الْقَاعِدَةُ الأُولَى
مَنْ أَنْكَرَ مَا عُلِمَ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ أَىْ مَا عُلِمَ عِلْمًا ظَاهِرًا يَشْتَرِكُ فِى مَعْرِفَتِهِ الْعُلَمَاءُ وَالْعَامَّةُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَفَرَ وَلَوْ كَانَ هَذَا الْمُنْكِرُ جَاهِلًا بِأَنَّ كَلامَهُ يُخْرِجُ مِنَ الإِسْلامِ كَأَنْ قَالَ إِنَّ شُرْبَ الْخَمْرِ حَلالٌ بَعْدَمَا عَرَفَ حُرْمَتَهُ فِى الشَّرْعِ وَإِنْ كَانَ يَجْهَلُ أَنَّهُ يَكْفُرُ بِقَوْلِهِ ذَلِكَ لَكِنْ مَنْ كَانَ قَرِيبَ عَهْدٍ بِإِسْلامٍ أَىْ أَسْلَمَ مِنْ قَرِيبٍ أَوْ كَانَ يُشْبِهُ قَرِيبَ الْعَهْدِ بِالإِسْلامِ كَأَنْ نَشَأَ فِى بَادِيَةٍ بَعِيدَةٍ عَنِ الْعُلَمَاءِ أَوْ نَشَأَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَلَكِنْ لَمْ يَتَرَدَّدْ عَلَى سَمْعِهِ الْحُكْمُ الَّذِى أَنْكَرَهُ فَإِنَّهُ لا يَكْفُرُ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ عَالِمٍ بِوُرُودِ الْحُكْمِ الَّذِى أَنْكَرَهُ فِى دِينِ الإِسْلامِ، هَذَا إِنْ لَمْ يَكُنِ الأَمْرُ الَّذِى أَنْكَرَهُ نَحْوَ تَنْزِيهِ اللَّهِ عَنِ الشَّبِيهِ وَتَنْزِيهِهِ عَنِ التَّحَيُّزِ فِى الْجِهَةِ وَالْمَكَانِ وَتَبْرِئَةِ الأَنْبِيَاءِ مِنَ الْخِيَانَةِ وَالسَّفَاهَةِ وَأَمَّا مَنْ نَسَبَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى الْمَكَانَ أَوِ الْجِهَةَ أَوْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقَاتِ أَوْ نَسَبَ إِلَى الأَنْبِيَاءِ الْفُسُوقَ أَوِ الرَّذَالَةَ أَوِ الْخِيَانَةَ أَوِ السَّفَاهَةَ فَإِنَّهُ يَكْفُرُ وَلَوْ كَانَ حَدِيثَ عَهْدٍ بِإِسْلامٍ أَوْ مُتَأَوِّلًا لِأَنَّ تَجْوِيزَ النَّقَائِصِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى يَنْقُضُ الإِيمَانَ بِاللَّهِ وَتَجْوِيزَ النَّقَائِصِ الآنِفَةِ الذِّكْرِ عَلَى الأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ يَنْقُضُ الإِيمَانَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَأُصُولُ الدِّينِ عَلَى قِسْمَيْنِ قِسْمٌ مَنْ خَالَفَهُ وَلَوْ مَعَ الْجَهْلِ بِوُرُودِهِ فِى الشَّرْعِ لا يَصِحُّ إِيمَانُهُ بِاللَّهِ أَوْ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ كَتَنَزُّهِ اللَّهِ عَنِ الشَّبِيهِ وَالْمَثِيلِ وَتَنَزُّهِ الأَنْبِيَاءِ عَنِ الدَّنَاءَةِ وَالرَّذَالَةِ فَمَنْ أَنْكَرَ بِقَلْبِهِ أَوْ بِلِسَانِهِ أَصْلًا مِنْ أُصُولِ هَذَا الْقِسْمِ فَإِنَّهُ يَكْفُرُ سَوَاءٌ كَانَ قَرِيبَ عَهْدٍ بِالإِسْلامِ أَمْ لا نَشَأَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَمْ لا مُتَأَوِّلًا أَمْ لا.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِى فَهُوَ عَلَى قِسْمَيْنِ أَيْضًا الْقِسْمُ الأَوَّلُ مَا كَانَ مِنَ الأُصُولِ مَعْلُومًا مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ كَالإِيمَانِ بِعَذَابِ الْقَبْرِ لِلْكَافِرِ فَيُكَفَّرُ مُنْكِرُهُ وَالشَّاكُّ فِيهِ.
وَالثَّانِى مَا لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ وَإِنْ كَانَ مُجْمَعًا عَلَيْهِ وَذَلِكَ كَالإِيمَانِ بِالْحَوْضِ فَلا يُكَفَّرُ مُنْكِرُهُ وَالشَّاكُّ فِيهِ مَا لَمْ يُعْلَمْ مِنْهُ الْعِنَادُ وَالْجُحُودُ.
وَالأَحْكَامُ مِنْ وُجُوبٍ وَمَشْرُوعِيَّةٍ وَكَرَاهَةٍ وَتَحْرِيمٍ وَإِبَاحَةٍ كُلُّهَا تُعْلَمُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ بِالشَّرْعِ لا بِالْعَقْلِ وَهِىَ تَنْقَسِمُ كَذَلِكَ إِلَى قِسْمَيْنِ مَعْلُومٍ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ وَغَيْرِ مَعْلُومٍ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ. فَالْقِسْمُ الأَوَّلُ كَوُجُوبِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ مَنْ أَنْكَرَ شَيْئًا مِنْهُ كُفِّرَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ نَحْوَ حَدِيثِ عَهْدٍ بِإِسْلامٍ أَوْ مُتَأَوِّلًا تَأَوُّلًا يَدْفَعُ عَنْهُ الْكُفْرَ كَتَأَوُّلِ مَانِعِى الزَّكَاةِ فِى زَمَنِ أَبِى بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ بَعْضَ ءَايَاتِ الْقُرْءَانِ عَلَى غَيْرِ مَعْنَاهَا فَأَنْكَرُوا لِذَلِكَ وُجُوبَ الزَّكَاةِ عَلَيْهِمْ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُمْ مَعَ خَطَئِهِمْ فِى التَّأْوِيلِ دَفَعَ عَنْهُمْ تَأْوِيلُهُمْ الْحُكْمَ بِالتَّكْفِيرِ فَلَمْ يُكَفِّرْهُمُ الصَّحَابَةُ مَعَ أَنَّهُمْ قَاتَلُوهُمْ عَلَى مَنْعِ الزَّكَاةِ كَمَا قَاتَلُوا الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَنِ الإِسْلامِ.
وَلا يَدْخُلُ فِى هَذَا الْقِسْمِ مَنْ تَأَوَّلَ بَعْضَ الآيَاتِ أَوِ الأَحَادِيثِ عَلَى غَيْرِ مَعَانِيهَا فَحَمَلَهَا عَلَى مَا فِيهِ مُنَاقَضَةٌ وَتَكْذِيبٌ لِلشَّهَادَتَيْنِ أَوْ لِإِحْدَاهُمَا كَمَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ اللَّهَ جِسْمٌ بِسَبَبِ سُوءِ فَهْمِهِ لِآيَةٍ أَوْ حَدِيثٍ وَكَذَلِكَ مَنْ تَأَوَّلَ ءَايَةً أَوْ حَدِيثًا عَلَى غَيْرِ مَعْنَاهُمَا فَاعْتَقَدَ أَنَّ شَيْئًا فِى هَذَا الْعَالَمِ يَحْصُلُ بِغَيْرِ مَشِيئَةِ اللَّهِ أَوْ أَنَّ أَحَدًا غَيْرَ اللَّهِ يَخْلُقُ ذَاتًا مِنَ الذَّوَاتِ أَوْ فِعْلًا مِنَ الأَفْعَالِ لِأَنَّ مَنِ اعْتَقَدَ مِثْلَ هَذَا الِاعْتِقَادِ لَمْ يَعْرِفِ اللَّهَ تَعَالَى فَكَيْفَ يَكُونُ مُؤْمِنًا. وَسَوَاءٌ فِى هَذَا الْحُكْمِ مَنْ كَانَ لَمْ يَتَعَلَّمِ الصَّوَابَ فِى هَذِهِ الْمَسَائِلِ فَأَخْطَأَ لِجَهْلِهِ وَمَنْ كَانَ تَعَلَّمَ الصَّوَابَ ثُمَّ نَسِيَهُ وَلِذَلِكَ رَدَّ ابْنُ الْجَوْزِىِّ فِى كِتَابِهِ أَخْبَارِ الصِّفَاتِ وَغَيْرِهِ قَوْلَ ابْنِ قُتَيْبَةَ بِعَدَمِ تَكْفِيرِ مَنْ أَنْكَرَ قُدْرَةَ اللَّهِ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ بِسَبَبِ جَهْلِهِ وَقَالَ أَىِ ابْنُ الْجَوْزِىِّ إِنَّ إِنْكَارَ قُدْرَةِ اللَّهِ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ كُفْرٌ بِالإِجْمَاعِ وَنَقَلَ ذَلِكَ عَنْهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ وَغَيْرُهُ وَأَقَرُّوهُ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِى مَا لَيْسَ مَعْلُومًا مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ سَوَاءٌ كَانَ مُجْمَعًا عَلَيْهِ أَمْ غَيْرَ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ فَمَنْ أَنْكَرَ حُكْمًا مُجْمَعًا عَلَيْهِ مِنْ أَحْكَامِ هَذَا الْقِسْمِ لَمْ يُكَفَّرْ وَسَوَاءٌ فِى ذَلِكَ التَّحْرِيمُ وَالتَّحْلِيلُ وَالْوُجُوبُ وَالْمَشْرُوعِيَّةُ إِلَّا أَنْ يَعْلَمَ بِحُكْمِ الشَّرْعِ وَيَرُدَّهُ، وَلَكِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ يَأْثَمُ إِثْمًا كَبِيرًا لِخَرْقِهِ إِجْمَاعَ الأُمَّةِ وَذَلِكَ كَالَّذِى يَسْتَحِلُّ مُصَافَحَةَ الْمَرْأَةِ الأَجْنَبِيَّةِ مِنْ غَيْرِ شَهْوَةٍ بِلا حَائِلٍ أَوِ الْخَلْوَةَ بِهَا لِغَيْرِ مَعْصِيَةٍ لِجَهْلِهِ بِأَنَّ الشَّرْعَ يُحَرِّمُ ذَلِكَ.
وَأَمَّا مَا كَانَ مُخْتَلَفًا فِيهِ بَيْنَ الأَئِمَّةِ مِنْ أَحْكَامِ هَذَا الْقِسْمِ فَمَنْ أَخَذَ مِنَ الْعَامَّةِ بِقَوْلِ أَىِّ إِمَامٍ مِنْهُمْ دُونَ قَوْلِ إِمَامٍ ءَاخَرَ فَلا يَكْفُرُ وَذَلِكَ كَالْعُمْرَةِ قَالَ بَعْضُ الأَئِمَّةِ إِنَّهَا فَرْضٌ عَلَى الْمُسْتَطِيعِ [وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِىِّ فِى الْجَدِيدِ وَقَوْلُ الثَّوْرِىِّ وَأَحْمَدَ] وَقَالَ بَعْضٌ بِعَدَمِ فَرْضِيَّتِهَا [وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِىِّ فِى الْقَدِيمِ وَقَوْلُ أَبِى حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ] فَمَنْ أَخَذَ بِأَىٍّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ فَلا حَرَجَ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ الشَّرْعَ جَاءَ بِإِيجَابِهَا وَيُنْكِرَهُ مَعَ ذَلِكَ أَوْ يَعْتَقِدَ أَنَّ الشَّرْعَ جَاءَ بِعَدَمِ إِيجَابِهَا وَيُوجِبَهَا مَعَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَكْفُرُ عِنْدَئِذٍ لِتَكْذِيبِهِ الشَّرِيعَةَ، ذَلِكَ أَنَّ السَّبِيلَ إِلَى مَعْرِفَةِ فُرُوعِ الأَحْكَامِ إِنَّمَا هُوَ السَّمَاعُ وَالنَّقْلُ لَيْسَ غَيْرُ لِأَنَّ الْحَسَنَ مَا حَسَّنَهُ الشَّرْعُ وَالْقَبِيحَ مَا قَبَّحَهُ الشَّرْعُ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَوْ لَمْ يُوجِبْ شَيْئًا مِنَ الْوَاجِبَاتِ لَمَا وَجَبَ عَلَيْنَا مِنْهَا شَىْءٌ وَلَوْ لَمْ يُحَرِّمْ شَيْئًا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْنَا مِنْهَا شَىْءٌ وَلا كَانَ أَىٌّ مِنْهَا سَبَبًا لِلْعَذَابِ فِى الآخِرَةِ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَحْكُمُ بِمَا يُرِيدُ وَيَفْعَلُ مَا يَشَاءُ لا حَامِلَ لَهُ وَلا مُلْجِئَ فَمَنِ اعْتَقَدَ وُرُودَ حُكْمٍ فِى الشَّرْعِ وَأَنْكَرَهُ مَعَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَكْفُرُ سَوَاءٌ كَانَ مُتَأَوِّلًا أَمْ لا وَسَوَاءٌ كَانَ هَذَا الْحُكْمُ مُجْمَعًا عَلَيْهِ أَمْ لا مَعْلُومًا مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ أَمْ لا.
وَأَمَّا مَنْ خَفِىَ عَلَيْهِ حُكْمُ الشَّرْعِ فِى أَمْرٍ مِنَ الأُمُورِ أَىْ لَمْ يَعْلَمْ بِحُكْمِ الشَّرْعِ فِيهِ فَاعْتَقَدَ أَنَّ حُكْمَهُ فِى الشَّرْعِ عَلَى خِلافِ مَا هُوَ حَقِيقَةً أَوْ قَالَ خِلافَ الصَّوَابِ لِجَهْلِهِ بِالْحُكْمِ وَظَنَّ أَنَّ مَا يَقُولُهُ هُوَ حُكْمُ الشَّرْعِ لا لِأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَرُدَّهُ أَوْ يُعَانِدَهُ فَإِنَّهُ لا يُكَفَّرُ وَمِثْلُهُ مَنْ كَانَ تَعَلَّمَ الْحُكْمَ فِى الشَّرْعِ ثُمَّ نَسِىَ فَظَنَّهُ عَلَى خِلافِ مَا هُوَ فِى الْوَاقِعِ سَوَاءٌ كَانَ هَذَا الْحُكْمُ فِى الأَصْلِ مَعْلُومًا مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ أَمْ لا.