سنه [11]، وفي ءاخر [12] أنه رأى له في الجنة درجتين، وفي ءاخر [13] أنه رءاه فيها وعليه لباسٌ أخضر، وقد قرن ابن كثير له بين الترحم والترضي وجزم بإسلامه [14]، قال ابن الشحنة: وهو الراجح عند جهابذة أئمة الأثر انتهى.

وقد مر ما يُعلم منه أن المصطفى كان يرى أولًا في النوم ثم صار يسمع الصوت والتسليم عليه بالنبوة، وكان لا يرى أحدًا، ثم استعلن له جبريل في حراء، ثم ظهر له على صورته بين السماء والأرض وقال له: أنا جبريل وأنت رسول الله، وهذا المقام لا يليق به إيراد أكثر من هذا.

فائدة: ذكر شيخنا الشعراوي أن رجلًا أتاه برأس خروف مشوية فأكل جلدها فرأى فيها مكتوبًا بخط فوق الحاجبين والأنف لا إله إلا الله محمد رسول الله أرسله بالهدى ودين الحق يهدي به من يشاء من عباده قال: وهذا علمٌ من أعلام النبوة ولو لم يكن دليل على صحة شرع المصطفى إلا هذه الكتابة لكفى.

[1] الروع بالضم القلب والعقل، يقال: وقع ذلك في روعي أي في خلدي وبالي. وفي الحديث: “إن الروح الأمين نفث في روعي”.

[2] أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الصيام: باب استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر وصوم يوم عرفة وعاشوراء والاثنين والخميس.

[3] في لسان العرب [10/423]: الدرنوك ضرب من الثياب أو البُسط له خمل قصير كخمل المناديل.

[4] أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب بدء الوحي: باب 3، ومسلم في صحيحه: كتاب الإيمان: باب بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

[5] أخرجه أحمد في مسنده [4/161]، والدارقطني في سننه: كتاب الطهارة: باب في نضح الماء على الفرج بعد الوضوء.

[6] أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الإيمان: باب بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

[7] أخرجه البيهقي في دلائل النبوة: وقال: “هذا منقطع” [2/158].

[8] شرح صحيح مسلم [2/207].

[9] أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب بدء الوحي: باب 3، ومسلم في صحيحه: كتاب الإيمان: باب بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

[10] أخرجها البيهقي في دلائل النبوة [2/151-152]، قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري [8/720]: “وقع عند ابن اسحاق عن إسماعيل بن أبي حكيم مرسلًا أن خديجة قالت: أي ابن عم”.

[11] انظر المستدرك للحاكم [2/609]، كشف الأستار للهيثمي [3/281]، ومجمع الزوائد [9/416].

[12] انظر كشف الأستار [3/281]، مجمع الزوائد [9/416].

[13] انظر المصدر السابق.

[14] الفصول في سيرة الرسول [ص/39].

قلت: لم يثبت أن ورقة أسلم فالله أعلم بحاله.