بيان أن عقيدة الحلول والاتحاد عقيدة كفرية مخالفة للإسلام
تساهل بعض الناس واستحلوا النطق بكلمات الكفر في غير محله وادعوا أن لها تأويلًا، ومن أمثلة ذلك ما ادعاه بعض جهلة المتصوفة أن هذا البيت الذي ينشده بعض أدعياء الشاذلية وغيرهم في حضرة الذكر وهو قولهم:
فما في الوجود سوى واحد
ولكن تكثر لما صفا
فقال بعض هؤلاء: إن تأويله أن الله تكثَّر بصفاته.
قلنا: هذا تأويل بعيد وفيه زيادة في الكفر لأن هذا البيت فيه نسبة التغير إلى الله تعالى وهذا كفر، ونسبة حدوث الصفاء في ذاته تعالى كفر، ونسبة التكثر إلى الله تعالى كفر، والله تعالى مستحيل عليه التغير فهو تعالى ذاته أزلي وصفاته أزلية بأزلية الذات، ولا يوصف الله بالصفاء ولا بالكدر لأن هذه أوصاف الخلق.
وعلى كل تقدير لا يجوز إثبات صفة لله لم ترد في الكتاب والسنة حتى بقول صحابي لا تثبت كما قال الفقيه الحافظ أبو بكر الخطيب في كتابه “الفقيه والمتفقه”، فكيف تثبت بغيره.
وهذا البيت موجود في بعض الكتب وفي الديوان المنسوب للشيخ عبد الغني النابلسي رضي الله عنه ولا نراه صحيحًا عنه بل نرى أنه مدسوس عليه ومفترى كما دُس على الشيخ محي الدين بن عربي رضي الله عنه كما قال صاحب “المعروضات المزبورة” الحنفي: “قد تيقنا أن اليهود دسوا عليه” وهذا الظن هو اللائق به وبأمثاله.
وليعلم أن كتاب “الفتوحات المكية” يحتوي على كلمات كثيرة من الكفر الصريح الذي لا تأويل له كما قال المحدث الحافظ وليُّ الدين العراقي في رسالة له سماها “الأجوبة المرضية”، وكذا كتاب “فصوص الحكم” وبعض غيرهما من مؤلفات الشيخ محي الدين بن عربي رضي الله عنه.
وأما الشيخ محي الدين بن عربي رضي الله عنه فاعتقادنا فيه أنه من العلماء الصالحين والصوفية الصادقين الزاهدين، ترجمه الحافظ ابن حجر في لسان الميزان وذكر أنه اعتدَّ به حفاظ عصره كابن النجار وغيره.
وأكثر ما في كتابيه المذكورَين مما هو مدسوس عليه مما ليس من كلامه كلمات الوحدة المطلقة ففي كتابه “الفتوحات المكية” ما يخالف ذلك فإن فيها ذم عقيدة الوحدة المطلقة وذم عقيدة الحلول.
فمما فيه لإبطال الوحدة المطلقة والحلول قوله في كتاب الأسرار من “الفتوحات المكية” ونص عبارته: “ما قال بالاتحاد إلا أهل الإلحاد، ومن قال بالحلول فدينه معلول” اهــ.
فبعد هاتين العبارتين الصريحتين في إبطال عقيدة الوحدة المطلقة وعقيدة الحلول لا يجوز أن يُصَدَّق على الشيخ محي الدين رضي الله عنه ما في بعض المواضع الأخرى من هذا النوع.
وقد حضرتُ مجلس الشيخ الولي أحمد الحارون الدمشقي رحمه الله وكان معروفًا في بلده دمشق بالكشف فسألته عن عبارة نسبها بعض الناس إلى الشيخ ابن عربي الفتوحات المكية فقال الشيخ أحمد: “هذا الشيخ ما له حق في أن يذكر هذا، الفتوحات المكية فيها دس كثير” اهــ.
وقد قال الشيخ عبد الوهاب الشعراني رضي الله عنه في كتابه “لطائف المنن والأخلاق” ما يؤيد ما ذكرنا ونصه: “وقد نقل الشيخ محي الدين بن العربي في الفتوحات المكية إجماع المحققين على أن من شرط الكامل أن لا يكون عنده شطح عن ظاهر الشريعة أبدًا بل يرى أن من الواجب عليه أن يُحِقَّ الحقَّ ويُبطل الباطل ويَعمَلَ على الخروج من خلاف العلماء ما أمكن. انتهى. هذا لفظه بحروفه ومن تأمله وفهمه عرف أن جميع المواضع التي فيها شطحٌ في كتبه مدسوسة عليه لا سيما كتاب “الفتوحات المكية” فإنه وضعه حال كماله بيقين، وقد فرغ منه قبيل موته بنحو ثلاث سنين، وبقرينة ما قاله في “الفتوحات المكية” في مواضع كثيرة من أن الشطح كله رعونة نفس لا يصدر قط من محقق، وبقرينة قوله أيضًا في مواضع: من أراد أن لا يضلَّ فلا يَرمِ ميزان الشريعة من يده طرفة عين بل يستصحبها ليلًا ونهارًا عند كل قول وفعل واعتقاد انتهى” انتهى كلام الشعراني.
ثم قال الشيخ الشعراني في “لطائف المنن” ما نصه: “وليُحذَر أيضًا من مطالعة كتب الشيخ محي الدين بن عربي رضي الله تعالى عنه لعلو مراقيها ولما فيها من الكلام المدسوس على الشيخ لا سيما الفصوص والفتوحات المكية، فقد أخبرني الشيخ أبو طاهر عن شيخه عن الشيخ بدر الدين بن جماعة أنه كان يقول: جميع ما في كتب الشيخ محي الدين من الأمور المخالفة لكلام العلماء فهو مدسوس عليه، وكذلك كان يقول الشيخ مجد الدين صاحب القاموس في اللغة.
قلتُ: وقد اختصرتُ الفتوحات المكية وحذفتُ منها كل ما يخالف ظاهر الشريعة فلما أَخبرت بأنهم دسوا في كتب الشيخ ما يوهم الحلول والاتحاد وَرَدَ عليَّ الشيخ شمس الدين المدني بنسخة الفتوحات التي قابلها على خط الشيخ بقونية فلم أجد فيها شيئًا من ذلك الذي حذفته ففرحت بذلك غاية الفرح فالحمد لله على ذلك” انتهى كلام الشعراني.
وقال الشيخ أبو الهدى الصيادي ما نصه: “والكثير من هذه الفرقة قام قائمهم وقعد قاعدهم منهمكًا بمطالعة كتب الشيخ محي الدين بن عربي طاب مرقده، ولا بدع فكتب الشيخ كَثُرَت فيها الدسائس من قِبَل ذوي الزيغ والبهتان وعصائب الشيطان، وهذا الذي يطيب القول به لمن يريد براءة الذمة من القطع بما لم يعلم والله تعالى قال: وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ {36} [سورة الإسراء]، وقد نسبوا أعني الدساسين للشيخ ما لا يصح لا عقلًا ولا شرعًا، ولا ينطبق على حكمة نظرية ولا يوافق صحاح القواعد العرفانية” اهــ.
ثم قال بعد كلام ما نصه: “والحق يقال: الذي عليه أهل الورع من علماء الدين أنه لا يحكم على ابن عربي رحمه الله نفسه بشىء لأنا لسنا على يقين من صدور مثل هذه الكلمات منه ولا من استمراره عليه إلى وفاته، ولكنا نحكم على مثل هذا الكلام بأنه كفر” اهــ.
وقال صاحب “المعروضات المزبورة” أحد الفقهاء الحنفية المشهورين: “تيقنا أن اليهود دسوا عليه في فصوص الحكم” اهــ.
قلت: وهذا الكلام المنسوب للشيخ محي الدين ليس من دين الله وهو مناف للتوحيد الذي هو أصل الدين وأصل التصوف الإسلامي، فما هذا الكلام إلا زندقةً وهو كفر صريح لا تأويل له، وهو دس على الشيخ محي الدين بن عربي رضي الله عنه فهو لا يتفوه بمثل هذا الكلام المنافي للتوحيد ولعقيدة المسلمين.
وقد وقع الشطح والغلو من كثير من المنتسبين للطرق الصوفية لاسيما في عصرنا هذا فاعتقدوا اعتقادات كفرية وتلفظوا بأقوال شنيعة وهم يظنون أنهم يتكلمون بالأسرار التي تخفى على مخالفيهم وأنهم على مرتبة ومقام عال والواقع أنهم ينطبق عليهم قول الله تعالى: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا {103} الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا {104} [سورة الكهف].
والعجب كيف ينتسبون إلى التصوف الإسلامي وهم ضد الصوفية لأن التصوف الإسلامي ما ذهب إليه الجنيد وأمثاله وهو موافق للنصوص القرءانية كقوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ، وقوله تعالى: قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ {1} اللهُ الصَّمَدُ {2} لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ {3} وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ {4} [سورة الإخلاص]، فإن هذا صريح في أن الله ليس أصلًا لغيره ولا فرعًا عن غيره، فهؤلاء القائلون بالوحدة والحلول مصادمون لهذا النص وغيره، فكفرهم أسمج الكفر وأشنعه..
وهؤلاء الأدعياء مخالفون أيضًا لسيد الطائفة الصوفية الإمام الجنيد بن محمد البغدادي رضي الله عنه فقد قال: “التوحيد إفراد القديم من المحدَث”، فقول الإمام الجنيد في واد وهؤلاء الجهلة الذين يقولون مرة بعبارات الوحدة ومرة بعبارات الحلول أي حلول الله في خلقه في واد ءاخر، فما أبعد ما بين الواديين.
وقد تجرأ بعضهم فقال: “وقد ألف السادة الصوفية نفعنا الله بهم الكتب والرسائل في إثبات وحدة الوجود وأقاموا الأدلة النقلية والعقلية على إثباتها” اهــ.
الجواب: هذا الكلام مردود لأن الصوفية الذين على نهج الإمام الجنيد البغدادي رضي الله عنه ردوا هذه العقيدة الفاسدة قال السيد أبو العلمين الإمام أحمد الرفاعي رضي الله عنه: “إياك والقولَ بالوحدة فإنه من الأباطيل”، وقال أيضًا ما نصه: “لفظتان ثُلمتان في الدين: القول بالوحدة، والشطح المجاوزُ حدَّ التحدث بالنعمة”، وذم الشيخ محي الدين بن عربي رضي الله عنه في كتابه “الفتوحات” عقيدة وحدة الوجود وعقيدة الحلول وقال قولا شديدًا في ذم هاتين العقيدتين ونصه: “من قال بالحلول فدينه معلول، وما قال بالاتحاد إلا أهل الإلحاد”، فكيف بعد هذا يقول هذا المؤلف إن هذا قول السادة الصوفية، وكيف يتجرأ أن ينسب إليهم ما هو ضد التوحيد.
قال الشيخ أبو الهدى الصيادي الرفاعي في كتابه مراحل السالكين ما نصه: “ومن أشرف مراتب الصبر مرتبة الصبر عن الكلام في الذات والصفات والوقوف مع ظواهر النصوص في العموم والخصوص، فكم زلق بمثل هذا الكلام زالق وكم فارق بالخوض فيه للحق مفارق، نعق ناعقهم فتدرج والعياذ بالله تعالى إلى القول بوحدة الوجود المطلقة واندفع مع تلك المزلقة، وزعم أن علوم أهل الله تعالى هي عبارة عن هذه الأغلاط السقيمة والكلمات الذميمة، وقفى ما لم يعلم وأراد أن يصعد إلى السطح بغير سُلَّم، وتكلم بما سكت عنه الأنبياء والمرسلون، وتباعد عن الخوض به الآل والصحابة والوارثون والصديقون والمقربون، حتى صار والعياذ بالله ملعبة الشيطان، وخبط عقله خابط النقصان، واخترع من مخيلته لقلقة الزور والبهتان، ووقف مع إبليس في مراتعه، وحرَّفَ الكلم عن مواضعه، وهدم جدران الحقيقة، وسلك من طرق الزندقة والإلحاد أسوء طريقة، وادعى الوصلة ولكن إلى النار وبئس القرار، وفارق منهاج السلف الأخيار.
وقد أدَّبَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلغنا الأحكام كلها، وتركنا على محجة بيضاء ليلها كنهارها، ولم يأت في كتاب الله ولا في سنة رسوله عليه الصلاة والسلام ما يشير لهذه الأغاليط التي وضعها واضعهم حتى زلق والعياذ بالله فجعل الخلق عين الخالق والمرزوق هو الرازق، وخلط وغلط ولم يكتف حتى زعم أن زندقته هي الطريقة المُثلى والمحجة الموصلة إلى [الله]، وجعل الكفر سعيًا مشكورًا والإلحاد طريقًا مبرورًا وظلمة الباطل نورًا.
والكثير من هذه الفرقة قام قائمهم وقعد قاعدهم منهمكًا بمطالعة كتب الشيخ محي الدين بن عربي طاب مرقده، ولا بدع فكتب الشيخ كَثُرَت فيها الدسائس من قِبَل ذوي الزيغ والبهتان وعصائب الشيطان، وهذا الذي يطيب القول به لمن يريد براءة الذمة من القطع بما لم يعلم والله تعالى قال: وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ {36} [سورة الإسراء].
وقد نسبوا أعني الدساسين للشيخ ما لا يصح لا عقلًا ولا شرعًا، ولا ينطبق على حكمة نظرية ولا يوافق صحاح القواعد العرفانية، حتى تجرد لرد كلامه أمة من العلماء وبعضهم ظنًّا بل جزمًا بأن كل ذلك من كلامه أفتوا بتكفيره وقالوا فيه ما لا يقال، وحكموا عليه بذلك فيما ظهر لهم بقوله الذي لا نشك في دسه عليه” انتهى كلام الصيادي، ثم ساق بعد ذلك جملة من أقوالهم الكفرية الشنيعة التي تشمئز لها النفوس وتنفر منها القلوب.
ثم قال بعد ذلك ما نصه: “أليست هذَياناتهم هذه ودسائسهم على الشيخ وأمثاله كلّها إلحادًا وزندقة وإبطالا لجميع الشرائع وإفسادًا في دين الإسلام، لأنه معلوم بالبَداهة أن ثبوت ذواتِ الأنبياء وشرائعهم وثبوت الجنة والنار والثواب والعقاب في دار الجزاء إنما يُبتنى على ثبوت الحقائق في الخارج، وإذا انتفى ثبوتها فيه انتفى ثبوتُ ذوات الأنبياء عليهم السلام وغيرهم من الأمور المذكورة بالضرورة فلا يتأتَّى حينئذ إثبات رسول ومرسل إليه فيلزم من ذلك بطلان جميع الأمور الدّينية والتَّكاليف الشرعية.
وأما القول بإقرار الأديان وادّعاء الإيمان بالرّسل تَسترًا وتلبيسًا مع نفي الحقائق وسلب الوجود عن الأشياء المستلزم إبطالَ الشرائع فتناقضٌ ظاهرٌ ومحالٌ باهرٌ بل هو عين الزندقة والإلحاد المنافيان للشرائع والأديان فانظر وأنْصِفْ إن كنت أهلًا للإنصاف.
فلما عجزوا عن إقامة البرهان وسوق الأدلة إلى إثبات المرام بهتوا وتحصنوا مع ارتكاب أنواع المحالات الفظيعة في ترويج تلك الأباطيل الشنيعة بادعاء الكشف والعيان كما قال سعد الدين التفتازاني رحمه الله في رسالته، ويروجون تلك السفسطة النافية لدين الإسلام ولزوم الأحكام بإحالتها على الكشف ويتفوهون بأن درجة الكشف وراء طور العقل وأنت خبير بأن مرتبة الكشف نيل ما ليس له العقل ينال لا نيل ما هو ببديهة العقل محال، ولا ينبغي أن يتوهم أن ذلك من قبيل ما ليس له العقل ينال بل هو مستحيل وللعقل في إبطاله تمكن ومجال.
ثم إن ما يناله الكشف ولا يناله العقل عبارة عندهم عن الممكن الذي الطريق إليه العيان دون البرهان لا المحال الممتنع الوجود في الأعيان إذ الكشف لا يجعل الممتنع متصفًا بالإمكان موجودًا في الأعيان” اهــ.
وقال أيضًا في موضع ءاخر من تلك الرسالة: فكيف يحل لمسلم أن يسمي بالتصوف هذه الزندقة وأولئك الكفرة الزنادقة بالمتصوفة، بل التصوف في لسان القوم عبارة عن التخلق بالأخلاق النبوية والتمسك بقوائم الشريعة المطهرة المحمدية في العلمية والعملية لا عن عقيدة المعطلة والسوفسطائية والدهرية.
ومما يزيد لضلال أولئك الملحدين كشفًا وإيضاحًا ولحال أولئك المبطلين هتكًا وافتضاحًا أنهم يجمعون في إثبات تلك الزندقة الملعونة بين إقامة الحجة والبرهان وبين ادعاء ظهورها عليهم بالكشف والعيان مع أنه من المعلوم عند أهل العرفان أن التعبير عن المعلوم بالكشف والعيان ليس في حيز الإمكان لقصور العبارة عن بيان هذه الحال وتعذر الكشف عنها بالمقال فلا يمكن إيداعه في الكتب والرسائل فضلًا عن إثباته بالحجج والدلائل وناهيك ببديهة العقل الحاكمة على بطلان زندقتهم التي أصولها المكابرات وفروعها الضلالات والمحالات التي لم يسمع بمثلها من الكفرة الأقدمين لا من المجوس ولا من المشركين، انتهى.
وكما قال السيد الشريف في حاشية التجريد: ذهب جماعة من الصوفية إلى أن ليس في الواقع إلا ذات واحدة وهي حقيقة وجود ولها تقيدات بقيود اعتبارية بحسب ذلك تتراءى أي تُظَن موجودات متمايزة فيتوهم من ذلك تعدد حقيقي وليس كذلك بل الكل حقيقة واحدة كالبحر في تموجه فيتوهم الصغير الذي لا يعقل أن ذلك المرتفع والمنخفض غير الماء، أما العاقل فلا يخفى عليه أن ليس هناك إلا بحر، وتعيّن وأن هذه الحالة أمور اعتبارية فكذلك ليس في الوجود سوى الله تعالى، وأن هذه الصور المرئية والكثرة المشهودة أمور اعتبارية وخيالات وهمية ليس لها حقيقة مغايرة لحقيقة الحقّ، أقول: هذا خروج عن طور العقل فإنَّ بداهيته شاهدة بتعدد الموجودات تعدُّدًا حقيقيًّا وأنه ذوات وحقائق مختلفة بالحقيقة دون الاعتبار فقط، انتهى.
وأيضًا قال في شرح المواقف: إن حقائق الموجودات متخالفة بالضرورة وما يقال من أن الكلَّ ذات واحدة تتعدد بحسب الأوصاف لا غير فالمتقيدون بطور العقل يعدُّونه مكابرة لا يُلتفت إليها، انتهى.
وقال بعضهم: قال أصحاب الذوق الوهمي: “إذا تعارض الكشف وظاهر الشرع قدمنا الكشفَ لأن الخبر ليس كالمعاينة”، ولم يدروا أن أخبار الله ورسوله فوق مرتبة عيان الخلق فكيف بالكشف الذي هو محلُّ اللَّبس.
وقال الإمام الطحاوي رحمه الله: إن العلم علمان: علم في الخلق موجود وعلم في الخلق مفقود، فإنكار العلم الموجود كفر وادعاء العلم المفقود كفر، ولا يثبت الإيمان إلا بقبول العلم الموجود وترك طلب العلم المفقود انتهى.
أراد بالعلم المفقود علم القدر والغيب الذي طواه الله تعالى عن أنامه ونهاهم عن مرامه، وأراد بالعلم الموجود علمَ الشريعة أصولها وفروعها فمن أنكر شيئًا مما جاء به الرسل كان من الكافرين، وكذا من ادَّعى علمَ الغيب.
وأيضًا قال شارح عقيدة الطحاوي: وهذا القول الذي هو ظاهر الفساد قد قضى بقوم إلى القول بالحلول والاتحاد وهو أقبح من كفر النصارى في الاعتقاد، فإن النصارى خصُّوه بالمسيح من الكائنات وهؤلاء عمُّوا جميع الكائنات. ومن فروع هذا التوحيد عندهم والعياذ بالله أن فرعون وقومَه كاملو الإيمان عارفون بالله تعالى على التحقيق والإيقان، ومن فروعه أنه لا فرق في التحريم والتحليل بين الأم والأخت والأجنبية، ولا فرق بين الماء والخمر والزنى والنكاح فكلٌّ من عين واحدة بل هو العين الواحدة، ومن فروعه أن الأنبياء ضيَّقوا على الناس، تعالى الله عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا، انتهى.
كأنه أشار إلى أقوال دست على الشيخ محي الدين من أنه قال في الفصوص: “من ادعى الألوهية فهو صادق في دعواه”، ومن أنه أباح المكث للجنب والحائض في المسجد، وأنه يقول بقدم العالم، ومن أنه قال: “ضيق ابن أبي كبشة أمر الدنيا على الموحدين”، وأن فرعون خرج من الدنيا طاهرًا مطهرًا كما نقل ذلك عماد الدين بن كثير بسنده عن العلامة تقي الدين السبكي عن شيخ الإسلام ابن دقيق العيد القائل في ءاخر عمره: “لي أربعون سنة ما تكلمت بكلمة إلا وأعددت لها جوابًا بين يدي الله تعالى”، قال الإمام الجزري رحمه الله بعد كلام: “وبالجملة فالذي أقوله وأعتقده وسمعته ممن أثق به من شيوخي الذين هم حجة بيني وبين الله تعالى أن من صح عنه هذا الكلام وأمثاله مما يخالف الشرع المطهر وقاله وهو في عقله ومات وهو معتقد ظاهره فهو أنجس من اليهود والنصارى فإنهم لا يستحلون أن يقولوا ذلك، ولا يلتفت إلى قول من قال إن هذا الكلام المخالف لظاهر المرام ينبغي أن يؤوَّل بما يوافق أحكام الإسلام فإنه غلط من قائله وكيف يؤول قولهم:
الرب حق والعبد حق
يا ليت شعري من المكلف
وقولهم: “ما عرف الله إلا المعطلة والمجسمة لأن الله تعالى يقول: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ {11} فهذا دليل المعطلة، وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ {11} دليل المجسمة”، وقولهم: ما عبد من عبد إلا الله لأن الله تعالى يقول: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ {23} [سورة الإسراء]، وقوله في فرعون: قبضه الله تعالى طاهرًا مطهرًا لم يقترف ذنبًا والله تعالى يقول: فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ {40} وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنصَرُونَ {41} وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ {42} [سورة القصص]. ثم إنما يؤول كلام المعصوم، ولو فتح باب تأويل كل كلام ظاهر الكفر لم يكن في الأرض كافر. انتهى.
والحق يقال: الذي عليه أهل الورع من علماء الدين أنه لا يحكم على ابن عربي رحمه الله نفسه بشىء لأنا لسنا على يقين من صدور مثل هذه الكلمات منه ولا من استمراره عليه إلى وفاته، ولكنا نحكم على مثل هذا الكلام بأنه كفر.
وقد تجرأ بعضهم فقال: هذه الكلمات من اصطلاحات الصوفية توافقوا على ألفاظ وأرادوا بها معاني غير المعاني المتعارفة منها، فأجاب بعض الفضلاء عن تلبيس هذا الملبس بقوله: “إن أراد هذا المغفل بالصوفية الصوفية الحقيقية المسلمين التابعين للكتاب والسنة فزور وبهتان لأنهم إنما اصطلحوا على ألفاظ مطابقة في تفسيرها لقواعد الإسلام وأحكام الشرع غير مخالفة لشىء منها على ما هو في البرهان المؤيد والرسالة القشيرية ونحوهما.
وإن أراد بالصوفية هؤلاء الملاحدة فإننا قد اطلعنا على اصطلاحاتهم المخالفة لقواعد الإسلام بل لقواعد جميع الملل والأديان، واختبرنا مذهبهم حقيقة الاختبار فكله فاسد وإلى الوهم والخيال راجع وعائد، والسادة الصوفية أهل المراتب العلية هم كما قال الشرف المقري رحمه الله تعالى:
على الحق كانوا ليس فيهم لوحدة
ولا لحلول الحق ذكر لذاكر
ويا ليت شعري هل يجوز لأحد أن يصطلح على ما يخالف الشرع واللغة ويوجب كفر صاحبه ويصير سببًا لفتح باب الشر والفساد لسائر الملاحدة والزنادقة المبطلين، فويل ثم ويل لمن يدعي العلم ويُظهر الفضل فينخدع ويغتر بمثل هذه الشبهات الركيكة الوهمية والتلبيسات الإلحادية الزنديقية، ولم يفرق بينهما وبين الاصطلاحات الإسلامية”.
وقال بعضهم: “إن كلامهم شبيه بالمتشابه في الكتاب والسنة من حمله على ظاهره كفر وله معنى سوى المعنى المتعارف”، وقال بعض العلماء في جوابه: “بأن المتشابه هو الكلام الذي فيه اشتباه الطرفين يشبه المردود بظاهره ويحتمل المقبول بتأويل مطابق لظاهره وهذا لا يتأتى في ظاهر عباراتهم بل هي نص صريح في أن الحق هو الوجود المطلق وأن العالم صورته وهويته، وأيضًا هل يجوز لأحد غير الشارع أن يتكلم بكلمات متشابهة مخالفة للشرع ويداوم عليها ويكتبها في الكتب ويدونها في الزبر ويحرض الناس على قبولها والعمل بها كلا لا يجوز ذلك لغير الشارع صلى الله عليه وسلم أبدًا. ولا تغتر أيها المحب بقول من يقول: “إن هذه الكلمات من أمور القلب” فذلك جهل أو عناد لأن الألفاظ قوالب المعاني وموضوعة لها، والمعاني إنما تؤخذ من الألفاظ وإلا لما ثبت كفر أحد ولا إيمانه مع أن العلماء والعقلاء اجتمعوا على أن مذاهب الرجال تعرف من كلامهم في كتبهم وإلا فقد فُقِدَ الأمن من كل شىء”.
قال سعد الدين التفتازاني رحمه الله تعالى: “صرف الكلام عن ظاهره وجواز تأويله وحمله على المجاز إنما يُحكى إذا لم يصرح المتكلم أن مقصوده حقيقة الكلام ولم يقم على إثباتها البرهان، فعند التصريح وإقامة الدليل على إثبات مفهومه الصريح يصير محكمًا في إفادة الحقيقة غير قابلٍ للتأويل وحمله على المجاز، وذلك كتصريح الملاحدة الوجودية بأن الله تعالى هو الموجود المطلق المنبسط في الظاهر، ثم تلفيقهم المغالطة في صورة البرهان على إثباته ثم تفريعهم عليه بأن كل من عبد الأصنام فقد عبد الله وكل من ادعى الألوهية فهو صادق في دعواه فلذلك بعد ما صار محكمًا بالتصريح وإقامة الدليل لا يقبل التجوز والتأويل.
وبهذا يظهر لك بطلان ما يقوله الذابّون عن هؤلاء الملاحدة أن ليس مراد الوجودية ما تفهمه العامة بل لهم تأويل لا يفهمه إلا الخاصة”. انتهى.
وقولهم: “لعل له تأويلًا” عين الفساد في الدين أن يتكلم شخص بكلام هو كفر وإلحاد في ملة الإسلام ويرغب فيه ويدعو إليه ثم يقال: “لعل له تأويلًا عند أهل الباطن” وهل باطن دين الإسلام يخالف ظاهره.
فإن قالوا: “كلاهما حق”، يقال لهم: هذا مخالف لقوله تعالى فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ {32} [سورة يونس].
وأيضًا مخالف لإجماع المسلمين أن الحق واحد في الاعتقاديات التي يكفر مخالف الحق فيها، ولهذا أجمع أهل زمان الحلاج على قتله مع أن كلامه أقرب إلى إمكان التأويل من كلام غيره.
وقولهم: “صدور ذلك عنهم يكون في حال السكر والغيبة وهم غير مؤاخذين لأنهم غير مكلفين في ذلك الحال”.
فالجواب: قد تقرر أن صدور مثل كلمة أو كلمتين أو نحو ذلك حال السكر والشطح قد يمكن لا تأليف كتاب وتأسيس قواعد وتفريع فروع مبنية عليها وترتيب مقدمات وبراهين بزعمهم كتأسيس أن الحق سبحانه هو الوجود المطلق الظاهر في صورة الموجودات وأن الموجودات عينه وهويته، ثم تفريع أن مَن عبد شيئًا فإنما عبدَ الله فأي مسلم يحلُّ له أن يسمع مثل هذا ثم يقول: “لعل له تأويلًا” أو “لعله قاله القائل حال سكره” أو أن يعتقد أن القوم أهل الله يقولون أو يعتقدون مثل هذا الكلام وحاشاهم بل هم مبرَّؤون من كل ذلك وقائل ذلك هالك.
فالحاصل أن القائلين بالوحدة المطلقة لهم اعتقادٌ خارج عن الشرع والعقل وهم مصرِّحون بذلك، ويقولون إن متابعة العقل حِجاب وكذلك العلم الاستدلالي وإنما ينال العلم الذي يدَّعونه بالذوق لا بتقليد الأنبياء ولا ببراهين العلماء يريد بذلك قائلهم إن نظر العقل قاصر عن إدراك الأمور كما هو حَقُّها، فكذلك الأخبار أيضًا قاصرة عنه لأنه لا يمكن الوصول إليها إلا بالذَّوق لا بالوحي فلذلك ألسنة الأنبياء والرسل قاصرة عنها، فلم يبق العلم الكامل والإدراك التَّام إلا في التجلي والكشف، فهذا إنكار لجميع الشرائع وصريح في عدم قبولها كما قال كثير من الوجودية: “كُمَّل الأولياء يأخذون العلم من المعدن الذي أخذ منه الأنبياء والرسل من ذلك المعدن فالعلم الذي أخذ بواسطة الرُّواة والأسانيد ليس بعلم”، وهذا هو الضلال البعيد والعصيان الذي ما عليه من مزيد.
وصرح بعض الفضلاء أن هذه الضلالة المستحيلة في العقول سرت في جماعة من المسلمين نشأوا في الابتداء على الزهد والخلوة والعبادة فلما حصلوا من ذلك على شىء صفت أرواحهم وانكشفت لهم ما كانت الشواغل الشهوانية مانعة من انكشافه، وقد طرق أسماعهم من خرافات رهبان النصارى أنه إذا حل روح القدس في شىء نطق بالحكمة وظهر له أسرار ما في هذا العالم مع تشوف النفوس إلى المقاصد العلية فذهبوا إلى هذه المقالة السخيفة، فمنهم من صرح بالاتحاد على المعنى الذي قالته الرهبان وزادوا عليهم ولم يقتصروه على المسيح كما ذهبت إليه غلاة الروافض في سيدنا الإمام عليّ رضي الله تعالى عنه من الحلول، ولهم في ذلك كلمات يعسر تأويل كلها لمن يريد الاعتذار عنهم بل منها ما لا يقبل التأويل.
ولهم في التأويل خلط وخبط كلما أرادوا أن يقربوا من المعقول ازدادوا بُعدًا حتى إنهم استنبطوا قضية حلت لهم الراحة وقنعوا في مغالطة الضرورة بالمغيب وهي أن ما هم فيه يزعمون وراء طور العقل وأنه يفهم بالوجدان ولا يقدر على الإيضاح به اللسان والحال أنَّ التكليف في أمر الدين لم يجئ إلا بمقدار الوُسع والوسع هو الوسع العقلي لا غير، والله تعالى قال: لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا {286} [سورة البقرة] أي طاقتها ووسع عقلها، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يمتحن الأمة إلا بما تعي به العقول، فعلى هذا ما كان وراء طور العقل لم يكن من الدين، وهذه أحكام الدين التي يجب اعتقادها دائرة على محور العقل ولا يضر بعض الأحكام عدم وصول بعض العقول لفهمها ولحقائق أسرار الشرع فيها بل الغاية من هذا المعنى أن العقول الكاملة أعني عقلاء العلماء العاملين وأهل العِرفان واليقين محيطة بفهم حقائق الأحكام المعتقدة، ولذلك قال شيخنا شيخ مشايخ الإسلام القطب الغوث الأكبر الإمام السيد أحمد الرفاعي رضي الله عنه وعنا به: “كل دين لم يحط بالعقل فليس بدين وكل عقل لم يحط بالدين فليس بعقل” أي ليس بعقل كامل، وقد أوردنا في هذا المقصد كلمات العلماء الأعلام احتجاجًا على قواصر الأفهام كي لا يزعم أحدهم أن قولنا محض انتصار لمذهبنا في طريقتنا العلية الرفاعية بالرد على الوجودية.
ومن كلام علماء الدين رضي الله عنهم تعلم أيها المحب صحة مذهب السادة الرفاعية أنصار السنة السنية فتمسك بهديهم وسر بطريقهم وخذ بقولهم ودع شقاشق أهل الوحدة المطلقة فإنها عين الزندقة، ولا تُفرِّط ولا تُفرِط، وبرىء القوم الذين اشتهروا بالصلاح والعرفان من نسبة الأقوال المكفرة إليهم وحملها عليهم، وقل بدسها في كتبهم وعلى ألسنتهم فقد وضع الوضاعون على لسان الشارع المأمون صلى الله عليه وسلم، وتحقق بظاهر الشرع الشريف، واعمل به اتباعًا للعلماء العاملين أكابر الدين، ودع ما يريبك إلى ما لا يريبك، وقف مع السنة، وتباعد عن الفتنة، واهجر المارقين والضالين، واندمج في الصالحين الصادقين، وأن الله لمع المتقين”، انتهى كلام الصيادي.
وقال في نفس الكتاب ما نصه: “وأزلق الناس في هذه الوَهدَات زمر المتشيخة من الفقهاء والصوفية الذين انبعثوا مع هفوات ءارائهم وأعجبتهم طقطقة النعال حولهم وكثرة المعتقدين والطلاب فوسوس لهم الشيطان وخدعهم فأحدثوا في المذاهب والطرق الشريفة ما لم يقل به السلف، يريدون بذلك زيادة استمالة الناس من العامة، وها هم بين ظهراني الأمة يكذبون على الله ويفترون على رسوله صلى الله عليه وسلم والله تعالى قال: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا{68} [سورة العنكبوت]، يخوضون في الدين ويغشون المسلمين ويأتون بالعجب العجاب من المعتقدات الفاسدة والبضائع الخبيثة الكاسدة، ويُبيحون المحرمات ويُحرفون معاني الأخبار والآيات، ويفسرون كلام الله بآرائهم، ويجذبون جماهير العامة من بحبوحة صحتهم إلى وهدة دائهم، يتكلمون بالحلول والاتحاد، ويبثون في الأرض الفساد والإلحاد، ويكثرون من الشطحات والدعاوى العريضة والترهات، فمثل أولئك عصابة الخدعة والمكر والفرار منهم يجب كما يجب الفرار من المجذوم” اهــ.
ثم قال في نفس الكتاب ما نصه: “قال إمام الطريق سيدنا الغوث الأكبر الرفاعي: “أقرب الناس إلى الزندقة المتصوفة المشغولون عن العبادات بالخوض في الكلام على الذات والصفات” اه، ثم قال: “وقال رضي الله عنه: “قل لمدعي الوحدة المطلقة أنت محوز عن غيرك بجهتك ومكانك وهو منزه عن الجهة والمكان، وأنت محاط بثوبك وهو بكل شىء محيط، وأنت مسوَّر بالعجز في كل شىء وهو على كل شىء قدير، فكذب وهمك كما كذبك وجودك لتدخل في أعداد المؤمنين الصادقين، فكل ما يطرأ عليه الحدث من جانب فهو حادث، فاتق الله ونزه ربك فإن التوحيد إفراد القدم عن الحدث” اهــ.
وقد أورد أبو الهدى الصيادي قبل هذا الكلام في كتابه هذا أبياتًا أوَّلها:
طريقة الغوث الكبير الأمجد
أحمد نسل المصطفى رب اليد
طريقة السنة والكتاب
والآل أهل الحق والأصحاب
ثم قال فيها:
طريقة القول برد الشطح
والأخذ ما بين الورى بالنصح
طريقة البعد عن الإلحاد
مثل حلول ساء واتحاد
وقال أيضًا في كتابه “الطريقة الرفاعية” ما نصه: “الطريقة الرفاعية رد القول بالوحدة المطلقة والحلول بل ورد الشطحات والدعاوى العريضة التي لا يقول بها الشرع ولا يرتضيها العقل”، ثم قال: “وحيث إن القول بالوحدة المطلقة والحلول يؤدي إلى الكفر والعياذ بالله تعالى، والشطحات العريضة تؤدي إلى الفتنة وتزلق بقدم الرجل إلى النار فاجتنابها واجب، وتركها ضربة لازب، وكل ذلك من طريق شيخنا الإمام السيد أحمد الرفاعي الحسيني رضي الله عنه وعنا به، وبهذا أمر أتباعه وأشياعه وحث على ذلك أصحابه وأحزابه، وقد أوضح كل ذلك في كتابه “البرهان المؤيد” وفي الكثير من مجالسه الشريفة ومقولاته المنيفة وتناقلها أتباعه بطنًا بعد بطن وجيلًا بعد جيل” اهــ.
وقال في كتابه “الكوكب الدري” ما نصه: “خاتمة استطرادية: من قال: أنا الله، أو ما في الوجود إلا الله، أو لا موجود إلا الله، أو الكل هو الله، أو نحو ذلك فإن كان عاقلًا صاحيًا في قيد التكليف فلا خلاف بين المسلمين جميعًا في كفره لمخالفته نص القرءان إذ يلزم حينئذ نفي الخالق والمخلوق والرسول والمرسَل إليه والجنة والنار للزوم الاتحاد من هذا القول، وهو أشد زللًا والعياذ بالله من الذين قالوا بالحلول والاتحاد وقد خصصوهما بسيدنا عيسى فقط عليه الصلاة والسلام بخلاف من قال ما تقدم فإنه يلزم من قوله الشمول لكل الموجودات، وبهذا صرح بعضهم فقال:
وما الكلب والخنزير إلا إلهنا
وما الله إلا راهب في كنيسة
وهذا كفر وضلال تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم، وأما إن كان قائل ما تقدم غائبًا عن شعوره مغمًى عليه فقد سقط عنه التكليف فلا يكفر حينئذ ولا يؤاخذ شرعًا، كما أنه لا يجوز تقليده مطلقًا، ولا ريب أن التفوه بمثل ذلك من كل عاقل مكلف يغضب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
واعلم أن أهل الطريق الحق لا ينحرفون في الأقوال والأفعال عن ظاهر الشرع، وكفى بالشرع والشارع قدوة وإمامًا والسلام” انتهى كلام الصيادي.
ولتأييد ما ذكرناه نورد ما ذكره الحافظ السيوطي الذي جمع بين علم الشريعة والتصوف في رسالته “تنزيه الاعتقاد عن الحلول والاتحاد” ونص عبارته: “وما زالت العلماء ومحققو الصوفية يبينون بطلان القول بالحلول والاتحاد وينبهون على فساده ويحذرون من ضلاله” اه، ثم ساق السيوطي جملة من أقوال الأئمة في ذلك نورد بعضها:
“قال الإمام فخر الدين الرازي في كتاب “المحصل في أصول الدين”: مسئلة: البارىء تعالى لا يتحد بغيره لأنه حال الاتحاد – يعني على زعمهم – إن بقيا موجودين فهما اثنان لا واحد”.
“وقال الإمام أبو الحسن الماوردي صاحب الحاوي الكبير في مناظرة ناظرها لبعض الحلوليين: لا ينفع التنزيه مع القول بالاتحاد والحلول فإن دعوى التنزيه مع ذلك إلحاد، وكيف يصح توحيد مع اعتقاد أنه سبحانه حل في البشر”.
“وقال القاضي عياض المالكي في الشفا ما معناه: أجمع المسلمون على كفر أصحاب الحلول ومن ادعى حلول البارىء سبحانه في أحد الأشخاص كقول بعض المتصوفة والباطنية”.
“وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام في قواعده الكبرى: ومن زعم أن الإله يحل في شىء من أجساد الناس أو غيرهم فهو كافر”.
“وقال صاحب كتاب “نهج الرشاد في الرد على أهل الوحدة والحلول والاتحاد”: حدثني الشيخ كمال الدين المراغي قال: اجتمعت بالشيخ أبي العباس المرسي تلميذ الشيخ الكبير أبي الحسن الشاذلي وفاوضته في هؤلاء الاتحادية فوجدته شديد الإنكار عليهم والنهي عن طريقهم وقال: أتكون الصنعة هي الصانع”.
ثم قال صاحب نهج الرشاد: “وما زال عباد الله الصالحون من أهل العلم والإيمان ينكرون حال هؤلاء الاتحادية، قال الشيخ سعد الدين التفتازاني في شرح المقاصد: ومنهم بعض المتصوفة القائلون بأن السالك إذا أمعن في السلوك وخاض معظم لجة الوصول فربما يحل الله فيه تعالى الله عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا كالنار في الجمر بحيث لا تمايز أو يتحد به بحيث لا أثنينية ولا تغاير وصح – على زعمهم – أن يقول: هو أنا وأنا هو، قال التفتازاني: وفساد الرأيين غني عن البيان”.
وذكر الحافظ أبو نعيم الأصبهاني في أول كتابه حلية الأولياء أنه جمع فيه أسامي جماعة من أعلام المحققين من الصوفية وأئمتهم من قرن الصحابة والتابعين وتابعيهم ومن بعدهم وذلك لما انتشر في الأمصار في كل قطر المنتسبون إليهم من الفسقة الفجار والمباحية والحلولية الكفار.
تنبيه: قال العز بن عبد السلام: “يُعزَّر وليٌّ قال “أنا الله” ولا ينافي ذلك ولايته لأنه غير معصوم” يعني أن الولي إذا قال بلسانه في حال ارتفاع التكليف عنه ذلك لغيبة عقله يُعزر لأنه ينكف عن قوله بالتعزير، لأن التعزير يؤثر في المجنون كما تؤثر العقوبة بالضرب في البهائم، ولم يُرد أن الولي يتكلم بكلمة الكفر في حال صحوه بإرادة لأن الولي معصوم عن أن يتكلم بكفر ما دام بحالة التكليف كما دل على ذلك الحديث القدسي: “من عادى لي وليًّا فقد ءاذنته بالحرب وما تقرب إلي عبدي بشىء أحب إلي مما افترضته عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به” الحديث، وفي رواية: “ويكون من أوليائي وأصفيائي”.
وليحذر العاقل من هؤلاء المتصوفة الذين لا يراعون الشريعة، ومن عادتهم أنهم إذا عارضهم معارض فيما يخالفون فيه الشرع يقولون: “أنتم أهل الظاهر ونحن أهل الباطن لا نتفق” فيقال لهؤلاء الجهلة: الله تعالى ما جعل شريعتين شريعة للمتصوفة وشريعة للمتمسكين بشرعه بل لا يصل متصوف إلا بكمال التمسك بالشريعة، ولا يصل متصوف إلى الولاية إلا بالتمسك بشرع الله ثم بعد الولاية يزداد تمسكًا بالشريعة فعندئذ يستحق العلم اللدني، أما من لم يتمسك بالشريعة على التمام فحرام عليه العلم اللدني.
فإن قالوا: أليس قال الله تعالى: وَاتَّقُواْ اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ {282} [سورة البقرة] قيل لهم: قوله تعالى: وَاتَّقُواْ اللهَ {282} معناه أدوا كل الفرائض واجتنبوا كل المحرمات فهذا الذي يُعلمه الله العلم اللدني أما بدون ذلك مستحيل شرعًا أن يعطيه الله تعالى العلم اللدني.
وهؤلاء ابتعدوا من نصوص الشريعة كل البعد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد”، أي كل أمر لا يوافق شريعتنا فهو مردود عند الله تعالى، فما أبعدهم من سيرة سيد الطائفة الصوفية الجنيد ابن محمد البغدادي رضي الله عنه فقد قال: “الطريق إلى الله مسدودة إلا على المقتفين ءاثار رسول الله”.
وما أشد تلبيس هؤلاء على الناس وما أكثر المُسَلِّمين لهم فلذلك قال الجنيد رضي الله عنه للحلاج: “لقد فتحت في الإسلام ثغرة لا يسدها إلا رأسك” فتحققت فراسة الجنيد فيه فإنه قتل فخفت فتنته لأنه كان له طائفة كانوا يسمون الحلاجية زاغوا عن الحق وانحرفوا.