باب ذكر قدر إقامته عليه السلام بمكة بعد البعثة
أي الإرسال.
أقام في مكةَ بعدَ البعثةِ *** ثلاثَ عشرة بغير مِرْيةِ
وقيلَ عشرًا أو فخمسَ عشرة *** قولان وهَّنوهُما بمرَّهْ
أقام رسول الله بمكة بعد البعثة ثلاث عشرة سنة على الأصح كما أشار إليه الناظم بقوله: “بغير مرية” يعني هذا هو الأصح بغير شك لخبر البخاري [1] في كتاب البعث عن ابن عباس بذلك، وقيل عشرًا لخبره أيضًا في المغازي وفضائل القرءان به [2]، وقيل خمس عشرة لحديث ابن سعد بذلك [3]، وهذان القولان وهّنوهما أي ضعفهما المحدثون وأهل السير بمرة [4]، كذا قال الناظم وليس بجيد فقد حملا على ما يوافق الأول فجمع بأن القول الأول أراد قائله أنه مكث بها ثلاث عشرة ثلاثًا نبيًا وعشرًا رسولا، والثاني: أراد قائله الرسالة فحسب، والثالث: حسب معها السنتين اللتين كان يرى فيهما الضوء والنور ويسمع الصوت ويرى الرؤيا فتجيء كفلق الصبح وبذلك يحصل الجمع بين الأقوال ويزول التعارض بلا إشكال، وإذا أمكن تنزيل الكلام على محمل صحيح فالعدول إلى تزييفه من ضيق العطن كما لا يخفى على أهل الفطن.
فكان في صلاتهِ يستقبلُ *** بمكةَ القدسَ ولكنْ يجعلُ
البيتَ من بين يديهِ أيضا *** فيما أتى تطوعًا أو فرضا
وبعدَ هجرةٍ كذا للقدس *** عامًا وثُلثا أو ونصف سُدسِ
وحُوِّلت من بعد ذاكَ القبلةُ *** لكعبة الله ونِعْمَ الجهةُ
كان رسول الله يستقبل مدة إقامته بمكة القدس وهو بيت المقدس ومع ذلك لا يستدبر الكعبة بل يجعل البيت الحرام بين يديه تلقاء وجهه أيضًا ويستقبله في كل ما أتى به أي فعله من الصلوات تطوعًا كان ذلك أو فرضًا، والقول بأنه كان يجعل الكعبة خلف ظهره رأي مهجور.
وكان بعد هجرته من مكة إلى المدينة كذلك يستقبل في صلاته بيت المقدس لكن لا يتيسر له مع ذلك استقبال الكعبة فكان كذلك يحب أن يستقبل الكعبة فكانت مدة صلاته لبيت المقدس عامًا وثلثًا أو عامًا وثلثًا ونصف سدس أيضًا يعني ستة عشر أو سبعة عشر شهرًا كذا هو في البخاري [5] على الشك، ورجح الأول بوروده في صحيح أبي عوانة وغيره [6] بغير شك، ثم حولت بعد ذلك القبلة إلى الكعبة في الركوع الثاني من ظهر يوم الثلاثاء نصف شعبان فاستدار إلى الكعبة حال الركوع واستدارت الصفوف خلفه فصلى بهم بمسجد القبلتين ركعتين للقدس وركعتين للكعبة.
وقول الناظم: “ونعم الجهة” برفع التاء لا بهاء ساكنة أي نعم جهة الكعبة لأنها قبلة إبراهيم والأنبياء على الأصح.
[1] أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب مناقب الأنصار: باب مبعث النبي صلى الله عليه وسلم.
[2] أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب المغازي: باب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وكتاب فضائل القرءان: باب كيف نزل الوحي وأول ما نزل.
[3] أخرجه ابن سعد في طبقاته [1/174]، وأخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الفضائل: باب كم أقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة والمدينة.
[4] انظر فتح الباري [7/230]، وشرح صحيح مسلم [15/99].
[5] صحيح البخاري: كتاب الإيمان: باب الصلاة من الإيمان.
[6] فتح الباري [1/96].