بيان أنواع البدعة وحكمها
اعلم أنّ البدعة لغة ما أُحدث على غير مثال سابق، وفي الشرع المحدث الذي لم ينصَّ عليه القرءان ولا جاء في السنّة. قال ابن العربي: “ليست البدعة والمحدث مذمومين للفظ بدعة ومحدث ولا معنييهما، وإنما يذم من البدعة ما يخالف السنّة، ويذمّ من المحدثات ما دعا إلى الضلالة”. اهــ.
أقسام البدعة
والبدعة تنقسم إلى قسمين:
بدعة ضلالة: وهي المحدثة المخالفة للقرءان والسنّة.
وبدعة هدى: وهي المحدثة الموافقة للقرءان والسنّة.
روى الحافظ البيهقي بإسناده في مناقب الشافعيّ عن الشافعي رضي الله عنه قال: “المحدَثات من الأمور ضربان: أحدهما ما أحدث مما يخالفُ كتابًا أو سنّة أو أثرًا أو إجماعًا، فهذه البدعة الضلالة، والثانية: ما أحدث من الخير لا خلاف فيه لواحد من هذا، وهذه محدثة غير مذمومة” اه، وقال الشافعي: “البدعة بدعتان: محمودة ومذمومة، فما وافق السنة فهو محمود وما خالفها فهو مذموم” اهــ.
وقال النووي في كتاب تهذيب الأسماء واللغات ما نصّه: “البدعة بكسر الباء في الشرع هي إحداث ما لم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي منقسمة إلى حسنة وقبيحة. قال الإِمام الشيخ المجمع على إمامته وجلالته وتمكّنه في أنواع العلوم وبراعته أبو محمّد عبد العزيز بن عبد السلام رحمه الله ورضي عنه في ءاخر كتاب القواعد: “البدعة منقسمة إلى واجبة ومحرّمة ومندوبة ومكروهة ومباحة. قال: والطريق في ذلك أن تعرض البدعة على قواعد الشريعة، فإن دخلت في قواعد الإِيجاب فهي واجبة، أو في قواعد التحريم فمحرّمة، أو الندب فمندوبة، أو المكروه فمكروهة، أو المباح فمباحة”. انتهى كلام النووي.
وقال الفقيه ابن عابدين الحنفي في ردّ المحتار ما نصّه: “فقد تكون البدعة واجبة كنصب الأدلّة للردّ على أهل الفِرق الضالّة، وتعلّم النحو المفهم للكتاب والسنّة، ومندوبة كإحداث نحو رباط ومدرسة، وكل إحسان لم يكن في الصدر الأول، ومكروهة كزخرفة المساجد، ومباحة كالتوسّع بلذيذ المآكل والمشارب والثياب”. اهــ.
وهذا التقسيم مفهوم من حديث البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مَن أحدَثَ في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد”. ورواه مسلم بلفظ ءاخر وهو: “من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد”. فأفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: “ما ليس منه” أن المحدث إنما يكون ردًّا أي مردودًا إذا كان على خلاف الشريعة وأن المحدَث الموافق للشريعة ليس مردودًا.
قال الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز: وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللهِ {27} [سورة الحديد]. فهذه الآية يستدلّ بها على البدعة الحسنة، لأن معناها مدح الذين كانوا مسلمين مؤمنين من أمّة عيسى متبعين له عليه السلام بالإِيمان والتوحيد، فالله تعالى مدحهم لأنهم كانوا أهل رأفة ورحمة ولأنهم ابتدعوا رهبانية، والرهبانية هي الانقطاع عن الشهوات، حتى إنهم انقطعوا عن الزواج رغبة في تجرّدهم للعبادة. فمعنى قوله تعالى: مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ {27} [سورة الحديد] أي نحن ما فرضناها عليهم إنما هم أرادوا التقرّب إلى الله، فالله تعالى مدحهم على ما ابتدعوا مما لم ينصَّ لهم عليه في الإِنجيل ولا قال لهم المسيح بنص منه، إنما هم أرادوا المبالغة في طاعة الله تعالى والتجردّ بترك الانشغال بالزواج ونفقة الزوجة والأهل، فكانوا يبنون الصوامع أي بيوتًا خفيفة من طين أو من غير ذلك على المواضع المنعزلة عن البلد ليتجرّدوا للعبادة.
وهاك أحاديث وأقوال العلماء التي تدلُّ على هذا:
منها ما رواه مسلم في صحيحه من حديث جرير بن عبد الله البَجَليّ رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مَن سنّ في الإِسلام سنّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شىء، ومن سنّ في الإِسلام سنّة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شىء”.
وفي صحيح البخاري في كتاب صلاة التراويح ما نصّه: قال ابن شهاب: “فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس على ذلك”، قال الحافظ ابن حجر: “أي على ترك الجماعة في التراويح”. ثمَّ قال ابن شهاب في تتمة كلامه: “ثم كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر وصدرًا من خلافة عمر رضي الله عنه”. وفي البخاري أيضًا تتميمًا لهذه الحادثة عن عبد الرحمن بن عبدٍ القاري أنه قال: “خرجت مع عمر ابن الخطّاب رضي الله عنه ليلة في رمضان إلى المسجد، فإذا الناس أوزاع متفرقون يصلّي الرجل لنفسه ويصلي الرجل فيصلّي بصلاته الرهط، فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارىء واحد لكان أمثل، ثم عزم فجمعهم على أُبيّ بن كعب ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلّون بصلاة قارئهم، قال عمر: نِعمَ البدعة هذه”. اهــ. وفي الموطأ بلفظ: “نعمت البدعة هذه”. اهــ.
قال الحافظ ابن حجر: “قوله: قال عمر: نِعمَ البدعة” في بعض الروايات: نعمت البدعة بزيادة التاء. والبدعة أصلها ما أحدث على غير مثال سابق، وتطلق في الشرع في مقابل السنّة فتكون مذمومة، والتحقيق أنها إن كانت مما تندرج تحت مستحسن في الشرع فهي حسنة، وإن كانت مما تندرج تحت مستقبح في الشرع فهي مستقبحة، وإلا فهي من قسم المباح وقد تنقسم إلى الأحكام الخمسة”. اهــ ومراده بالأحكام الخمسة: الفرض والمندوب والمباح والمكروه والحرام.
وأخرج البخاري في صحيحه: “عن رِفاعة بن رافع الزُّرَقي قال: كنّا يومًا نصلّي وراء النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رفع رأسه من الركعة قال: “سمع الله لمن حمده” قال رجل وراءه: ربنا ولك الحمدُ حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، فلما انصرف قال: “من المتكلّم” قال: أنا، قال: “رأيت بضعة وثلاثين ملكًا يبتدرونها أيّهم يكتبها أول”.
قال ابن حجر في الفتح في شرح هذا الحديث: “واستدل به على جواز إحداث ذكر في الصلاة غير مأثور إذا كان غير مخالف للمأثور”. اهــ.
وروى أبو داود في سننه عن عبد الله بن عمر أنه كان يزيد في التشهّد: “وحده لا شريك له”، ويقول: أنا زدتها. اهــ.
وقال النووي في روضة الطالبين في دعاء القنوت ما نصّه: “هذا هو المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم وزاد العلماء فيه: “ولا يعزّ من عاديت” قبل: “تباركت وتعاليت” وبعده: “فلك الحمد على ما قضيت أستغفرك وأتوب إليك”. قلت: قال أصحابنا: لا بأس بهذه الزيادة. وقال أبو حامد والبَنْدَنِيجيُّ وءاخرون: مستحبة”. انتهى كلام النووي.
قال الحافظ ابن حجر في الفتح ما نصّه: “وقد جاء عنه – أي عن ابن عمر – الجزم بكونها محدثة – أي صلاة الضحى – فروى سعيد بن منصور بإسناد صحيح عن مجاهد عن ابن عمر أنه قال: إنها محدثة وإنها لمن أحسن ما أحدثوا، وسيأتي في أول أبواب العمرة من وجه ءاخر عن مجاهد قال: “دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد فإذا عبد الله بن عمر جالس إلى حجرة عائشة وإذا ناس يصلون الضحى، فسألناه عن صلاتهم فقال: بدعة. وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن الحكم بن الأعرج عن الأعرج قال: سألت ابن عمر عن صلاة الضحى فقال: بدعة ونعمت البدعة. وروى عبد الرزّاق بإسناد صحيح عن سالم عن أبيه قال: لقد قتل عثمان وما أحد يسبحها، وما أحدث الناس شيئًا أحب إلي منها”. اهــ.
بدعة الهدى
* سن خبيب ركعتين عند القتل
ومما يدلّ على أنه ليس كل ما أحدث بعد رسول الله أو في حياته مما لم ينصّ عليه بدعة ضلالة إحداث خبيب بن عدي ركعتين عندما قُدّم للقتل، كما جاء ذلك في صحيح البخاري، ففيه ما نصّه:
“حدّثني إبراهيم بن موسى، أخبرنا هشام بن يوسف، عن مَعْمَر، عن الزُّهْرِي، عن عمرو بن أبي سفيان الثقفي، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم سريةً عينًا وأمّر عليهم عاصم بن ثابت – وهو جدّ عاصم بن عمر بن الخطّاب – فانطلقوا حتى إذا كانوا بين عُسْفان ومكة ذُكِرُوا لحيّ من هُذيل يقال لهم بنو لحيان فتبعوهم بقريب من مائة رام، فاقتصوا ءاثارهم حتى أتوا منزلاً نزلوه فوجدوا فيه نوى تمر تزوّدوه من المدينة فقالوا: هذا تمر يثرب، فتبعوا ءاثارهم حتى لحقوهم، فلما انتهى عاصم واصحابه لجؤوا إلى فَدْفَد، وجاء القوم فأحاطوا بهم فقالوا: لكم العهد والميثاق إن نزلتم إلينا أن لا نقتل منكم رجلاً. فقال عاصم: أما أنا فلا أنزل في ذمّة كافر اللّهمّ أخبر عنّا نبيّك، فقاتلوهم حتى قتلوا عاصمًا في سبعة نفر بالنبل، وبقي خبيب وزيد ورجل ءاخر فأعطَوْهم العهد والميثاق، فلما أعطوهم العهد والميثاق نزلوا إليهم، فلما استمكنوا منهم حلّوا أوتار قسيّهم فربطوهم بها، فقال الرجل الثالث الذي معهما هذا أول الغدر، فأبى أن يصحبهم فجرّروه وعالجوه على أن يصحبهم فلم يفعل فقتلوه، وانطلقوا بخبيب وزيد حتى باعوهما بمكة، فاشترى خبيبًا بنو الحٰرث بن عامر بن نوفل، وكان خبيبٌ هو قتل الحٰرث يوم بدر فمكث عندهم أسيرًا حتى إذا أجمعوا قتله استعار موسى من بعض بنات الحٰرث ليستحدّ بها فأعارته، قالت: فغفلت عن صبي لي فدرج إليه حتى أتاه فوضعه على فخذه، فلما رأيته فزعت فزعة عرف ذاك منّي وفي يده الموسى فقال: أتخشين أن أقتله؟ ما كنت لأفعل ذاك إن شاء الله، وكانت تقول: ما رأيت أسيرًا قطّ خيرًا من خبيب، لقد رأيته يأكل من قِطْفِ عنب وما بمكّة يومئذ ثمرة، وإنه لموثق في الحديد وما كان إلا رزقًا رزقه الله، فخرجوا به من الحرم ليقتلوه، فقال: دعوني أصلّي ركعتين، ثم انصرف إليهم فقال: لولا أن تروا أن ما بي جزع من الموت لزدت، فكان أوّل مَن سنّ الركعتين عند القتل هو، ثم قال: اللّهمّ أحصهم عددًا، ثم قال:
فلستُ أبالي حِينَ أُقْتَلُ مُسلمًا
عَلَى أيّ شقّ كان لله مَصْرَعِي
وذلك في ذاتِ الإِلهِ وإِنْ يَشَأْ
يُباركْ على أوْصالِ شِلوٍ مُمَزَّعِ
ثم قام إليه عُقبة بن الحٰرث فقتله. وبعثت قريش إلى عاصم ليُؤتوا بشىء من جسده يعرفونه، وكان عاصم قتل عظيمًا من عظمائهم يوم بدر، فبعث الله عليه مثل الظُّلَّةِ من الدَّبْر فحمتْهُ من رسلهم، فلم يقدروا منه على شىء” اهــ.
* نقط يحيى بن يعمر المصاحف
ومما يدلّ أيضًا على ذلك أن الصحابة الذين كتبوا الوحي الذي أملاه عليهم الرسول، كانوا يكتبون الباء والتاء ونحوهما بلا نقط، ثم عثمان بن عفّان لما كتب ستة مصاحف وأرسل ببعضها إلى الآفاق إلى البصرة ومكّة وغيرهما واستبقى عنده نسخة كانت غير منقوطة. وإنما أوّل مَن نقط المصاحف رجل من التابعين من أهل العلم والفضل والتقوى، يقال له يحيى بن يعمر.
ففي كتاب المصاحف لابن أبي داود السجستاني ما نصّه: “حدّثنا عبد الله، حدّثنا محمّد بن عبد الله المخزوميُّ، حدّثنا أحمد بن نصر بن مالك، حدّثنا الحسين بن الوليد، عن هارون بن موسى قال: أوّل مَن نقط المصاحف يحيى بن يعمر” اهــ. وكان قبل ذلك يكتب بلا نقط، فلما فعل هذا لم ينكر العلماء عليه ذلك، مع أن الرسول ما أمر بنقط المصحف، فمن قال كل شىء لم يُفعل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعة ضلالة فليبدأ بكشط النقط من المصاحف حتى ابن تيمية زعيمهم ذكر في فتاويه ما نصه: “قيل: لا يكره ذلك لأنه بدعة، وقيل: لا يكره للحاجة إليه، وقيل: يكره النقط دون الشكل لبيان الإعراب، والصحيح أنه لا بأس به” اه.
* زيادة عثمان رضي الله عنه أذانًا ثانيًا يوم الجمعة
روى البخاري في صحيحه قال: “حدّثنا ءادم قال: حدّثنا ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن السائب بن يزيد قال: كان النداء يوم الجمعة أوّلُه إذا جلس الإِمام على المنبر، على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فلما كان عثمان رضي الله عنه وكثر الناس زادَ النداءَ الثالثَ على الزَّوْراء”.
قال الحافظ في شرح هذا الحديث: “وله في رواية وكيع عن ابن أبي ذئب: كان الأذان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر أذانين يوم الجمعة، قال ابن خزيمة: قوله: “أذانين” يريد الأذان والإِقامة، يعني تغليبًا، أو لاشتراكهما في الإِعلام كما تقدّم في أبواب الأذان” اهــ.
ثمَّ يقول: “قوله: “زاد النداء الثالث” في رواية وكيع عن ابن أبي ذئب فأمر عثمان بالأذان الأول، ونحوه للشافعيّ من هذا الوجه، ولا منافاة بينهما لأنه باعتبار كونه مزيدًا يسمّى ثالثًا وباعتبار كونه جُعل مقدّمًا على الأذان والإِقامة يسمّى أولاً، ولفظ رواية عقيل الآتية بعد بابين: “أنّ التأذين بالثاني أمر به عثمان” وتسميته ثانيًا أيضًا متوجه بالنظر إلى الأذان الحقيقيّ لا الإِقامة”. اهــ.
وهذه بدعة أحدثها عثمان رضي الله عنه، فهل يقتصر هؤلاء الذين يقولون لا تكون البدعة إلا بدعة ضلالة على أذان واحد يوم الجمعة كما كان الأمر أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم أم يؤذّنون أذانين كما فعل عثمان، فما هذا التناقض بين فعلهم وقولهم.
* الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم:
ومن البدع الحسنة الاحتفال بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم، فهذا العمل لم يكن في عهد النبيّ ولا فيما يليه، إنّما أحدث في أوائل الستمائة للهجرة، وأول مَن أحدثه ملك إربل، وكان عالمًا تقيًّا شجاعًا يقال له المظفّر، وجمع لهذا كثيرًا من العلماء فيهم من أهل الحديث والصوفية الصادقين، فاستحسن ذلك العمل العلماء في مشارق الأرض ومغاربها منهم الحافظ ابن حجر العسقلاني وتلميذه الحافظ السّخاوي، وكذلك الحافظ السيوطي.
فقد ذكر الحافظ السخاوي في فتاويه أنَّ عمل المولد حدث بعد القرون الثلاثة، ثم لا زال أهل الإِسلام من سائر الأقطار في المدن الكبار يعملون المولد ويتصدّقون في لياليه بأنواع الصدقات، ويعتنون بقراءة مولده الكريم ويظهر عليهم من بركاته كل فضل عميم.
وللحافظ السيوطي رسالة سمّاها “حسن المقصد في عمل المولد” قال: “فقد وقع السؤال عن عمل المولد النبويّ في شهر ربيع الأول ما حكمه من حيث الشرع، وهل هو محمود أم مذموم، وهل يُثاب فاعله أم لا؟ والجواب عندي أنَّ أصل عمل المولد الذي هو اجتماع الناس وقراءة ما تيسّر من القرءان ورواية الأخبار الواردة في مبدإ أمر النبيّ وما وقع في مولده من الآيات، ثمّ يمدّ لهم سِماط يأكلونه وينصرفون من غير زيادة على ذلك هو من البدع الحسنة التي يُثاب عليها صاحبها لما فيه من تعظيم قدر النبيّ وإظهار الفرح والاستبشار بمولده الشريف صلى الله عليه وسلم، وأول مَن أحدث ذلك صاحب إربل الملك المظفر أبو سعيد كوكبري بن زين الدين بن بكتكين أحد الملوك الأمجاد والكبراء والأجواد، وكان له ءاثار حسنة وهو الذي عمَّر الجامع المظفري بسفح قاسيون” اهــ.
وقد سئل الحافظ السخاوي عن عمل المولد فقال ما نصه:
– سئلت عن أصل عمل المولد الشريف.
فأجبت: لم ينقل عن أحد من السلف الصالح في القرون الثلاثة الفاضلة، وإنما حدث بعد، ثم ما زال أهل الإسلام في سائر الأقطار والمدن العظام يحتفلون في شهر مولده صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم يعملون الولائم البديعة المشتملة على الأمور البهجة الرفيعة، ويتصدقون في لياليه بأنواع الصدقات، ويظهرون السرور، ويزيدون في المبرات بل يعتنون بقراءة مولده الكريم وتظهر عليهم من بركاته كل فضل عميم بحيث كان مما جُرب قاله الإمام شمس الدين ابن الجزري: ومن خواصه أنه أمان تام في ذلك العام ويسوى بعَجل حينئذ بما ينبغي ويرام، وأكثرهم بذلك عناية أهل مصر والشام، ولسلطان مصر في تلك الليلة من العام أعظم عام، قال: ولقد حضرت في سنة خمس وثمانين وسبعمائة ليلة مولد عند الملك الظاهر برقوق – رحمه الله – بقلعة الجبل فرأيت ما هالني فيه، حرزت ما أنفق في تلك الليلة على القراء والحاضرين من الوعاظ والمنشدين وغيرهم بنحو عشرة ءالاف مثقال من الذهب العين ما بين خلع ومطعوم ومشروب ومشموم وشموع وغير ذلك وعددت في ذلك المجلس خمسًا وعشرين جوقة من القراء الصبيان ولم ينزل واحد منهم إلا بنحو عشرين خِلعة من السلطان والأمراء يعني من الخلع الفاخرة البهية، ثم لم يزل ملوك مصر خدام الحرمين الشريفين ممن وفقهم الله لهدم كثير من… ونظروا في أمر رعيتهم كالوالد لولده وأشهروا أنفسهم بالعدل وأسعفهم المولى بجنده ومدده كالملك السعيد الشهيد الظاهر أبي سعيد جقمق ويعتنون ويتوجهون طريق سنته بحيث إنه ثبت حرف القراء في أيام تتعين للرفادة على ثلاثين فذكروا بكل جميل وكفوا من المهمات كل عريض طويل، وأما ملوك الأندلس والمغرب فلهم فيه ليلة يسير بها الركبان يجمع فيها أئمة العلماء من كل مكان ويعلو بها بين أهل الكفر به الإيمان وأهله بمكة فيتوجهون إلى المكان المتواتر بين الناس أنه محل مولده وهو في سوق الليل رجاء بلوغ كل منهم بذلك لقصده، ويزيد اهتمامهم به على يوم العيد حتى لم يتخلف عنه أحد من صالح ولا طالح ومقل وسعيد، وكان للملك المظفر صاحب إربل كذلك فيها أتم عناية واهتمامًا بشأنه، جاوز الغاية، أثنى عليه به العلامة أبو شامة أحد شيوخ النووي الفائق في الاستقامة في كتاب الباعث على إنكار البدع والحوادث وقال: مثل هذا الحسن يتقرب إليه ويشكر فاعله ويثنى عليه”.
ثم قال الحافظ ما نصه: “قلت: بل خرج شيخنا شيخ مشايخ الإسلام خاتمة الأئمة الأعلام فعله على أصل ثابت وهو ما ثبت في الصحيحين من أنه صلى الله عليه وسلم دخل المدينة فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فسألهم فقالوا: هو يوم أغرق الله سبحانه وتعالى فيه فرعون ونجّى موسى عليه السلام، فنحن نصومه شكرًا لله عزَّ وجلَّ، فقال صلى الله عليه وسلم: “فأنا أحق بموسى عليه السلام منكم، فصامه وأمر بصيامه”، وقال: “إن عشت إلى قابل… الحديث”. قال شيخنا: فيستفاد منه فعله الشكر لله تعالى على ما مَنّ به في يوم معيّن من إسداء نعمة أو دفع نقمة ويعاد ذلك في نظير ذلك اليوم من كل سنة، والشكر لله تعالى يحصل بأنواع العبادة، كالسجود والصيام والتلاوة، وأي نعمة أعظم من النعمة ببروز هذا النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم، وعلى هذا ينبغي أن يقتصر فيه على ما يفهم الشكر لله تعالى من نحو ما ذكر، أما ما يتبعه من السماع واللهو وغيرهما فينبغي أن يقال: ما كان من ذلك مباحًا بحيث يعين السرور بذلك اليوم فلا بأس بإلحاقه، ومهما كان حرامًا أو مكروهًا فيمنع، وكذا ما كان خلاف الأولى.
قلت: ولما كان الزاهد القدوة المعمر أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن جماعة بالمدينة النبوية كان يعمل طعامًا في المولد النبوي ويطعم الناس ويقول: لو تمكنت عملت بطول الشهر كل يوم مولدًا انتهى.
ولأجل ما انضم إليه من المناكير أطال ابن الحاج في مدخله في تقبيح فعله ومنع الظاهر جَقمق رحمه الله من فعله بطِنتداء.
قال شيخنا: ثم ينبغي أن يتحرى اليوم بعينه وإن كان ولد ليلًا فليقع الشكر بما يناسب الليل كالإطعام وإن كان ولد نهارًا فبما يناسبه كالصيام، ولا بد أن يكون ذلك اليوم من عدد أيام ذلك الشهر بعينه حتى يطابق قصة موسى عليه السلام في يوم عاشوراء ومن لم يلاحظ ذلك لا يبالي بعمل المولد في أي يوم من الشهر بل توسع قوم فنقلوه إلى يوم من السنة وفيه ما فيه.
قلت: كان مولده الشريف على الأصح ليلة الاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول، وقيل: لليلتين خلتا منه، وقيل: لثمان، وقيل: لعشر وقيل غير ذلك، وحينئذ فلا بأس بفعل الخير في هذه الأيام والليالي على حسب الاستطاعة بل يحسن في أيام الشهر كلها ولياليه.
وأما قراءة المولد فينبغي أن يقتصر منه على ما أورده أئمة الحديث في تصانيفهم المختصة به كالمورد الهني للعراقي، وقد حدثتُ به في المحل المشار إليه بمكة، وغير المختصة به بل ذكر ضمنًا كدلائل النبوة للبيهقي، وقد ختم عليَّ بالروضة النبوية لأن أكثر ما بأيدي الوعاظ منه كذب واختلاق، بل لم يزالوا يولدون فيه ما هو أقبح وأسمج مما لا تحل روايته ولا سماعه، بل يجب على من علم بطلانه إنكاره الأمر بترك قراءته على أنه لا ضرورة إلى سياق ذكر المولد، بل يكتفي بالتلاوة والإطعام والصدقة، وإنشاد شىء من المدائح النبوية والزهدية المحركة للقلوب إلى فعل الخير والعمل للآخرة والله يهدي من يشاء” اهــ.
* الجهر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الأذان
ومنها الجهرُ بالصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد الأذان، وحدث هذا بعد سنة سبعمائة، وكانوا قبل ذلك لا يجهرون بها.
قال الحافظ السيوطي في الوسائل في مسامرة الأوائل ما نصّه: “أول ما زيد “الصلاة والسلام” بعد كل أذان في المنارة في زمن السلطان المنصور حاجِيّ بن الأشرف شعبان بن حسين بن الناصر محمد بن المنصور قلاوون بأمر المحتسب نجم الدين الطنبدي وذلك في شعبان سنة إحدى وتسعين وسبعمائة، وكان حدث قبل ذلك في أيام السلطان صلاح الدين ابن أيوب أن يقال في كل ليلة قبل أذان الفجر بمصر والشام: “السلام على رسول الله” واستمر ذلك إلى سنة سبع وستين وسبعمائة فزيد بأمر المحتسب صلاح الدين البَرَلُّسي أن يقال: “الصلاة والسلام عليك يا رسول الله” ثم جعل في عقب كل أذان سنة إحدى وتسعين”. اهــ.
قال الحطاب المالكي في كتابه مواهب الجليل ما نصه: “وقال السخاوي في القول البديع: أحدث المؤذنون الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم عقب الأذان للفرائض الخمس إلا الصبح والجمعة فإنهم يقدمون ذلك قبل الأذان وإلا المغرب فلا يفعلونه لضيق وقتها، وكان ابتداء حدوثه في أيام الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب وبأمره وذكر بعضهم أن أمر الصلاح بن أيوب بذلك كان في أذان العشاء ليلة الجمعة، ثم إن بعض الفقراء زعم أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن يقول للمحتسب أن يأمر المؤذنين أن يصلّوا عليه عقب كل أذان، فسرّ المحتسب بهذه الرؤيا فأمر بذلك واستمر إلى يومنا هذا. وقد اختلف في ذلك هل هو مستحب أو مكروه أو بدعة أو مشروع، واستدلّ للأول بقوله تعالى: وَافْعَلُوا الْخَيْرَ {77} { س} [سورة الحج]، ومعلوم أن الصلاة والسلام من أجلّ القرب لا سيما وقد تواترت الأخبار على الحثّ على ذلك مع ما جاء في فضل الدعاء عقبه والثلث الأخير وقرب الفجر، والصواب أنه بدعة حسنة وفاعله بحسب نيّته”. انتهى.
ويكفي في إثبات كون الجهر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بدعة مستحبة عقب الأذان قوله عليه الصلاة والسلام: “إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول، ثم صلّوا عليّ” وقوله عليه الصلاة والسّلام: “من ذكرني فليصلِّ عليَّ” أخرجه الحافظ السخاوي في كتابه “القول البديع في الصَّلاة على النبي الشفيع” وغيرُه، فيؤخذ من ذلك أن المؤذن والمستمع كلاهما مطلوب منه الصلاة على النبي، وهذا يحصل بالسّر والجهر. فإن قال قائل: لم ينقل عن مؤذني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم جهروا بالصَّلاة عليه، قلنا: لم يقل النبي لا تصلّوا عليّ إلا سرًّا، وليس كل ما لم يفعل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حرامًا أو مكروهًا، إنما الأمر في ذلك يتوقف على ورود نهي بنص أو استنباط من مجتهد من المجتهدين كمالك وأحمد والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم ممن جاء بعدهم من المجتهدين الذين هم مستوفو الشروط كالحافظ ابن المنذر وابن جرير ممن لهم القياس أي قياس ما لم يرد فيه نص على ما ورد فيه نص، والجهر بالصلاة على النبي عقب الأذان توارد عليه المسلمون منذ قرون فاعتبره العلماء من محدثين وفقهاء بدعة مستحبّة منهم الحافظ السخاوي والسيوطي كما تقدم.
تنبيه: بعض الناس يقولون: “اللهم صلي بالياء” وهذ غلط فاحش ينبغي التنبه منه، يقول العالم العلامة طه بن عمر بن طه بن عمر السقاف الحضرمي المتوفى سنة 1063ه في كتابه المجموع لمهمات المسائل من الفروع ما نصه: “وقال عبد الله بن عمر: من قال في تشهده اللهم صلّي بالياء لم يجزه ولو جاهلًا أو ناسيًا، بل العامد العالم بالعربية يكفر به لأنّه خطاب المؤنث، وأفتى عبد الله بن عمر الحضرمي أيضًا فيمن قال: السلام من عليكم بزيادة “من” عامدًا بطلت صلاته، أو ناسيًا أو جاهلًا فلا، لكن لا يجزيه” اهــ.
* كتابة (صلى الله عليه وسلم) عند كتابة اسم النبي
ومنها كتابة صلى الله عليه وسلم عند كتابة اسمه، ولم يكتب النبيّ ذلك في رسائله التي أرسل بها إلى الملوك والرؤساء، وإنما كان يكتب من محمّد رسول الله إلى فلان.
* الطرق التي أحدثها بعض الصالحين
ومنها الطرق التي أحدثها بعض أهل الله كالرفاعية والقادرية وغيرها وهي نحو أربعين، فهذه الطرق أصلها بدع حسنة، ولكن شذّ بعض المنتسبين إليها وهذا لا يقدح في أصلها.
بدعة الضلالة
والبدعة على نوعين: بدعة تتعلق بأصول الدين وبدعة تتعلق بفروعه.
فأما البدعة التي تتعلق بأصول الدين، فهي التي حدثت في العقائد وهي مخالفة لما كان عليه الصحابة في المعتقد، وأمثلتها كثيرة منها:
* بدعة إنكار القدر: وأول مَن أظهرها معبد الجهني بالبصرة، كما في صحيح مسلم عن يحيى بن يعمر ويسمّى هؤلاء القدرية، فيزعمون أنَّ الله لم يقدّر أفعال العباد الاختيارية ولم يخلقها وإنَّما هي بخلق العباد، ومنهم مَن يزعم أنّ الله قدّر الخير ولم يقدّر الشرَّ، ويزعمون أنَّ المرتكب للكبيرة ليس بمؤمن ولا كافر بل هو في منزلة بين المنزلتين، وينكرون الشفاعة في العصاة، ورؤية الله تعالى في الجنّة.
* بدعة الجهمية: ويسمّون الجبرية أتباع جهم بن صفوان يقولون: إنَّ العبد مجبور في أفعاله لا اختيار له، وإنما هو كالريشة المعلّقة في الهواء يأخذها الهواء يَمنة ويسْرة.
* بدعة الخوارج: الذين خرجوا على سيّدنا عليّ رضي الله عنه، ويكفّرون مرتكب الكبيرة.
* بدعة القول بحوادث لا أوّل لها: وهي مخالفة لصريح العقل والنقل.
* بدعة القول بعدم جواز التوسل بالأنبياء والصالحين بعد وفاتهم، أو في حياتهم في غير حضرتهم: وأول من أحدثها أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني، توفي سنة 728ه.
وأما البدعة التي تتعلق بالفروع فهي المنقسمة التقسيم المذكور ءانفًا.
البدع السيئة العملية:
ومن البدع السيئة العملية:
* كتابة (ص) بعد كتابة اسم النبي صلى الله عليه وسلم، وأسوأ منها وأقبح (صلعم).
* ومنها تيمّم بعض الناس على السجاد والوسائد التي ليس عليها غبار التراب.
* ومنها تحريف اسم الله، كما يحصل من كثير من المنتسبين إلى الطرق، فإنَّ بعضهم يبدءون به “الله” ثمَّ إما أن يحذفوا الألف التي بين اللام والهاء فينطقون بها بلا مدّ، وإما أن يحذفوا الهاء نفسها فيقولون “اللا”، ومنهم مَن يقول “ءاه” وهو لفظ موضوع للتوجّع والشكاية بإجماع أهل اللغة، قال الخليل بن أحمد: “لا تطرح الألف من الاسم، إنما هو الله عزّ ذِكره على التمام”، وقد أفردنا هذه المسألة في هذا الكتاب بالرد.
فإن قيل: أليس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو داود عن العرباض بن سارية: “وإيّاكم ومحدثات الأمور فإنَّ كلّ محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة”.
فالجواب: أنَّ هذا الحديث لفظه عام ومعناه مخصوص بدليل الأحاديث السابق ذكرها فيقال: إن مراد النبيّ صلى الله عليه وسلم ما أحدث وكان على خلاف الكتاب أو السنّة أو الإِجماع أو الأثر.
وفي شرح النووي لصحيح مسلم ما نصّه: “قوله صلى الله عليه وسلم: وكل بدعة ضلالة” هذا عام مخصوص والمراد به غالب البدع اهــ.
ثم قسّم البدعة إلى خمسة أقسام: واجبة ومندوبة ومحرّمة ومكروهة ومباحة. وقال: “فإذا عُرِفَ ما ذكرته عُلِم أنَّ الحديث من العام المخصوص، وكذا ما أشبهه من الأحاديث الواردة، ويؤيّد ما قلناه قول عمر بن الخطّاب رضي الله عنه في التراويح: “نعمت البدعة”. ولا يمنع من كون الحديث عامًّا مخصوصًا قوله: “كل بدعة” مؤكدًا بكل، بل يدخله التخصيص مع ذلك كقوله تعالى: تُدَمِّرُ كُلَّ شَىْءٍ {25} [سورة الأحقاف]”. اهــ .ومعناه تدمر الريح كلّ شىء مرت عليه من رجال عادٍ وأموالها.