الْقَوْلُ الْجَلِيُّ
فِى حَلِّ أَلْفَاظِ مُخْتَصَرِ عَبْدِ اللَّهِ الْهَرَرِيِّ
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ)
أَىْ أَبْتَدِئُ تَصْنِيفِى لِهَذَا الْكِتَابِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ أَىْ ذَاكِرًا لَهُ مُتَبَرِّكًا بِهِ مَعَ (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) أَىِ الْمَالِكِ لِكُلِّ مَا دَخَلَ فِى الْوُجُودِ (الْحَىِّ الْقَيُّومِ الْمُدَبِّرِ) أَىِ الْمُقَدِّرِ (لِجَمِيعِ) ذَوَاتِ (الْمَخْلُوقِينَ) وَأَفْعَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ (وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ الأَتَمَّانِ الأَكْمَلانِ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى ءَالِهِ وَصَحْبِهِ) الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ.
(وَبَعْدُ فَهَذَا) كِتَابٌ (مُخْتَصَرٌ) أَىْ قَلِيلُ الأَلْفَاظِ كَثِيرُ الْمَعَانِى (جَامِعٌ لِأَغْلَبِ الضَّرُورِيَّاتِ) مِنْ عُلُومِ الدِّينِ (الَّتِى) لا يُسْتَغْنَى عَنْهَا وَ(لا يَجُوزُ لِكُلِّ مُكَلَّفٍ جَهْلُهَا مِنْ) أُمُورِ (الِاعْتِقَادِ وَمَسَائِلَ فِقْهِيَّةٍ مِنَ الطَّهَارَةِ إِلَى الْحَجِّ) بِمَا يَشْمَلُ الصَّلاةَ وَالزَّكَاةَ وَالصِّيامَ (وَشَىْءٍ) قَلِيلٍ (مِنْ أَحْكَامِ الْمُعَامَلاتِ) كَالإِجَارَةِ وَالْقِرَاضِ وَالرَّهْنِ وَنَحْوِهَا مَعَ بَيَانِ حُكْمِ الرِّبَا وَبَعْضِ الْبُيُوعِ الْمُحَرَّمَةِ (عَلَى مَذْهَبِ الإِمَامِ) الْمُجْتَهِدِ الْعَلَمِ مُحَمَّدِ بنِ إِدْرِيسَ (الشَّافِعِىِّ) الْقُرَشِىِّ الْمُطَّلِبِىِّ رَضِىَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ الْمَوْلُودِ سَنَةَ مِائَةٍ وَخَمْسِينَ لِلْهِجْرَةِ وَالْمُتَوَفَّى سَنَةَ مِائَتَيْنِ وَأَرْبَعٍ (ثُمَّ بَيَانِ) الْوَاجِبَاتِ الْقَلْبِيَّةِ وَ(مَعَاصِي الْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ) جَمْعُ جَارِحَةٍ وَهِىَ أَعْضَاءُ الإِنْسَانِ (كَاللِّسَانِ وَغَيْرِهِ) مِنْ بَطْنٍ وَعَيْنٍ وَأُذُنٍ وَيَدٍ وَفَرْجٍ وَرِجْلٍ ثُمَّ بَيَانِ مَعَاصِى الْبَدَنِ لِيُخْتَمَ الْكِتَابُ بِفَصْلٍ عُقِدَ لِبَيَانِ التَّوْبَةِ. (الأَصْلُ) الَّذِى أَخَذَ مِنْهُ الْمُؤَلِّفُ كِتَابَهُ الْمُخْتَصَرَ هُوَ كِتَابُ سُلَّمِ التَّوْفِيقِ إِلَى مَحَبَّةِ اللَّهِ عَلَى التَّحْقِيقِ (لِبَعْضِ الْفُقَهَاءِ الْحَضْرَمِيِّينَ وَهُوَ) الْعَالِمُ الْفَقِيهُ الشَّيْخُ (عَبْدُ اللَّهِ بنُ حُسَيْنِ بنِ طَاهِرِ) بنِ مُحَمَّدِ بنِ هَاشِمٍ الشَّافِعِىُّ الْعَلَوِىُّ الْمَوْلُودُ سَنَةَ أَلْفٍ وَمِائَةٍ وَإِحْدَى وَتِسْعِينَ وَالْمُتَوَفَّى سَنَةَ أَلْفٍ وَمِائَتَيْنِ وَاثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ، اخْتُصِرَ كِتَابُهُ (ثُمَّ ضُمِّنَ زِيَادَاتٍ كَثِيرَةً مِنْ نَفَائِسِ الْمَسَائِلِ) تَكْشِفُ مَكْنُونَاتِ هَذَا الْكِتَابِ وَتُوضِحُهُ (مَعَ حَذْفِ مَا ذَكَرَهُ) الشَّيْخُ عَبْدُ اللَّهِ بنُ حُسَيْنٍ (فِى التَّصَوُّفِ) مِمَّا لا يَدْخُلُ تَحْتَ مَوْضُوعِ الْكِتَابِ لِأَنَّ الْمُخْتَصِرَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَرَادَ أَنْ يَجْمَعَ فِى هَذَا الْكِتَابِ الضَّرُورِيَّاتِ مِنْ عِلْمِ الدِّينِ وَهَذِهِ الأُمُورُ لَيْسَتْ مِنْهَا [مَعَ كَوْنِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَوْرَدَ فِى مُخْتَصَرِهِ أُمُورًا لَيْسَتْ مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ لِفَائِدَةٍ رَءَاهَا] (وَ)مَعَ (تَغْيِيرٍ لِبَعْضِ الْعِبَارَاتِ) بِعِبَارَاتٍ أَوْضَحَ (مِمَّا لا يُؤَدِّي إِلَى خِلافِ الْمَوْضُوعِ) قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ (وَقَدْ نَذْكُرُ مَا رَجَّحَهُ بَعْضٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ الشَّافِعِيِّينَ كَالْبُلْقِينِىِّ) الإِمَامِ سِرَاجِ الدِّينِ عُمَرَ بنِ رَسْلانَ الْمَوْلُودِ سَنَةَ سَبْعِمِائَةٍ وَأَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وَالْمُتَوَفَّى سَنَةَ ثَمَانِمِائَةٍ وَخَمْسٍ (لِتَضْعِيفِ مَا) ذُكِرَ (فِى الأَصْلِ فَيَنْبَغِى) عَلَى الْمُكَلَّفِ (عِنَايَتُهُ بِهِ) أَىْ بِالْمُخْتَصَرِ بِأَنْ يَتَلَقَّاهُ وَيَدْرُسَهُ وَيُعِيدَ مَسَائِلَهُ إِلَى أَنْ يَحْفَظَهَا وَتَرْسَخَ فِى قَلْبِهِ وَذَلِكَ مَعَ إِخْلاصِ النِّيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى (لِيُقْبَلَ عَمَلُهُ) عِنْدَ اللَّهِ (أَسْمَيْنَاهُ مُخْتَصَرَ عَبْدِ اللَّهِ الْهَرَرِىِّ الْكَافِلَ بِعِلْمِ الدِّينِ الضَّرُورِىِّ) وَهُوَ الْعِلْمُ الشَّامِلُ لِمَعْرِفَةِ اللَّهِ وَمَعْرِفَةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الِاعْتِقَادِ وَالشَّامِلُ أَيْضًا لِمَعْرِفَةِ أَحْكَامِ الْعِبَادَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ عِلْمِ الدِّينِ. وَلَمَّا كَانَ مَعْرِفَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالإِيـمَانُ بِهِمَا هُوَ أَهَمَّ الْوَاجِبَاتِ وَأَفْضَلَهَا بَدَأَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ كِتَابَهُ بِالْكَلامِ عَلَى (ضَرُورِيَّاتِ الِاعْتِقَادِ) أَىْ مَا لا يَسْتَغْنِى الْمُكَلَّفُ عَنْهُ مِنْ أُمُورِ الْعَقِيدَةِ فَقَالَ (فَصْلٌ) فِى بَيَانِ مَعْنَى الشَّهَادَتَيْنِ.
(يَجِبُ عَلَى كَافَّةِ) أَىْ جَمِيعِ (الْمُكَلَّفِينَ) جَمْعُ مُكَلَّفٍ وهُوَ الْبَالِغُ الْعَاقِلُ الَّذِي بَلَغَهُ أَصْلُ دَعْوَةِ الإِسْلامِ أَىْ مَنْ بَلَغَهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ (الدُّخُولُ فِى دِينِ الإِسْلامِ) فَوْرًا إِنْ كَانَ كَافِرًا (وَالثُّبُوتُ) أَىِ الْمُلازَمَةُ (فِيهِ عَلَى الدَّوَامِ) بِحَيْثُ يَخْلُوَ قَلْبُهُ عَنْ أَىِّ عَزْمٍ عَلَى تَرْكِ الإِسْلامِ فِى الْمُسْتَقْبَلِ أَوْ تَرَدُّدٍ فِى ذَلِكَ فَإِنَّ مَنْ عَزَمَ عَلَى الْكُفْرِ فِى الْمُسْتَقْبَلِ أَوْ تَرَدَّدَ فِى ذَلِكَ كَفَرَ فِى الْحَالِ. (وَ)يَجِبُ عَلَيْهِ أَيْضًا (الْتِزَامُ مَا لَزِمَ عَلَيْهِ) أَىْ عَلَى الْمُكَلَّفِ (مِنَ الأَحْكَامِ) الَّتِى أَلْزَمَهُ بِهَا الشَّرْعُ وَذَلِكَ بِأَنْ يُؤَدِّىَ جَمِيعَ الْوَاجِبَاتِ وَيَجْتَنِبَ جَمِيعَ الْمُحَرَّمَاتِ. فَيُعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الصَّبِيَّ الَّذِى مَاتَ دُونَ الْبُلُوغِ لَيْسَ عَلَيْهِ مَسْئُولِيَّةٌ فِى الآخِرَةِ وَكَذَلِكَ مَنْ جُنَّ قَبْلَ الْبُلُوغِ وَاتَّصَلَ جُنُونُهُ إِلَى مَا بَعْدَ الْبُلُوغِ حَتَّى مَاتَ وَهُوَ مَجْنُونٌ فَلَيْسَ مُكَلَّفًا وَكَذَلِكَ الَّذِي عَاشَ بَالِغًا عَاقِلًا وَلَمْ تَبْلُغْهُ دَعْوَةُ الإِسْلامِ أَىْ أَصْلُ الدَّعْوَةِ وَهُوَ الشَّهَادَتَانِ فَمَنْ سَمِعَ الشَّهَادَتَيْنِ فِى الأَذَانِ وَهُوَ يَفْهَمُ الْعَرَبِيَّةَ وَكَانَ بَالِغًا عَاقِلًا فَهُوَ مُكَلَّفٌ فَإِنْ مَاتَ وَلَمْ يُسْلِمِ اسْتَحَقَّ الْعَذَابَ الأَبَدِىَّ فِى النَّارِ.
(فَمِمَّا يَجِبُ) عَلَى الْمُكَلَّفِ سَوَاءٌ كَانَ مُسْلِمًا أَمْ كَافِرًا (عِلْمُهُ وَاعْتِقَادُهُ) بِأَنْ يُذْعِنَ قَلْبُهُ لَهُ وَيَرْضَى بِهِ (مُطْلَقًا) أَىْ فِى كُلِّ أَحْوَالِهِ (وَالنُّطْقُ بِهِ) بِاللِّسَانِ (فِى الْحَالِ إِنْ كَانَ) الْمُكَلَّفُ (كَافِرًا) أَصْلِيًّا أَوْ مُرْتَدًّا (وَإِلَّا) بِأَنْ كَانَ مُسْلِمًا (فَفِى الصَّلاةِ الشَّهَادَتَانِ وَهُمَا أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ).
وَبِمَا أَنَّ الشَّهَادَتَيْنِ هُمَا أَصْلُ الدَّعْوَةِ وَجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَعْرِفَ مَعْنَاهُمَا وَلِذَا بَدَأَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِشَرْحِ الشَّهَادَةِ الأُولَى فَقَالَ (وَمَعْنَى أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَعْلَمُ وَأَعْتَقِدُ) أَىْ أُذْعِنُ بِقَلْبِى (وَأَعْتَرِفُ) بِلِسَانِى (أَنْ لا مَعْبُودَ بِحَقٍّ إِلَّا اللَّهُ) أَىْ أَنَّهُ لا يَسْتَحِقُّ أَحَدٌ أَنْ يُعْبَدَ أَىْ أَنْ يُتَذَلَّلَ لَهُ نِهَايَةُ التَّذَلُّلِ إِلَّا اللَّهُ إِذْ إِنَّ مَعْنَى الْعِبَادَةِ فِى اللُّغَةِ أَقْصَى غَايَةِ الْخُشُوعِ وَالْخُضُوعِ كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَافِظُ اللُّغَوِىُّ تَقِىُّ الدِّينِ السُّبْكِىُّ، فَيُعْلَمُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ لَيْسَ مَعْنَى الْعِبَادَةِ مُجَرَّدَ الطَّاعَةِ أَوِ النِّدَاءِ أَوِ الِاسْتِغَاثَةِ أَوِ الِاسْتِعَانَةِ أَوِ الْخَوْفِ أَوِ الرَّجَاءِ كَمَا يَظُنُّ بَعْضُ النَّاسِ (الْوَاحِدُ) الَّذِي لا شَرِيكَ لَهُ فِى الأُلُوهِيَّةِ (الأَحَدُ) الَّذِي لا يَقْبَلُ الِانْقِسَامَ وَالتَّجَزُّؤَ لِأَنَّهُ لَيْسَ جِسْمًا لا هُوَ جِسْمٌ كَثِيفٌ كَالإِنْسَانِ وَالشَّجَرِ وَالْحَجَرِ وَلا هُوَ جِسْمٌ لَطِيفٌ كَالنُّورِ وَالظَّلامِ وَالرِّيحِ (الأَوَّلُ) الَّذِي لا ابْتِدَاءَ لِوُجُودِهِ فَلَمْ يَسْبِقْ وُجُودَهُ تَعَالَى عَدَمٌ وَبِمَعْنَاهُ (الْقَدِيمُ) إِذَا أُطْلِقَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ قِدَمَ اللَّهِ ذَاتِىٌّ وَلَيْسَ زَمَنِيًّا (الْحَىُّ) الْمُتَّصِفُ بِحَيَاةٍ أَزَلِيَّةٍ أَبَدِيَّةٍ لَيْسَتْ بِرُوحٍ وَلَحْمٍ وَدَمٍ وَعَصَبٍ وَمُخٍّ بَلْ حَيَاتُهُ صِفَةٌ قَدِيـمَةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ أَىْ ثَابِتَةٌ لَهُ (الْقَيُّومُ) الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ الَّذِي لا يَحْتَاجُ لغَيْرِهِ (الدَّائِمُ) الَّذِي لا يَلْحَقُهُ وَلا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْفَنَاءُ لِأَنَّ الْفَنَاءَ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ عَقْلًا فَلا دَائِمَ بِهَذَا الْمَعْنَى إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى (الْخَالِقُ) الَّذِي أَبْرَزَ وَكَوَّنَ جَمِيعَ الْكَائِنَاتِ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ (الرَّازِقُ) الَّذِي يُوصِلُ الأَرْزَاقَ إِلَى عِبَادِهِ (الْعَالِمُ) الْمُتَّصِفُ بِصِفَةِ الْعِلْمِ الأَزَلِيِّ الأَبَدِيِّ الَّذِي لا يَتَغَيَّرُ وَلا يَزِيدُ وَلا يَنْقُصُ وَلا يَتَجَدَّدُ فَهُوَ تَعَالَى عَالِمٌ لا كَالْعُلَمَاءِ لِأَنَّ عِلْمَهُ قَدِيمٌ وَعِلْمَ غَيْرِهِ حَادِثٌ (الْقَدِيرُ) الْمُتَّصِفُ بِالْقُدْرَةِ التَّامَّةِ وَقُدْرَةُ اللَّهِ صِفَةٌ أَزَلِيَّةٌ أَبَدِيَّةٌ يُؤَثِّرُ اللَّهُ بِهَا فِى الْمُمْكِنَاتِ أَىْ فِى كُلِّ مَا يَجُوزُ فِى الْعَقْلِ وُجُودُهُ تَارَةً وَعَدَمُهُ تَارَةً أُخْرَى فَبِهَا يُوجِدُ وَيُعْدِمُ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى (الْفَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ) أَىْ أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى تَكْوِينِ مَا سَبَقَتْ بِهِ إِرَادَتُهُ أَىْ عَلَى إِيجَادِ كُلِّ مَا أَرَادَ فِى الأَزَلِ وُجُودَهُ فَاللَّهُ تَعَالَى لا يُعْجِزُهُ عَنْ ذَلِكَ شَىْءٌ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ بِلا مَشَقَّةٍ وَلا يُمَانِعُهُ أَحَدٌ (مَا شَاءَ اللَّهُ) فِى الأَزَلِ وُجُودَهُ (كَانَ) أَىْ حَصَلَ وَوُجِدَ (وَمَا لَمْ يَشَإِ) اللَّهُ فِى الأَزَلِ وُجُودَهُ (لَمْ يَكُنْ) أَىْ لَمْ يُوجَدْ. وَمَشِيئَةُ اللَّهِ لا تَتَغَيَّرُ لِأَنَّ تَّغَيُّرَ الْمَشِيئَةِ دَلِيلُ الْحُدُوثِ وَالْحُدُوثُ مُسْتَحِيلٌ عَلَى اللَّهِ (الَّذِي لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلَّا بِهِ) أَىْ لا تَحَوُّلَ لِأَحَدٍ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ إِلَّا بِعِصْمَتِهِ سُبْحَانَهُ وَلا قُوَّةَ لِأَحَدٍ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ إِلَّا بِعَوْنِهِ تَعَالَى. وَهُوَ سُبْحَانَهُ (الْمَوْصُوفُ بِكُلِّ كَمَالٍ يَلِيقُ بِهِ) كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالإِرَادَةِ (الْمُنَزَّهُ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ فِى حَقِّهِ) أَىْ عَنْ كُلِّ مَا لا يَلِيقُ بِهِ تَعَالَى كَالْجَهْلِ وَالْعَجْزِ وَاللَّوْنِ وَالْحَدِّ وَالتَّحَيُّزِ فِى الْجِهَةِ وَالْمَكَانِ لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ فَهُوَ سُبْحَانَهُ مَوْجُودٌ بِلا مَكَانٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى (﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾) أَىْ أَنَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لا يُشْبِهُ شَيْئًا مِنْ خَلْقِهِ بِأَىِّ وَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَقَدْ قَدَّمَ اللَّهُ تَعَالَى قَوْلَهُ ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ عَلَى قَوْلِهِ (﴿وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾) حَتَّى لا يَتَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ أَنَّ سَمْعَ اللَّهِ وَبَصَرَهُ كَسَمْعِ وَبَصَرِ غَيْرِهِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُبَايِنٌ أَىْ غَيْرُ مُشَابِهٍ لِلْمَخْلُوقِينَ كَمَا قَالَ ذُو النُّونِ الْمِصْرِىُّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ مَهْمَا تَصَوَّرْتَ بِبَالِكَ فَاللَّهُ بِخِلافِ ذَلِكَ اهـ (فَهُوَ الْقَدِيمُ) الَّذِي لا أَوَّلَ لَهُ (وَمَا سِوَاهُ) مِنَ الْعَالَمِينَ (حَادِثٌ) وُجِدَ بَعْدَ عَدَمٍ (وَهُوَ الْخَالِقُ) لِجَمِيعِ الْكَائِنَاتِ (وَمَا سِوَاهُ) أَىْ كُلُّ الْعَالَمِينَ (مَخْلُوقٌ) لَهُ بِدَايَةٌ فَالْعَالَمُ حَادِثٌ بِجِنْسِهِ وَأَفْرَادِهِ، وَخَالَفَ فِى الْقِسْمِ الأَوَّلِ ابْنُ تَيْمِيَةَ فَقَالَ كَالْفَلاسِفَةِ إِنَّ نَوْعَ الْعَالَمِ أَزَلِيٌّ لا بِدَايَةَ لِوُجُودِهِ فَكَفَّرَهُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى ذَلِكَ. (فَكُلُّ حَادِثٍ دَخَلَ فِى الْوُجُودِ) سَوَاءٌ كَانَ (مِنَ الأَعْيَانِ) جَمْعُ عَيْنٍ (وَ)هُوَ كُلُّ مَا لَهُ حَجْمٌ أَمْ كَانَ مِنَ (الأَعْمَالِ) الِاخْتِيَارِيَّةِ أَوْ غَيْرِ الِاخْتِيَارِيَّةِ فَهُوَ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى، فَالأَعْيَانُ كُلُّهَا (مِنَ الذَّرَّةِ) وَهِىَ أَصْغَرُ حَجْمٍ نَرَاهُ مُنْفَصِلًا عَنْ غَيْرِهِ بِالْعَيْنِ الْمُجَرَّدَةِ وَهِىَ الْهَبَاءُ الَّذِي يَظْهَرُ عِنْدَ دُخُولِ نُورِ الشَّمْسِ مِنَ الْكَوَّةِ أَوْ مَا كَانَ أَصْغَرَ مِنْهَا (إِلَى الْعَرْشِ) الَّذِي هُوَ أَكْبَرُ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ حَيْثُ الْحَجْمُ [خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى الْعَرْشَ إِظْهَارًا لِقُدْرَتِهِ لا لِيَجْلِسَ عَلَيْهِ فَإِنَّ الْجُلُوسَ لا يَكُونُ إِلَّا لِلْجِسْمِ الْمُرَكَّبِ وَالتَّرْكِيبُ مِنْ لَوَازِمِ الْحُدُوثِ وَالْحُدُوثُ مُنَافٍ لِلأُلُوهِيَّةِ. رُوِيَ عَنْ صَبَاحِ التَّفْرِيدِ وَمِصْبَاحِ التَّوْحِيدِ سَيِّدِنَا عَلِىِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ قَالَ «إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْعَرْشَ إِظْهَارًا لِقُدْرَتِهِ وَلَمْ يَتَّخِذْهُ مَكَانًا لِذَاتِهِ» اهـ] هِىَ بِخَلْقِ اللَّهِ (وَ)كَذَلِكَ الأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ (مِنْ كُلِّ حَرَكَةٍ لِلْعِبَادِ وَسُكُونٍ وَ)الأَعْمَالُ الْبَاطِنَةُ مِنَ (النَّوَايَا) جَمْعُ نِيَّةٍ وَهِىَ الْعَزْمُ (وَالْخَوَاطِرِ) جَمْعُ خَاطِرٍ وَهُوَ مَا يَرِدُ عَلَى الْقَلْبِ بِلا إِرَادَةٍ (فَهُوَ) أَىِ الْحَادِثُ الدَّاخِلُ فِى الْوُجُودِ (بِخَلْقِ اللَّهِ لَمْ يَخْلُقْهُ أَحَدٌ سِوَى اللَّهِ لا) خَلَقَتْهُ (طَبِيعَةٌ) وَهِىَ الصِّفَةُ الَّتِى جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْهَا الأَجْرَامَ كَالنَّارِ طَبِيعَتُهَا الإِحْرَاقُ وَ(لا) خَلَقَتْهُ (عِلَّةٌ) وهِىَ مَا يُوجَدُ الْمَعْلُولُ بِوُجُودِهِ وَيُعْدَمُ بِعَدَمِهِ مِثْلُ حَرَكَةِ الإِصْبَعِ الَّذِي فِيهِ خَاتَمٌ عِلَّةٌ لِحَرَكَةِ الْخَاتَمِ) بَلْ دُخُولُهُ فِى الْوُجُودِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ بِتَقْدِيرِهِ وَعِلْمِهِ الأَزَلِىِّ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى) فِى سُورَةِ الْفُرْقَانِ (﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَىْءٍ﴾ أَىْ أَحْدَثَهُ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ فَلا خَلْقَ بِهَذَا الْمَعْنَى) أَىِ الإِبْرَازِ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ (لِغَيْرِ اللَّهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى) فِى سُورَةِ فَاطِرٍ (﴿هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ﴾) أَىْ لا خَالِقَ إِلَّا اللَّهُ وَخَالَفَ فِى ذَلِكَ الْمُعْتَزِلَةُ فَقَالُوا الْعَبْدُ يَخْلُقُ فِعْلَهُ الِاخْتِيَارِىَّ فَكَفَّرَهُمُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى ذَلِكَ. وَقَدْ (قَالَ) أَبُو حَفْصٍ عُمَرُ (النَّسَفِىُّ) رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِى كِتَابِهِ الْمَشْهُورِ «الْعَقِيدَةُ النَّسَفِيَّةُ» مَا مَعْنَاهُ (فَإِذَا ضَرَبَ إِنْسَانٌ زُجَاجًا بِحَجَرٍ فَكَسَرَهُ فَالضَّرْبُ) وَهُوَ فِعْلُ الْعَبْدِ بِالْحَجَرِ [أَىْ بِوَاسِطَةِ الْحَجَرِ] وَقَدْ يَحْصُلُ مِنْهُ انْكِسَارٌ وَقَدْ لا يَحْصُلُ (وَالْكَسْرُ) وهُوَ فِعْلُ الْعَبْدِ الَّذِي فَعَلَهُ فِى الزُّجَاجِ بِوَاسِطَةِ الرَّمْىِّ بِالْحَجَرِ (وَالِانْكِسَارُ) وَهُوَ الأَثَرُ الْحَاصِلُ فِى الزُّجَاجِ مِنْ تَشَقُّقٍ وَتَنَاثُرٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ (بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى) لا بِخَلْقِ الْعَبْدِ (فَلَيْسَ لِلْعَبْدِ) مِنْ فِعْلِهِ هَذَا (إِلَّا الْكَسْبُ) وَهُوَ تَوْجِيهُ الْعَبْدِ قَصْدَهُ وَإِرَادَتَهُ نَحْوَ الْعَمَلِ فَيَخْلُقُهُ اللَّهُ عِنْدَ ذَلِكَ (وَأَمَّا الْخَلْقُ فَلَيْسَ لِغَيْرِ اللَّهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى) فِى سُورَةِ الْبَقَرَةِ (﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ﴾) أَىْ لِلنَّفْسِ جَزَاءُ مَا كَسَبَتْهُ مِنَ الْخَيْرِ أَىْ تَنْتَفِعُ بِذَلِكَ (﴿وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾) أَىْ وعَلَيْهَا وَبَالُ مَا اكْتَسَبَتْهُ مِنْ عَمَلِ الشَّرِّ أَىْ يَضُرُّهَا ذَلِكَ فَالْعَبْدُ إِنَّمَا يَتَّصِفُ بِالْكَسْبِ لا بِالْخَلْقِ وَهُوَ يُحَاسَبُ عَلَى كَسْبِهِ.
(وَ)لْيُعْلَمْ أَنَّ (كَلامَهُ) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ الثَّابِتَةِ لِذَاتِهِ الأَزَلِىِّ الأَبَدِىِّ وَهُوَ أَىِ الْكَلامُ (قَدِيمٌ) أَزَلِىٌّ لا ابْتِدَاءَ لَهُ (كَسَائِرِ) أَىْ بَاقِى (صِفَاتِهِ) تَعَالَى مِنَ الْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ فَإِنَّهَا قَدِيـمَةٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ الذَّاتَ الأَزَلِىَّ لا تقُومُ بِهِ صِفَةٌ حَادِثَةٌ فَيُعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ كَلامَ اللَّهِ لَيْسَ حَرْفًا وَلا صَوْتًا وَلا لُغَةً وَلا يُبْتَدَأُ وَلا يُخْتَتَمُ وَأَمَّا اللَّفْظُ الْمُنَزَّلُ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ ذَلِكَ الْكَلامِ الأَزَلِىِّ وَلِذَلِكَ يُطْلَقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ كَلامُ اللَّهِ وَذَلِكَ (لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ مُبَايِنٌ) أَىْ غَيْرُ مُشَابِهٍ (لِجَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ فِى الذَّاتِ) أَىْ ذَاتُهُ لا يُشْبِهُ ذَوَاتِ الْمَخْلُوقَاتِ (وَالصِّفَاتِ) أَىْ صِفَاتُهُ لا تُشْبِهُ صِفَاتِ الْمَخْلُوقَاتِ (وَالأَفْعَالِ) أَىْ فِعْلُهُ لا يُشْبِهُ فِعْلَ الْمَخْلُوقَاتِ (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى) أَىْ تَقَدَّسَ وَتَنَزَّهَ (عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ) أَىِ الْكَافِرُونَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُشَبِّهَةِ مِنْ وَصْفِ اللَّهِ بِمَا لا يَلِيقُ بِهِ (عُلُوًّا كَبِيرًا) أَىْ تَنَزُّهًا كَامِلًا (فَيَتَلَخَّصُ مِنْ مَعْنَى مَا مَضَى إِثْبَاتُ ثَلاثَ عَشْرَةَ صِفَةً لِلَّهِ تَعَالَى تَكَرَّرَ ذِكْرُهَا فِى الْقُرْءَانِ) وَالْحَدِيثِ (إِمَّا لَفْظًا وَإِمَّا مَعْنًى) تَكَرُّرًا (كَثِيرًا) وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَحْرِصُ عَلَى أَنْ يَتَعَلَّمَهَا كُلُّ أَحَدٍ (وَ)هَذِهِ الصِّفَاتُ (هِىَ الْوُجُودُ) أَىْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَوْجُودٌ لا شَكَّ فِى وُجُودِهِ (وَالْوَحْدَانِيَّةُ) أَىْ أَنَّهُ وَاحِدٌ لا شَرِيكَ لَهُ (وَالْقِدَمُ أَىِ الأَزَلِيَّةُ) أَىْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لا ابْتِدَاءَ لِوُجُودِهِ (وَالْبَقَاءُ) أَىْ أَنَّهُ لا نِهَايَةَ لِوُجُودِهِ لا يَمُوتُ وَلا يَهْلِكُ وَلا يَتَغَيَّرُ (وَقِيَامُهُ بِنَفْسِهِ) أَىْ أَنَّهُ مُسْتَغْنٍ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ وَكُلُّ مَا سِوَاهُ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ (وَالْقُدْرَةُ) أَىْ أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ أَىْ عَلَى كُلِّ مُمْكِنٍ عَقْلِىٍّ وَهُوَ مَا يَجُوزُ عَقْلًا وُجُودُهُ تَارَةً وَعَدَمُهُ تَارَةً أُخْرَى (وَالإِرَادَةُ) أَىِ الْمَشِيئَةُ وَهِىَ تَخْصِيصُ الْمُمْكِنِ الْعَقْلِىِّ بِبَعْضِ مَا يَجُوزُ عَلَيْهِ مِنَ الصِّفَاتِ دُونَ بَعْضٍ وَبِوَقْتٍ دُونَ ءَاخَرَ (وَالْعِلْمُ) أَىْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ كُلَّ شَىْءٍ بِعِلْمِهِ الأَزَلِىِّ يَعْلَمُ ذَاتَهُ وَصِفَاتِهِ وَمَا يُحْدِثُهُ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ بِعِلْمٍ وَاحِدٍ شَامِلٍ لِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ لا يَتَجَدَّدُ وَلا يَتَغَيَّرُ وَلا يَنْقُصُ وَلا يَزِيدُ (وَالسَّمْعُ) أَىْ أَنَّ اللَّهَ يَسْمَعُ بِسَمْعِهِ الأَزَلِىِّ الَّذِي لَيْسَ كَسَمْعِ غَيْرِهِ فَسَمْعُ اللَّهِ قَدِيمٌ وَسَمْعُ غَيْرِهِ حَادِثٌ يَسْمَعُ اللَّهُ بِسَمْعِهِ كُلَّ الْمَسْمُوعَاتِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى أُذُنٍ وَلا ءَالَةٍ أُخْرَى (وَالْبَصَرُ) أَىْ أَنَّ اللَّهَ يَرَى بِرُؤْيَتِهِ الَّتِي لَيْسَتْ كَرُؤْيَةِ غَيْرِهِ فَبَصَرُ اللَّهِ قَدِيمٌ وَبَصَرُ غَيْرِهِ حَادِثٌ، يَرَى رَبُّنَا بِبَصَرِهِ كُلَّ الْمُبْصَرَاتِ فَيَرَى ذَاتَهُ وَمَخْلُوقَاتِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى حَدَقَةٍ وَلا ءَالَةٍ أُخْرَى (وَالْحَيَاةُ) أَىْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَىٌّ بِحَيَاةٍ أَزَلِيَّةٍ أَبَدِيَّةٍ لا تُشْبِهُ حَيَاتَنَا لَيْسَتْ بِرُوحٍ وَلَحْمٍ وَدَمٍ وَعَصَبٍ وَمُخٍّ (وَالْكَلامُ) أَىْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُتَكَلِّمٌ بِكَلامٍ وَاحِدٍ أَزَلِىٍّ أَبَدِىٍّ لا يُبْتَدَأُ وَلا يُخْتَتَمُ لَيْسَ حَرْفًا وَلا صَوْتًا وَلا لُغَةً [قَالَ الإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ فِى الْفِقْهِ الأَكْبَرِ «وَنَحْنُ نَتَكَلَّمُ بِالآلاتِ وَالْحُرُوفِ وَاللَّهُ تَعَالَى يَتَكَلَّمُ بِلا ءَالَةٍ وَلا حُرُوفٍ وَالْحُرُوفُ مَخْلُوقَةٌ وَكَلامُ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرُ مَخْلُوقٍ»] (وَالْمُخَالَفَةُ لِلْحَوَادِثِ) أَىْ أَنَّهُ لا يُشْبِهُ شَيْئًا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ (فَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الصِّفَاتُ) الثَّلاثَ عَشْرَةَ (ذِكْرُهَا كَثِيرًا فِى النُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ) أَىِ الْقُرْءَانِ وَالْحَدِيثِ كَمَا مَرَّ (قَالَ الْعُلَمَاءُ تَجِبُ مَعْرِفَتُهَا وُجُوبًا عَيْنِيًّا) عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ، وَقَالُوا (فَلَمَّا ثَبَتَتِ الأَزَلِيَّةُ لِذَاتِ اللَّهِ) بِالدَّلِيلِ النَّقْلِىِّ وَالدَّلِيلِ الْعَقْلِىِّ (وَجَبَ أَنْ تَكُونَ صِفَاتُهُ أَزَلِيَّةً لِأَنَّ حُدُوثَ الصِّفَةِ يَسْتَلْزِمُ حُدُوثَ الذَّاتِ) الْمُتَّصِفِ بِهَا لِأَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ يَتَغَيَّرُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ وَالْمُتَغَيِّرُ مُحْتَاجٌ لِمَنْ يُغَيِّرُهُ وَالْمُحْتَاجُ لا يَكُونُ إِلَهًا أَزَلِيًّا بَلْ مَخْلُوقٌ حَادِثٌ، فَلَمَّا ثَبَتَ فِى الْعَقْلِ قِدَمُ اللَّهِ تَعَالَى وَأَزَلِيَّتُهُ ثُبُوتًا قَطْعِيًّا وَجَبَ أَنْ تَكُونَ صِفَاتُهُ أَزَلِيَّةً.
وَبِهَذَا أَنْهَى الْمُصَنِّفُ الْكَلامَ عَلَى الشَّهَادَةِ الأُولَى وَالشَّرْحَ لَهَا ثُمَّ بَدَأَ الْكَلامَ عَلَى الشَّهَادَةِ الثَّانِيَةِ فَقَالَ (وَمَعْنَى) الشَّهَادَةِ الثَّانِيَةِ وَهِىَ (أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَعْلَمُ وَأَعْتَقِدُ) وَأُصَدِّقُ وَأُذْعِنُ بِقَلْبِى (وَأَعْتَرِفُ) بِلِسَانِى (أَنَّ مُحَمَّدَ بنَ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بنِ هَاشِمِ بنِ عَبْدِ مَنَافِ) بنِ قُصَىِّ بنِ كِلابِ بنِ مُرَّةَ بنِ كَعْبِ بنِ لُؤَيِّ بنِ غَالِبِ بنِ فِهْرِ بنِ مَالِكِ بنِ النَّضْرِ بنِ كِنَانَةَ بنِ خُزَيْمَةَ بنِ مُدْرِكَةَ بنِ إِلْيَاسَ بنِ مُضَرِ بنِ نِزَارِ بنِ مَعَدِّ بنِ عَدْنَانَ (الْقُرَشِىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَىِ الْمَنْسُوبَ إِلَى أَشْرَفِ قَبَائِلِ الْعَرَبِ قُرَيْشَ هُوَ (عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ إِلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ) مِنْ إِنْسٍ وَجِنٍّ (وَيَتْبَعُ ذَلِكَ) أَىْ يَتْبَعُ الإِيـمَانَ بِرِسَالَةِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (اعْتِقَادُ أَنَّهُ وُلِدَ بِمَكَّةَ) وَأُمُّهُ هِىَ ءَامِنَةُ بِنْتُ وَهْبٍ مِنْ بَنِى زُهْرَةَ مِنْ قُرَيْش (وَبُعِثَ بِهَا) أَىْ نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْىُ بِالنُّبُوَّةِ وَهُوَ مُسْتَوْطِنٌ فِيهَا وَكَانَ حِينَئِذٍ فِى غَارِ حِرَاءٍ (وَهَاجَرَ) أَىْ فَارَقَ مَكَّةَ (إِلَى الْمَدِينَةِ) الْمُنَوَّرَةِ بِأَمْرِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَمَاتَ (وَدُفِنَ فِيهَا) فِى حُجْرَةِ السَّيِّدَةِ عَائِشَةَ رَضِىَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا (وَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ) أَيْضًا اعْتِقَادَ (أَنَّهُ صَادِقٌ فِى جَمِيعِ مَا أَخْبَرَ بِهِ وَبَلَّغَهُ عَنِ اللَّهِ) وَلا يُخْطِئُ فِى ذَلِكَ أَبَدًا سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَخْبَارِ مَنْ قَبْلَنَا مِنَ الأُمَمِ وَبَدْءِ الْخَلْقِ أَمْ مِنَ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ أَمْ مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ مِمَّا يَحْدُثُ فِى الْمُسْتَقْبَلِ أَمَّا مَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا بِغَيْرِ وَحْىٍ فَكَانَ يَجُوزُ عَلَيْهِ الْخَطَأُ فِيهِ، (فَمِنْ ذَلِكَ) أَىْ فَمِمَّا يَجِبُ الإِيـمَانُ وَالتَّصْدِيقُ بِهِ جَزْمًا مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (عَذَابُ الْقَبْرِ) بِالرُّوحِ وَالْجَسَدِ كَعَرْضِ النَّارِ عَلَى الْكَافِرِ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ مَرَّةً أَوَّلَ النَّهَارِ وَمَرَّةً ءَاخِرَ النَّهَارِ يَتَعَذَّبُ بِنَظَرِهِ وَرُؤْيَتِهِ لِمَقْعَدِهِ الَّذِي يَقْعُدُهُ فِى الآخِرَةِ وَكَالِانْزِعَاجِ مِنْ ظُلْمَةِ الْقَبْرِ وَوَحْشَتِهِ (وَنَعِيمُهُ) أَىْ نَعِيمُ الْقَبْرِ كَتَوْسِيعِ الْقَبْرِ سَبْعِينَ ذِرَاعًا فِى سَبْعِينَ ذِرَاعًا وَكَتَنْوِيرِهِ بِنُورٍ يُشْبِهُ نُورَ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ (وَسُؤَالُ الْمَلَكَيْنِ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ) فَيُسْأَلُ الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ عَنِ اعْتِقَادِهِ الَّذِي مَاتَ عَلَيْهِ فَيُجيبُ كُلٌّ بِحَسَبِ حَالِهِ وَيُسْتَثْنَى مِنْ هَذَا السُّؤَالِ النَّبِىُّ وَالطِّفْلُ وَهُوَ الَّذِي مَاتَ دُونَ الْبُلُوغِ وَشَهِيدُ الْمَعْرَكَةِ (وَالْبَعْثُ) وَهُوَ خُرُوجُ الْمَوْتَى مِنَ الْقُبُورِ بَعْدَ إِحْيَائِهِمْ (وَالْحَشْرُ) وَهُوَ أَنْ يُجْمَعَ الْخَلْقُ وَيُسَاقُوا بَعْدَ بَعْثِهِمْ إِلَى الْمَحْشَرِ (وَ)الإِيمَانُ بِيَوْمِ (الْقِيَامَةِ) وَأَوَّلُهُ مِنْ خُرُوجِ النَّاسِ مِنْ قُبُورِهِمْ إِلَى دُخُولِ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلِ النَّارِ النَّارَ (وَالْحِسَابُ) وَهُوَ عَرْضُ أَعْمَالِ الْعِبَادِ عَلَيْهِمْ (وَالثَّوَابُ) وَهُوَ الْجَزَاءُ الَّذِي يُجَازَاهُ الْمُؤْمِنُ فِى الآخِرَةِ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ مِمَّا يَسُرُّهُ (وَالْعَذَابُ) وَهُوَ مَا يَسُوءُ الْعَبْدَ ذَلِكَ الْيَوْمَ مِنْ دُخُولِ النَّارِ وَمَا دُونَ ذَلِكَ مِنَ الْعُقُوبَاتِ عَلَى الْمَعَاصِى (وَالْمِيزَانُ) وَهُوَ مَا تُوزَنُ بِهِ أَعْمَالُ الْعِبَادِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (وَالنَّارُ) أَىْ جَهَنَّمُ وَهِىَ الدَّارُ الَّتِي أَعَدَّهَا اللَّهُ لِتَعْذِيبِ الْكَافِرِينَ وبَعْضِ عُصَاةِ الْمُسْلِمِينَ وَهِىَ مَخْلُوقَةٌ الآنَ وَلا تَزَالُ بَاقِيَةً إِلَى مَا لا نِهَايَةَ لَهُ (وَالصِّرَاطُ) وَهُوَ جِسْرٌ يُمَدُّ عَلَى ظَهْرِ جَهَنَّمَ فَيَرِدُهُ النَّاسُ وَتَجْرِي بِهِمْ أَعْمَالُهُمْ أَحَدُ طَرَفَيْهِ فِى الأَرْضِ الْمُبَدَّلَةِ وَالطَّرَفُ الآخَرُ فِيمَا يَلِي الْجَنَّةَ بَعْدَ النَّارِ (وَالْحَوْضُ) وَهُوَ مَكَانٌ أَعَدَّ اللَّهُ فِيهِ شَرَابًا لِأَهْلِ الْجَنَّةِ يَشْرَبُونَ مِنْهُ بَعْدَ عُبُورِ الصِّرَاطِ قَبْلَ دُخُولِ الْجَنَّةِ فَلا يُصِيبُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ ظَمَأٌ (وَالشَّفَاعَةُ) فَيَطْلُبُ الشُّفَعَاءُ فِى الآخِرَةِ مِنَ اللَّهِ إِسْقَاطَ الْعِقَابِ عَنْ بَعْضِ الْعُصَاةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَهِىَ لا تَكُونُ إِلَّا لِلْمُسْلِمِينَ (وَالْجَنَّةُ) وَهِىَ مَكَانٌ أَعَدَّهُ اللَّهُ لِتَنْعِيمِ الْمُؤْمِنِينَ وَهِىَ مَخْلُوقَةٌ الآنَ وَلا تَزَالُ بَاقِيَةً إِلَى مَا لا نِهَايَةَ لَهُ (وَالرُّؤْيَةُ لِلَّهِ تَعَالَى بِالْعَيْنِ فِى الآخِرَةِ) أَىْ بِأَنَّهَا حَقٌّ وَهَذَا خَاصٌّ بالْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَهُ وَهُمْ فِى الْجَنَّةِ (بِلا كَيْفٍ وَلا مَكَانٍ وَلا جِهَةٍ) وَلا تَشْبِيهٍ كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ [قَالَ فِى الْفِقْهِ الأَكْبَرِ «وَاللَّهُ تَعَالَى يُرَى فِى الآخِرَةِ وَيَرَاهُ الْمُؤْمِنُونَ وَهُمْ فِى الْجَنَّةِ بِأَعْيُنِ رُؤُوسِهِمْ بِلا تَشْبِيهٍ وَلا كَيْفِيَّةٍ وَلا كَمِيَّةٍ وَلا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ مَسَافَةٌ»] (أَىْ لا كَمَا يُرَى الْمَخْلُوقُ) مِنْ قِبَلِ الْمَخْلُوقِ لِأَنَّ الْمَرْئِىَّ عِنْدَئِذٍ يَكُونُ فِى جِهَةٍ مِنَ الرَّائِى وَإِنَّمَا يَكُونُ الْمُؤْمِنُونَ فِى مَكَانِهِمْ فِى الْجَنَّةِ فَيَرَوْنَ اللَّهَ وَاللَّهُ بِلا مَكَانٍ (وَالْخُلُودُ فِيهِمَا) أَىْ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَيَجِبُ الإِيـمَانُ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَخْلُدُونَ فِى الْجَنَّةِ والكافرينَ يَخْلُدُونَ فِى النَّارِ وَأَنَّهُ لا مَوْتَ بَعْدَ ذَلِكَ (وَالإِيمَانُ بِمَلائِكَةِ اللَّهِ) تَعَالَى أَىْ بِوُجُودِهِمْ وَأَنَّهُمْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ وَهُمْ لَيْسُوا ذُكُورًا وَلا إِنَاثًا لا يَأْكُلُونَ وَلا يَشْرَبُونَ وَلا يَنَامُونَ وَلا يَتَوَالَدُونَ (وَرُسُلِهِ) أَىْ أَنْبِيَائِهِ مَنْ كَانَ رَسُولًا أُرْسِلَ بِشَرْعٍ جَدِيدٍ ومَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، وَالنَّبِىُّ غَيْرُ الرَّسُولِ هُوَ إِنْسَانٌ أُوحِىَ إِلَيْهِ لا بِشَرْعٍ جَدِيدٍ بَلْ بِاتِّبَاعِ شَرْعِ الرَّسُولِ الَّذِي قَبْلَهُ وَأَوَّلُ رُسُلِ اللَّهِ هُوَ سَيِّدُنَا ءَادَمُ عَلَيْهِ السَّلامُ وَءَاخِرُهُمْ سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَكُتُبِهِ) وَأَشْهَرُهَا أَرْبَعَةٌ الْقُرْءَانُ وَالتَّوْرَاةُ وَالإِنْجِيلُ وَالزَّبُورُ (وَ)يَجِبُ أَيْضًا الإِيـمَانُ (بِالْقَدَرِ) أَىِ الِاعْتِقَادُ بِأَنَّ كُلَّ مَا يَحْصُلُ هُوَ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ الرِّضَا بِتَقْدِيرِهِ تَعَالَى وَعَدَمِ الِاعْتِرَاضِ عَلَيْهِ فِى تَقْدِيرِهِ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ وَالْحُلْوَ وَالْمُرَّ فَإِنَّ الْمَقْدُورَ (خَيْرَهُ وَشَرَّهُ) يَحْصُلُ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ وَخَلْقِهِ وَمَشِيئَتِهِ فَمَا كَانَ مِنْهُ خَيْرًا نُحِبُّهُ وَمَا كَانَ مِنْهُ شَرًّا نَكْرَهُهُ.
(وَ)يَتَضَمَّنُ الإِيمَانُ بِرِسَالَةِ النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْضًا اعْتِقَادَ (أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ) فَلا نَبِىَّ بَعْدَهُ وَلا نَاسِخَ لِشَرِيعَتِهِ (وَأَنَّهُ سَيِّدُ وَلَدِ ءَادَمَ أَجْمَعِينَ) فَهُوَ أَفْضَلُ خَلْقِ اللَّهِ وَأَعْلاهُمْ رُتْبَةً وَمَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّهِ.
(وَيَجِبُ اعْتِقَادُ أَنَّ كُلَّ نَبِىٍّ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ يَجِبُ أَنَّ يَكُونَ مُتَّصِفًا بِالصِّدْقِ) فَيَسْتَحِيلُ عَلَيْهِمُ الْكَذِبُ لِأَنَّ ذَلِكَ نَقْصٌ يُنَافِى مَنْصِبَ النُّبُوَّةِ (وَ)تَجِبُ لَهُمُ (الأَمَانَةُ) فَيَسْتَحِيلُ عَلَيْهِمُ الْخِيَانَةُ فَلا يَغُشُّونَ النَّاسَ إِنْ طَلَبُوا مِنْهُمُ النَّصِيحَةَ وَلا يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ (وَ)تَجِبُ لَهُمُ (الْفَطَانَةُ) فَكُلُّ الأَنْبِيَاءِ أَذْكِيَاءُ تَسْتَحِيلُ عَلَيْهِمُ الْغَبَاوَةُ أَىْ ضَعْفُ الْفَهْمِ لِأَنَّ الْغَبَاوَةَ تُنَافِى مَنْصِبَهُمْ لِأَنَ اللَّهَ أَرْسَلَهُمْ لِيُبَلِّغُوا الرِّسَالَةَ وَيُقِيمُوا الْحُجَّةَ عَلَى الْكُفَّارِ الْمُعَانِدِينَ (فَيَسْتَحِيلُ عَلَيْهِمُ الْكَذِبُ وَالْخِيَانَةُ) أَىْ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِمُ الِاتِّصَافُ بِالْكَذِبِ وَالْخِيَانَةِ كَمَا يُعْلَمُ مِمَّا مَضَى (وَ)يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِمْ أَيْضًا (الرَّذَالَةُ) وَهِىَ أَخْلاقُ الأَسَافِلِ الدُّونِ فَلَيْسَ فِى الأَنْبِيَاءِ مَنْ هُوَ رَذِيلٌ يَخْتَلِسُ النَّظَرَ إِلَى النِّسَاءِ الأَجْنَبِيَّاتِ بِشَهْوَةٍ مَثَلًا وَلَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يَسْرِقُ وَلَوْ حَبَّةَ عِنَبٍ (وَ)يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِمُ (السَّفَاهَةُ) وَهِىَ التَّصَرُّفُ بِخِلافِ الْحِكْمَةِ فَلَيْسَ فِيهِمْ مَنْ هُوَ سَفِيهٌ يَقُولُ أَلْفَاظًا شَنِيعَةً تَسْتَقْبِحُهَا النَّفْسُ (وَ)يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِمُ (الْبَلادَةُ) فلَيْسَ فِيهِمْ مَنْ هُوَ بَلِيدُ الذِّهْنِ عَاجِزٌ عَنْ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى مَنْ يُعَارِضُهُ وَلا ضَعِيفُ الْفَهْمِ لا يَفْهَمُ الْكَلامَ مِنَ الْمَرَّةِ الأُولَى إِلَّا بَعْدَ أَنْ يُكَرَّرَ عَلَيْهِ عِدَّةَ مَرَّاتٍ (وَ)يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِمُ (الْجُبْنُ) أَمَّا الْخَوْفُ الطَّبِيعِيُّ فَلا يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِمْ [كَالنُّفُورِ مِنَ الْحَيَّةِ إِذَا تَفَاجَأَ بِهَا الإِنْسَانُ. قَالَ تَعَالَى ﴿قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى﴾]، وَكَذَلِكَ يَسْتَحِيلُ عَلَى الأَنْبِيَاءِ سَبْقُ اللِّسَانِ فِى الشَّرْعِيَّاتِ وَالْعَادِيَّاتِ (وَ)يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِمْ أَيْضًا (كُلُّ مَا يُنَفِّرُ عَنْ قَبُولِ الدَّعْوَةِ مِنْهُمْ) كَالأَمْرَاضِ الْمُنَفِّرَةِ وَذَلِكَ كَخُرُوجِ الدُّودِ مِنَ الْجِسْمِ (وَتَجِبُ لَهُمُ الْعِصْمَةُ) أَىِ الْحِفْظُ التَّامُّ بِلا انْخِرَامٍ (مِنَ الْكُفْرِ وَ)الذُّنُوبِ (الْكَبَائِرِ وَصَغَائِرِ الْخِسَّةِ) وَالدَّنَاءَةِ (قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَبَعْدَهَا) فَالأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلامُ مَعْصُومُونَ مِنَ الْوُقُوعِ فِى الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِى الْكَبِيرَةِ وَمِنَ التَّلَبُّسِ بِالذُّنُوبِ الصَّغِيرَةِ الَّتِي فِيهَا خِسَّةٌ وَدَنَاءَةٌ كَسَرِقَةِ حَبَّةِ عِنَبٍ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَبَعْدَهَا (وَيَجُوزُ عَلَيْهِمْ مَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْمَعَاصِى) وهِىَ الصَّغَائِرُ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا خِسَّةٌ وَلا دَنَاءَةٌ كَمَا حَصَلَ مَعَ سَيِّدِنَا ءَادَمَ (لَكِنْ) إِنْ حَصَلَ مِنْهُمْ شَىْءٌ مِنْ ذَلِكَ (يُنَبَّهُونَ فَوْرًا لِلتَّوْبَةِ قَبْلَ أَنْ يَقْتَدِىَ بِهِمْ) أَىْ بِالأَنْبِيَاءِ (فِيهَا) أَىْ فِى تِلْكَ الصَّغِيرَةِ (غَيْرُهُمْ) مِنْ أُمَمِهِمْ فَيَفْعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلُوا لِأَنَّهُمْ قُدْوَةٌ لِلنَّاسِ (فَمِنْ هُنَا يُعْلَمُ أَنَّ النُّبُوَّةَ لا تَصِحُّ لإِخْوَةِ يُوسُفَ) وَهُمُ الْعَشَرَةُ (الَّذِينَ فَعَلُوا تِلْكَ الأَفَاعِيلَ الْخَسِيسَةَ) مِنْ ضَرْبِهِمْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ وَرَمْيِهِمْ لَهُ فِى الْبِئْرِ وَتَسْفِيهِهِمْ أَبَاهُمْ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلامُ وَهُوَ كُفْرٌ، (وَ)إِخْوَةُ يُوسُفَ هَؤُلاءِ (هُمْ مَنْ سِوَى بِنْيَامِينَ) فَهُوَ لَمْ يُشَارِكْهُمْ فِيمَا فَعَلُوهُ. (وَ)أَمَّا (الأَسْبَاطُ الَّذِينَ) ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِى الْقُرْءَانِ أَنَّهُ (أُنْزِلَ عَلَيْهِمُ الْوَحْىُ) فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِمْ هَؤُلاءِ الَّذِينَ ءَاذَوْهُ بَلْ (هُمْ مَنْ نُبِّئَ) أَىْ أُوحِىَ إِلَيْهِمْ بِالنُّبُوَّةِ (مِنْ ذُرِّيَّتِهِمْ) لِأَنَّ ذُرِّيَّتَهُمْ مِنْهُمْ مَنْ أُوتِىَ النُّبُوَّةَ. وَالسِّبْطُ فِى اللُّغَةِ يُطْلَقُ عَلَى الْوَلَدِ وَوَلَدِ الْوَلَدِ.
(بَابُ الرِّدَّةِ)
وَبَعْدَ أَنْ أَنْهَى الْمُؤَلِّفُ الْكَلامَ عَلَى ضَرُورِيَّاتِ الِاعْتِقَادِ شَرَعَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِى الْكَلامِ عَلَى الرِّدَّةِ وَقِيلَ فِى تَعْرِيفِهَا هِىَ قَطْعُ الإِسْلامِ بِكُفْرٍ قَوْلِىٍّ أَوْ فِعْلِىٍّ أَوِ اعْتِقَادِىٍّ.
(فَصْلٌ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ) مُكَلَّفٍ (حِفْظُ إِسْلامِهِ وَصَوْنُهُ عَمَّا يُفْسِدُهُ وَيُبْطِلُهُ وَيَقْطَعُهُ وَهُوَ الرِّدَّةُ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ تَعَالَى) وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكُفْرَ هُوَ أَعْظَمُ الذُّنُوبِ وَهُوَ الذَّنْبُ الَّذِي لا يَغْفِرُهُ اللَّهُ لِمَنْ مَاتَ عَلَيْهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء. (قَالَ) الْحَافِظُ يَحْيَى بنُ شَرَفٍ (النَّوَوِىُّ) الْمُتَوَفَّى سَنَةَ سِتِّمِائَةٍ وَسِتٍّ وَسَبْعِينَ (وَغَيْرُهُ) مِنَ الْعُلَمَاءِ (الرِّدَّةُ أَفْحَشُ) أَىْ أَقْبَحُ (أَنْوَاعِ الْكُفْرِ) أَىْ منْ حَيْثُ إِنَّهَا تُحْبِطُ كُلَّ الْحَسَنَاتِ وَمِنْ حَيْثُ كَوْنُهَا انْتِقَالًا مِنَ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهَا أَشَدُّ الْكُفْرِ فِى كُلِّ الأَحْوَالِ. (وَقَدْ كَثُرَ فِى هَذَا الزَّمَانِ) عِنْدَ الْجُهَّالِ مِنَ النَّاسِ (التَّسَاهُلُ فِى الْكَلامِ حَتَّى إِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ بَعْضِهِمْ أَلْفَاظٌ) كُفْرِيَّةٌ (تُخْرِجُهُمْ عَنْ) دِينِ (الإِسْلامِ وَلا يَرَوْنَ ذَلِكَ) الْكَلامَ الْكُفْرِىَّ (ذَنْبًا فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ كُفْرًا) فَيَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مَا زَالُوا مُسْلِمِينَ (وَذَلِكَ مِصْدَاقُ) أَىْ وَتَحْقيِقُ (قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ) أَىْ مِنَ الْكُفْرِ (لا يَرَى بِهَا بِأْسًا) أَىْ لا يَظُنُّهَا ضَارَّةً لَهُ (يَهْوى بِهَا) أَىْ بِسَبَبِهَا (فِى النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا أَىْ مَسَافَةَ سَبْعِينَ عَامًا فِى النُّزُولِ وَذَلِكَ مُنْتَهَى) قَعْرِ (جَهَنَّمَ وَهُوَ خَاصٌّ بِالْكُفَّارِ) كَمَا دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ النُّصُوصُ الشَّرْعِيَّةُ (وَ)هَذَا (الْحَدِيثُ رَوَاهُ التِّرْمِذِىُّ) فِى جَامِعِهِ (وَحَسَنَّهُ وَفِى مَعْنَاهُ حَدِيثٌ رَوَاهُ) الشَّيْخَانِ (الْبُخَارِىُّ وَمُسْلِمٌ) وَنَصُّهُ إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ فِيهَا يَزِلُّ بِهَا فِى النَّارِ أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ اهـ وَحَدِيثُ التِّرْمِذِىِّ مُفَسِّرٌ لَهُ. (وَهَذَا الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لا يُشْتَرَطُ فِى الْوُقُوعِ فِى الْكُفْرِ مَعْرِفَةُ الْحُكْمِ) لِأَنَّ النَّبِىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَكَمَ عَلَى قَائِلِ الْكَلِمَةِ الْكُفْرِيَّةِ بِالْعَذَابِ فِى قَعْرِ النَّارِ مَعَ كَوْنِهِ غَيْرَ عَالِمٍ بِالْحُكْمِ لِأَنَّهُ لا يَظُنُّ فِيهَا ضَرَرًا كَمَا جَاءَ فِى الْحَدِيثِ، فَيُعْلَمُ مِنْ هُنَا أَنَّ مَنْ قَالَ كَلامًا كُفْرِيًّا وَهُوَ يَفْهَمُ مَعْنَى اللَّفْظِ كَفَرَ سَوَاءٌ عَرَفَ أَنَّ كَلامَهُ كُفْرِىٌّ أَمْ لَمْ يَعْرِفْ (وَلا) يُشْتَرَطُ أَيْضًا لِلْوُقُوعِ فِى الْكُفْرِ (انْشِرَاحُ الصَّدْرِ( فَمَنْ قَالَ كَلامًا كُفْرِيًّا كَفَرَ وَلَوْ كَانَ غَيْرَ مُنْشَرِحِ الصَّدْرِ (وَلا) يُشْتَرَطُ (اعْتِقَادُ مَعْنَى اللَّفْظِ) فَمَنْ قَالَ الْكَلامَ الْكُفْرِيَّ بِإِرَادَتِهِ كَفَرَ وَلَوْ كَانَ لا يَعْتَقِدُ مَعْنَى الْكَلامِ الَّذِي قَالَهُ كَمَنْ يَقُولُ يَا ابْنَ اللَّهِ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ وَهُوَ لا يَعْتَقِدُ لِلَّهِ ابْنًا. وَخَالَفَ فِيمَا ذَكَرْنَا سَيِّدُ سَابِق الْمِصْرِىُّ (كَمَا يَقُولُ) فِى (كِتَابٍ) لَهُ سَمَّاهُ (فِقْهَ السُّنَّةِ) إِنَّ الْمُسْلِمَ لا يُعْتَبَرُ خَارِجًا عَنِ الإِسْلامِ وَلا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالرِّدَّةِ إِلَّا إِذَا انْشَرَحَ صَدْرُهُ بِالْكُفْرِ وَاطْمَأَنَّ قَلْبُهُ بِهِ وَدَخَلَ فِى دِينٍ غَيْرِ الإِسْلامِ بِالْفِعْلِ اهـ وَيَكْفِى فِى الرَّدِّ عَلَيْهِ حَدِيثُ التِّرْمِذِىِّ الْمَذْكُورُ ءَانِفًا. (وَكَذَلِكَ لا يُشْتَرَطُ فِى الْوُقُوعِ فِى الْكُفْرِ عَدَمُ الْغَضَبِ كَمَا أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ) الْحَافِظُ (النَّوَوِىُّ) حَيْثُ (قَالَ لَوْ غَضِبَ رَجُلٌ عَلَى وَلَدِهِ أَوْ غُلامِهِ) أَىْ عَبْدِهِ (فَضَرَبَهُ ضَرْبًا شَدِيدًا فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ) كَيْفَ تَضْرِبُ وَلَدَكَ أَوْ غُلامَكَ هَذَا الضَّرْبَ الْمُبَرِّحَ الْمُحَرَّمَ (أَلَسْتَ مُسْلِمًا فَقَالَ لا) لَسْتُ مُسْلِمًا (مُتَعَمِّدًا) أَىْ لا عَلَى وَجْهِ سَبْقِ اللِّسَانِ (كَفَرَ) لِأَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ الْكَلامَ الْكُفْرِىَّ بِإِرَادَتِهِ. (وَ)هَذَا الْحُكْمُ أَىْ أَنَّهُ لا يُشْتَرَطُ لِلْوُقُوعِ فِى الْكُفْرِ عَدَمُ الْغَضَبِ (قَالَهُ غَيْرُهُ) أَىِ غَيْرُ النَّوَوِىِّ مِنَ الْعُلَمَاءِ (مِنْ حَنَفِيَّةٍ وَغَيْرِهِمْ).
(وَالرِّدَّةُ ثَلاثَةُ أَقْسَامٍ كَمَا قَسَّمَهَا) عُلَمَاءُ الْمَذَاهِبِ الأَرْبَعَةِ مِثْلُ (النَّوَوِىِّ وَغَيْرِهِ مِنْ شَافِعِيَّةٍ وَحَنَفِيَّةٍ وَغَيْرِهِمْ) مِنَ الْعُلَمَاءِ الْقِسْمُ الأَوَّلُ (اعْتِقَادَاتٌ) مَحَلُّهَا الْقَلْبُ (وَ)الْقِسْمُ الثَّانِي (أَفْعَالٌ) مَحَلُّهَا الْجَوَارِحُ (وَ)الْقِسْمُ الثَّالِثُ (أَقْوَالٌ) مَحَلُّهَا اللِّسَانُ (وَكُلُّ) قِسْمٍ مِنَ الأَقْسَامِ الثَّلاثَةِ (يَتَشَعَّبُ) أَىْ يَتَفَرَّعُ (شُعَبًا) أَىْ فُرُوعًا (كَثِيرَةً) جِدًّا (فَمِنَ) الأَمْثِلَةِ عَلَى الْقِسْمِ (الأَوَّلِ) أَىِ الْكُفْرِ الِاعْتِقَادِىِّ (الشَّكُّ فِى) وُجُودِ (اللَّهِ) أَوْ فِى وَحْدَانِيَّتِهِ أَوْ مُخَالَفَتِهِ لِلْحَوَادِثِ (أَوِ) الشَّكُّ (فِى) صِدْقِ (رَسُولِهِ) مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ رِسَالَتِهِ كَأَنْ شَكَّ هَلْ هُوَ رَسُولُ اللَّهِ أَوْ لا (أَوِ) الشَّكُّ فِى (الْقُرْءَانِ) هَلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أَوْ مِنْ عِنْدِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَوِ) الشَّكُّ فِى (الْيَوْمِ الآخِرِ) وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ هَلْ يَكُونُ أَوْ لا (أَوِ) الشَّكُّ فِى (الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ) أَىْ فِى وُجُودِهِمَا فِى الآخِرَةِ (أَوِ) الشَّكُّ فِى (الثَّوَابِ أَوِ الْعِقَابِ) أَىْ فِى وُجُودِهِمَا فِى الآخِرَةِ (أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ) عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ (أَوِ اعْتِقَادُ قِدَمِ الْعَالَمِ وَأَزَلِيَّتِهِ بِجِنْسِهِ وَتَرْكِيبِهِ) أَىْ أَفْرَادِهِ كَمَا قَالَ بَعْضُ الْفَلاسِفَةِ (أَوْ بِجِنْسِهِ فَقَطْ) كَمَا قَالَ بَعْضُ الْفَلاسِفَةِ الآخَرِينَ وَتَبِعَهُمْ فِى هَذِهِ الضَّلالَةِ أَحْمَدُ بنُ تَيْمِيَةَ (أَوْ نَفْىُ صِفَةٍ) وَاحِدَةٍ أَوْ أَكْثَرَ (مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ) الثَّلاثَ عَشْرَةَ (الْوَاجِبَةِ لَهُ إِجْمَاعًا [وَلَوْ كَانَ قَرِيبَ عَهْدٍ بِإِسْلامٍ] كَكَوْنِهِ عَالِمًا) أَوْ قَادِرًا أَوْ سَمِيعًا أَوْ بَصِيرًا أَوْ حَيًّا أَوْ مُرِيدًا (أَوْ نِسْبَةُ مَا يَجِبُ تَنْزِيهُهُ عَنْهُ إِجْمَاعًا كَالْجِسْمِ) أَىْ كَأَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ اللَّهَ جِسْمٌ لَهُ طُولٌ وَعَرْضٌ وَعُمْقٌ، وَكَذَا نِسْبَةُ الْعَجْزِ وَالْجَهْلِ وَالْمَوْتِ لِرَبِّ الْعِزَّةِ لِمَا فِى ذَلِكَ مِنَ التَّكْذِيبِ لِلشَّرْعِ (أَوْ تَحْلِيلُ مُحَرَّمٍ بِالإِجْمَاعِ مَعْلُومٍ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ) أَنَّهُ حَرَامٌ بِأَنِ اشْتَهَرَ ذَلِكَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَالْعَامَّةِ وَكَانَ ذَلِكَ الأَمْرُ الْمُحَرَّمُ (مِمَّا لا يَخْفَى عَلَيْهِ) حُكْمُ تَحْرِيمِهِ فِى الشَّرْعِ (كَالزِّنَى وَاللِّوَاطِ وَقَتْلِ الْمُسْلِمِ) بِغَيْرِ حَقٍّ (وَالسَّرِقَةِ وَالْغَصْبِ) أَمَّا إِنْ كَانَ قَرِيبَ عَهْدٍ بِالإِسْلامِ وَلَمْ يَعْلَمْ تَحْرِيمَ الْمُسْلِمِينَ لِذَلِكَ فَقَالَ عَنْهُ إِنَّهُ حَلالٌ فَلا يَكْفُرُ (أَوْ تَحْرِيمُ حَلالٍ ظَاهِرٍ كَذَلِكَ) أَىْ مَعْلُومٍ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ وَلَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ (كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ) فَمَنْ حَرَّمَهُمَا فَقَدْ كَفَرَ (أَوْ نَفْىُ وُجُوبِ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ كَذَلِكَ) بِأَنْ كَانَ وُجُوبُهُ ظَاهِرًا مَعْرُوفًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ عَالِمِهِمْ وَجَاهِلِهِمْ (كالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ أَوْ سَجْدَةٍ مِنْهَا وَ)وُجُوبِ (الزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ) فِى رَمَضَانَ (وَالْحَجِّ وَالْوُضُوءِ) فَمَنِ اعْتَقَدَ عَدَمَ وُجُوبِ أَمْرٍ مِنْ هَذِهِ الأُمُورِ فَقَدْ كَفَرَ (أَوْ إِيجَابُ مَا لَمْ يَجِبْ إِجْمَاعًا كَذَلِكَ) كَمَنْ أَوْجَبَ زِيَادَةَ رَكْعَةٍ عَلَى رَكْعَتَىْ فَرْضِ الصُّبْحِ (أَوْ نَفْىُ مَشْرُوعِيَّةِ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ كَذَلِكَ) أَىْ مَعْلُومٍ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ مَشْرُوعٌ كَرَوَاتِبِ الْفَرَائِضِ وَالْوِتْرِ، (أَوْ عَزَمَ عَلَى الْكُفْرِ فِى الْمُسْتَقْبَلِ) بِأَنْ عَزَمَ عَلَى أَنْ يَكْفُرَ غَدًا مَثَلًا أَوْ بَعْدَ شَهْرٍ أَوْ سَنَةٍ أَوْ أَكْثَرَ فَهَذَا كَفَرَ فِى الْحَالِ (أَوْ) عَزَمَ (عَلَى فِعْلِ شَىْءٍ مِمَّا ذُكِرَ) مِنَ الْمُكَفِّرَاتِ (أَوْ تَرَدَّدَ فِيهِ) بِأَنْ قَالَ فِى قَلْبِهِ أَفْعَلُ أَوْ لا أَفْعَلُ فَإِنَّهُ يَكْفُرُ فِى الْحَالِ (لا خُطُورُهُ فِى الْبَالِ بِدُونِ إِرَادَةٍ) فَإِنَّهُ لا يُبْطِلُ إِيمَانَهُ كَأَنْ خَطَرَ لَهُ شَىْءٌ يُنَافِى وُجُودَ اللَّهِ مُجَرَّدَ خُطُورٍ بِلا إِرَادَةٍ وَهُوَ مُعْتَقِدٌ الْحَقَّ اعْتِقَادًا جَازِمًا فَلا يَكْفُرُ لِأَنَّ الْخَاطِرَ لا يُنَاقِضُ الْجَزْمَ (أَوْ أَنْكَرَ صُحْبَةَ سَيِّدِنَا أَبِي بَكْرٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ) لِتَكْذِيبِهِ الْقُرْءَانَ لِأَنَّ اللَّهَ نَصَّ عَلَى صُحْبَتِهِ فِى الْقُرْءَانِ (أَوْ) أَنْكَرَ (رِسَالَةَ وَاحِدٍ مِنَ الرُّسُلِ الْمُجْمَعِ عَلَى رِسَالَتِهِ) عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ كَآدَمَ وَمُوسَى وَعِيسَى وَمُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ رَبِّى وَسَلامُهُ عَلَيْهِمْ (أَوْ جَحَدَ حَرْفًا مُجْمَعًا عَلَيْهِ) أَىْ عَلَى ثُبُوتِ أَنَّهُ (مِنَ الْقُرْءَانِ) فَأَنْكَرَهُ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ مِنْهُ (أَوْ زَادَ حَرْفًا فِيهِ) أَىِ الْقُرْءَانِ (مُجْمَعًا عَلَى نَفْيِهِ) أَىْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ (مُعْتَقِدًا أَنَّهُ مِنْهُ عِنَادًا) بِخِلافِ مَنْ زَادَهُ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ مِنْهُ جَهْلًا فَلا يُكَفَّرُ (أَوْ كَذَّبَ رَسُولًا أَوْ نَقَصَهُ) بِأَنْ نَسَبَ إِلَيْهِ مَا لا يَلِيقُ بِهِ (أَوْ صَغَّرَ اسْمَهُ) كَأَنْ قَالَ عَنْ نَبِىِّ اللَّهِ مُوسَى مُوَيْسَى (بِقَصْدِ تَحْقِيرِهِ) أَىْ إِهَانَتِهِ (أَوْ جَوَّزَ نُبُوَّةَ أَحَدٍ بَعْدَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) بِأَنِ اعْتَقَدَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَنْزِلَ الْوَحْىُ بِالنُّبُوَّةِ عَلَى شَخْصٍ لَمْ يُنَبَّأْ قَبْلَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(وَالْقِسْمُ الثَّانِى) مِنْ أَقْسَامِ الرِّدَّةِ (الأَفْعَالُ) وَذَلِكَ (كَسُجُودٍ لِصَنَمٍ) وَهُوَ مَا اتُّخِذَ لِيُعْبَدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ حَجَرٍ أَمْ خَشَبٍ أَمْ غَيْرِ ذَلِكَ (أَوْ شَمْسٍ) مُطْلَقًا أَىْ (إِنْ قَصَدَ عِبَادَتَهُمَا أَوْ لَمْ يَقْصِدْ) فَهذا كُفْرٌ وَرِدَّةٌ (وَ)فِى (السُّجُودِ لإِنْسَانٍ) تَفْصِيلٌ (إِنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْعِبَادَةِ لَهُ كَسُجُودِ بَعْضِ الْجَهَلَةِ لِبَعْضِ الْمَشَايِخِ الْمُتَصَوِّفِينَ) أَىْ إِذَا كَانَ سُجُودُهُمْ (عَلَى وَجْهِ الْعِبَادَةِ لَهُمْ فَإِنَّهُ يَكُونُ عِنْدَئِذٍ كُفْرًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى وَجْهِ الْعِبَادَةِ لَهُمْ) كَأَنْ سَجَدُوا لَهُمْ لِلتَّحِيَّةِ فَقَطْ فَإِنَّهُ (لا يَكُونُ كُفْرًا لَكِنَّهُ حَرَامٌ) فِى شَرْعِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ جَائِزًا فِى الشَّرَائِعِ السَّابِقَةِ.
(وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ) مِنْ أَقْسَامِ الرِّدَّةِ (الأَقْوَالُ وَهِىَ كَثِيرَةٌ جِدًّا لا تَنْحَصِرُ مِنْهَا أَنْ يَقُولَ) شَخْصٌ (لِمُسْلِمٍ يَا كَافِرُ أَوْ يَا يَهُودِىُّ أَوْ يَا نَصْرَانِىُّ أَوْ يَا عَدِيمَ الدِّينِ) حَالَ كَوْنِ الْقَائِلِ (مُرِيدًا بِذَلِكَ) الْقَوْلِ (أَنَّ الَّذِى عَلَيْهِ الْمُخَاطَبُ مِنَ الدِّينِ كُفْرٌ أَوْ يَهُودِيَّةٌ أَوْ نَصْرَانِيَّةٌ أَوْ لَيْسَ بِدِينٍ) فَهَذَا رِدَّةٌ وَكُفْرٌ (لا) إِذَا كَانَ مُتَأَوِّلًا بِذَلِكَ كَأَنْ قَالَ لَهُ يَا كَافِرُ (عَلَى قَصْدِ التَّشْبِيهِ) وَمُرَادُهُ أَنَّكَ تُشْبِهُ الكُفَّارَ فِى خَسَاسَةِ أَفْعَالِكَ أَوْ أَنَّكَ تُعَامِلُ الْمُسْلِمِينَ مُعَامَلَةَ الْكُفَّارِ لَهُمْ فَلا يَكْفُرُ لَكِنَّ هَذَا حَرَامٌ يَفْسُقُ قَائِلُهُ، (وَكَالسُّخْرِيَةِ بِاسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى أَوْ وَعْدِهِ) بِالْجَنَّةِ وَمَا أَعَدَّهُ اللَّهُ فِيهَا مِنَ النَّعِيمِ (أَوْ وَعِيدِهِ) بِالنَّارِ وَالْعَذَابِ (مِمَّنْ) أَىْ مِنْ إِنْسَانٍ (لا يَخْفَى عَلَيْهِ نِسْبَةُ ذَلِكَ) أَىْ إِضَافَةُ ذَلِكَ الِاسْمِ أَوِ الْوَعْدِ أَوِ الْوَعِيدِ الَّذِي سَخِرَ بِهِ (إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ) وَذَلِكَ كَقَوْلِ بَعْضِ السُّفَهَاءِ غَدًا نَتَدَفَّأُ بِنَارِ جَهَنَّمَ لِمَا فِى ذَلِكَ مِنَ الِاسْتِهْزَاءِ بِالدِّينِ وَتَكْذِيبِ الْقُرْءَانِ (وَكَأَنْ يَقُولَ) الشَّخْصُ مُسْتَخِفًّا بِأَمْرِ اللَّهِ (لَوْ أَمَرَنِى اللَّهُ بِكَذَا لَمْ أَفْعَلْهُ أَوْ) قَالَ مُسْتَخِفًّا بِالْقِبْلَةِ (لَوْ صَارَتِ الْقِبْلَةُ فِى جِهَةِ كَذَا مَا صَلَّيْتُ إِلَيْهَا أَوْ) قَالَ (لَوْ أَعْطَانِى اللَّهُ الْجَنَّةَ مَا دَخَلْتُهَا مُسْتَخِفًّا أَوْ مُظْهِرًا لِلْعِنَادِ) أَىْ مُظْهِرًا لِمُعَانَدَةِ الشَّرِيعَةِ (فِى الْكُلِّ) وَأَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِخْفَافِ وَالْعِنَادِ وَتَكْذِيبِ الشَّرْعِ فَلَيْسَ كُفْرًا، (وَكَأَنْ يَقُولَ) شَخْصٌ فِى حَالِ مَرَضِهِ بَعْدَ أَنْ أَمَرَهُ ءَاخَرُ بِالصَّلاةِ (لَوْ ءَاخَذَنِى اللَّهُ) أَىْ لَوْ عَاقَبَنِى (بِتَرْكِ الصَّلاةِ) أَىْ عَلَى تَرْكِهَا (مَعَ مَا أَنَا فِيهِ مِنَ الْمَرَضِ ظَلَمَنِى) فَإِنَّهُ يَكْفُرُ لِأَنَّهُ نَسَبَ الظُّلْمَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى (أَوْ قَالَ لِفِعْلٍ حَدَثَ هَذَا) الشَّىْءُ أَىْ حَصَلَ (بِغَيْرِ تَقْدِيرِ اللَّهِ) سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الشَّىْءُ خَيْرًا أَمْ شَرًّا، (أَوْ) قَالَ (لَوْ شَهِدَ عِنْدِى الأَنْبِيَاءُ أَوِ الْمَلائِكَةُ أَوْ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ بِكَذَا مَا قَبِلْتُهُمْ) أَىْ مَا صَدَّقْتُهُمْ فِيمَا يَقُولُونَ فَهُوَ كَافِرٌ لِمَا فِيهِ مِنْ تَكْذِيبِ نُصُوصِ الدِّينِ الْمَعْرُوفَةِ، (أَوْ قَالَ) بَعْدَ أَنْ أَمَرَهُ شَخْصٌ بِفِعْلِ سُنَّةٍ مِنَ السُّنَنِ كَالِاسْتِيَاكِ (لا أَفْعَلُ كَذَا وَإِنْ كَانَ سُنَّةً) أَىْ إِذَا قَالَ ذَلِكَ (بِقَصْدِ الِاسْتِهْزَاءِ) بِسُنَّةِ النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ يَكْفُرُ بِخِلافِ مَنْ قَالَ ذَلِكَ وَلَمْ يَقْصِدِ الِاسْتِخْفَافَ بِالسُّنَّةِ فَلا يَكْفُرُ، (أَوْ) قَالَ عَنْ عَدُوٍّ لَهُ مَثَلًا (لَوْ كَانَ فُلانٌ نَبِيًّا مَا ءَامَنْتُ بِهِ) فَإِنَّهُ يَكْفُرُ لِمَا فِى ذَلِكَ مِنَ الِاسْتِهْزَاءِ بِمَنْصِبِ النُّبُوَّةِ، (أَوْ أَعْطَاهُ عَالِمٌ فَتْوًى فَقَالَ أَيْشٍ) أَىْ أَىُّ شَىْءٍ (هَذَا الشَّرْعُ مُرِيدًا) بِهَذَا الْقَوْلِ (الِاسْتِخْفَافَ بِحُكْمِ الشَّرْعِ) الإِسْلامِىِّ وَالِاعْتِرَاضَ عَلَيْهِ فَهُوَ كَافِرٌ بِخِلافِ مَا لَوْ أَعْطَاهُ فَتْوًى يَرَاهَا بَاطِلَةً غَيْرَ مُوَافِقَةٍ لِلشَّرْعِ فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ مُرِيدًا الإِنْكَارَ عَلَيْهِ كَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُ أَيْشٍ هَذَا الْكَلامُ الَّذِي تَزْعُمُ أَنَّهُ شَرْعُ اللَّهِ وَلَيْسَ شَرْعَ اللَّهِ فَلا يَكْفُرُ (أَوْ قَالَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى كُلِّ عَالِمٍ مُرِيدًا الِاسْتِغْرَاقَ الشَّامِلَ) أَىْ تَعْمِيمَ اللَّعْنِ لِكُلِّ الْعُلَمَاءِ فَهُوَ كَافِرٌ (أَمَّا مَنْ لَمْ يُرِدِ الِاسْتِغْرَاقَ الشَّامِلَ لِجَمِيعِ الْعُلَمَاءِ بَلْ أَرَادَ لَعْنَ عُلَمَاءِ زَمَانِهِ وَكَانَتْ هُنَاكَ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ) كَأَنْ كَانَ ذَكَرَ عُلَمَاءَ نَاحِيَةٍ مَا فَاسِدِينَ فَقَالَ بَعْدَهَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى كُلِّ عَالِمٍ وَهُوَ يَقْصِدُ هَؤُلاءِ وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ (لِمَا يَظُنُّ بِهِمْ مِنْ فَسَادِ أَحْوَالِهِمْ فَإِنَّهُ لا يَكْفُرُ وَإِنْ كَانَ كَلامُهُ لا يَخْلُو مِنَ الْمَعْصِيَةِ) أَىْ وَإِنْ كَانَ كَلامُهُ لا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ حَرَامًا وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ فِى كَلامِهِ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى التَّخْصِيصِ فَإِنَّهُ يَكْفُرُ وَلَوْ قَالَ أَنَا قَصَدْتُ عُلَمَاءَ زَمَانِى، (أَوْ قَالَ أَنَا بَرىءٌ مِنَ اللَّهِ أَوْ مِنَ الْمَلائِكَةِ أَوْ مِنَ النَّبِىِّ) مُرِيدًا سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ غَيْرَهُ مِنَ الأَنْبِيَاءِ (أَوْ مِنَ الشَّرِيعَةِ) الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَوْ مِنَ الإِسْلامِ) فَهُوَ كَافِرٌ، (أَوْ قَالَ) بَعْدَ أَنْ قَالَ لَهُ شَخْصٌ لِمَ فَعَلْتَ هَذَا الْحَرَامَ أَلا تَعْرِفُ الْحُكْمَ (لا أَعْرِفُ الْحُكْمَ مُسْتَهْزِئًا بِحُكْمِ اللَّهِ) فَهُوَ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ، (أَوْ قَالَ وَقَدْ مَلَأَ وِعَاءً) بِشَرَابٍ (﴿وَكَأْسًا دِهَاقًا﴾) بِقَصْدِ الِاسْتِخْفَافِ أَوِ التَّكْذِيبِ بِمَا وَعَدَ اللَّهُ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ فِى الْجَنَّةِ مِنَ الْكَأْسِ الْمُمْتَلِئَةِ شَرَابًا هَنِيئًا فَقَدْ كَفَرَ (أَوْ أَفْرَغَ شَرَابًا) بِأَنْ صَبَّهُ مِنَ الإِنَاءِ (فَقَالَ) مُسْتَخِفًّا بِالآيَةِ (﴿فَكَانَتْ سَرَابًا﴾) فَإِنَّهُ يَكْفُرُ (أَوْ) قَالَ (عِنْدَ وَزْنٍ أَوْ كَيْلٍ ﴿وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ﴾) بِقَصْدِ الِاسْتِخْفَافِ بِالآيَةِ كَأَنْ أَرَادَ أَنَا لا مَنْزِلَةَ فِى قَلْبِى لِقَوْلِ اللَّهِ وَوَعِيدِهِ فَهُوَ كَافِرٌ (أَوْ) قَالَ (عِنْدَ رُؤْيَةِ جَمْعٍ) أَىْ جَمَاعَةٍ مِنَ النَّاسِ (﴿وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدَا﴾ بِقَصْدِ الِاسْتِخْفَافِ فِى الْكُلِّ بِمَعْنَى هَذِهِ الآيَاتِ) الأَرْبَعَةِ فَهُوَ كَافِرٌ (وَكَذَا كُلُّ مَوْضِعٍ اسْتَعْمَلَ) شَخْصٌ (فِيهِ) ءَايَاتِ (الْقُرْءَانِ بِذَلِكَ الْقَصْدِ) أَىْ بِقَصْدِ الِاسْتِخْفَافِ بِالْقُرْءَانِ فَإِنَّهُ يَكْفُرُ (فَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ ذَلِكَ الْقَصْدِ) بِأَنْ أَوْرَدَهَا فِى هَذِهِ الْمَوَاضِعِ لا بِقَصْدِ الِاسْتِخْفَافِ (فَلا يَكْفُرُ لَكِنْ) هَذَا حَرَامٌ فَقَدْ (قَالَ الشَّيْخُ أَحْمَدُ بْنُ حَجَرٍ) الْهَيْتَمِىُّ (لا تَبْعُدُ حُرْمَتُهُ) أَىْ أَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ حَرَامٌ قَرِيبٌ أَىْ رَاجِحٌ لِأَنَّ فِيهِ إِسَاءَةَ أَدَبٍ مَعَ الْقُرْءَانِ (وَكَذَا يَكْفُرُ مَنْ شَتَمَ نَبِيًّا أَوْ مَلَكًا) كَجِبْرِيلَ أَوْ عَزْرَائِيلَ أَوْ مُنْكَرٍ أَوْ نَكِيرٍ أَوْ غَيْرِهِمْ مِنْ مَلائِكَةِ اللَّهِ الْمُكْرَمِينَ (أَوْ قَالَ أَكُونُ قَوَّادًا إِنْ صَلَّيْتُ) فَإِنَّهُ يَكُونُ مُسْتَخِفًّا بِالصَّلاةِ وَمُنَقِّصًا لَهَا، وَالْقَوَّادُ هُوَ الَّذِي يَجْلِبُ الزَّبَائِنَ لِلزَّانِيَاتِ، (أَوْ) قَالَ (مَا أَصَبْتُ خَيْرًا مُنْذُ صَلَّيْتُ) لِأَنَّ فِيهِ اسْتِخْفَافًا بِالصَّلاةِ، (أَوْ) قَالَ بَعْدَ أَنْ أَمَرَهُ شَخْصٌ مَثَلًا بِالصَّلاةِ (الصَّلاةُ لا تَصْلُحُ لِى بِقَصْدِ الِاسْتِهْزَاءِ) بِخِلافِ مَا لَوْ قَالَتِ امْرَأَةٌ حَائِضٌ ذَلِكَ بِقَصْدِ أَنَّ الصَّلاةَ لا تَصِحُّ مِنِّى وَأَنَا حَائِضٌ فَلا تَكْفُرُ، (أَوْ قَالَ لِمُسْلِمٍ أَنَا عَدُوُّكَ وَعَدُوُّ نَبِيِّكَ) لِمَا فِيهِ مِنَ الِاسْتِخْفَافِ بِالنَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَوْ) قَالَ (لِشَرِيفٍ) وَهُوَ هُنَا مَنْ يَرْجِعُ نَسَبُهُ لِلنَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَنَا عَدُوُّكَ وَعَدُوُّ جَدِّكَ مُرِيدًا) بِقَوْلِهِ جَدِّكَ (النَّبِىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) بِخِلافِ مَا لَوْ أَرَادَ جَدًّا لَهُ أَدْنَى مِنْ أَجْدَادِ هَذَا الشَّخْصِ فَلا يَكْفُرُ )أَوْ يَقُولَ شَيْئًا مِنْ نَحْوِ هَذِهِ الأَلْفَاظِ الْبَشِعَةِ الشَّنِيعَةِ( أَىِ الْقَبِيحَةِ حَفِظَنَا اللَّهُ مِنْهَا.
(وَقَدْ عَدَّ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ( مِنَ الْمَذَاهِبِ الأَرْبَعَةِ )كَالْفَقِيهِ الْحَنَفِىِّ بَدْرِ الرَّشِيدِ) الَّذِي هُوَ مِنْ أَهْلِ الْقَرْنِ الثَّامِنِ فِى رِسَالَتِهِ فِى بَيَانِ الأَلْفَاظِ الْمُكَفِّرَةِ (وَالْقَاضِى عِيَاضٍ الْمَالِكِىِّ) الَّذِي هُوَ مِنْ أَهْلِ الْقَرْنِ السَّادِسِ فِى كِتَابِهِ الشِّفَا (رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً( مِنَ الِاعْتِقَادَاتِ وَالأَفْعَالِ وَالأَقْوَالِ الْكُفْرِيَّةِ بَعْدَ أَنْ ظَهَرَتْ فِى أَزْمَانِهِمْ تَحْذِيرًا لِلنَّاسِ مِنْهَا (فَيَنْبَغِى الِاطِّلاعُ عَلَيْهَا( أَىْ عَلَى هَذِهِ الْمَسَائِلِ الَّتِي ذَكَرُوهَا وَذَلِكَ حَتَّى يَحْذَرَهَا الشَّخْصُ (فَإِنَّ مَنْ لَمْ يَعْرِفِ الشَّرَّ يَقَعُ فِيهِ) وَأَعْظَمُ الشُّرُورِ الْكُفْرُ بِاللَّهِ تَعَالَى.
(وَالْقَاعِدَةُ( الَّتِي بَنَى عَلَيْهَا الْعُلَمَاءُ كَلامَهُمْ فِى هَذِهِ الْمَسَائِلِ (أَنَّ كُلَّ عَقْدٍ( أَىِ اعْتِقَادٍ )أَوْ فِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ يَدُلُّ عَلَى اسْتِخْفَافٍ بِاللَّهِ أَوْ كُتُبِهِ أَوْ رُسُلِهِ أَوْ مَلائِكَتِهِ أَوْ شَعَائِرِهِ أَوْ مَعَالِمِ دِينِهِ) جَمْعُ مَعْلَمٍ وَهُوَ بِمَعْنَى الشَّعِيرَةِ أَىْ مَا كَانَ ظَاهِرًا أَنَّهُ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ كَالصَّلاةِ وَالأَذَانِ وَالْمَسْجِدِ (أَوْ أَحْكَامِهِ أَوْ وَعْدِهِ( بِالْجَنَّةِ وَالثَّوَابِ )أَوْ وَعِيدِهِ( بِالنَّارِ وَالْعَذَابِ )كُفْرٌ فَلْيَحْذَرِ الإِنْسَانُ مِنْ ذَلِكَ) أَىْ مِنَ الْكُفْرِ بِأَنْوَاعِهِ (جَهْدَهُ عَلَى أَىِّ حَالٍ( أَىْ لِيَعْمَلِ الشَّخْصُ عَلَى تَجَنُّبِ ذَلِكَ غَايَةَ مُسْتَطَاعِهِ وَلْيَحْذَرْ مِنْهُ نِهَايَةَ الْحَذَرِ فَإِنَّ مَنْ مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ.
وَبَعْدَ أَنْ بَيَّنَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَقْسَامَ الرِّدَّةِ شَرَعَ فِى الْكَلامِ عَلَى أَحْكَامِ الْمُرْتَدِّ فَقَالَ (فَصْلٌ( فِى بَيَانِ أَحْكَامِ الْمُرْتَدِ.
(يَجِبُ عَلَى مَنْ وَقَعَ فِى الرِّدَّةِ( سَوَاءٌ كَانَ ذَكَرًا أَمْ أُنْثَى )الْعَوْدُ فَوْرًا إِلَى( دِينِ (الإِسْلامِ( وَيَكُونُ ذَلِكَ (بِالنُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ( وَهُمَا أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ أَوْ مَا يُعْطِى مَعْنَاهُمَا وَلَوْ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ (وَالإِقْلاعِ) أَىِ الْكَفِّ (عَمَّا) أَىْ عَنِ الشَّىْءِ الَّذِي (وَقَعَتْ) أَىْ حَصَلَتْ (بِهِ الرِّدَّةُ( فَإِنْ تَرَكَ الأَمْرَ الَّذِي ارْتَدَّ بِسَبَبِهِ وَنَطَقَ بِالشَّهَادَتَيْنِ رَجَعَ إِلَى الإِسْلامِ )وَيَجِبُ عَلَيْهِ( زِيَادَةً عَلَى رُجُوعِهِ لِلإِسْلامِ حَتَّى يَسْلَمَ مِنَ الإِثْمِ شَيْئَانِ الأَوَّلُ )النَّدَمُ عَلَى مَا صَدَرَ مِنْهُ) بِأَنْ يَسْتَشْعِرَ فِى قَلْبِهِ كَرَاهِيَةَ مَا صَدَرَ مِنْهُ (وَ)الثَّانِي (الْعَزْمُ( أَىِ التَّصْمِيمُ بِالْقَلْبِ )عَلَى أَنْ لا يَعُودَ لِمِثْلِهِ( أَىْ لِلْكُفْرِ فَإِنْ لَمْ يَنْدَمْ أَوْ لَمْ يَخْطُرْ فِى بَالِهِ أَنَّهُ لا يَعُودُ لِلْكُفْرِ صَحَّ إِسْلامُهُ مَعَ الإِثْمِ وَأَمَّا مَنْ عَزَمَ عَلَى الْكُفْرِ أَوْ تَرَدَّدَ فِى ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَكْفُرُ فِى الْحَالِ )فَإِنْ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ كُفْرِهِ) وَرِدَّتِهِ (بِالشَّهَادَةِ) أَىْ بِالنُّطْقِ بِهَا (وَجَبَتِ اسْتِتَابَتُهُ( أَىْ طَلَبُ التَّوْبَةِ مِنْهُ فَيَجِبُ أَنْ يَطْلُبَ مِنْهُ الْخَلِيفَةُ أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ الرُّجُوعَ إِلَى الإِسْلامِ )وَلا يَقْبَلُ مِنْهُ) الْخَلِيفَةُ أَوِ الْقَائِمُ مَقَامَهُ (إِلَّا) الرُّجُوعَ إِلَى )الإِسْلامِ أَوِ الْقَتْلَ بِهِ) أَىْ بِسَبَبِ الرِّدَّةِ وَذَلِكَ بِضَرْبِ عُنُقِهِ بِنَحْوِ سَيْفٍ إِنْ لَمْ يَتُبْ، وَهَذَا الْحُكْمُ (يُنَفِّذُهُ عَلَيْهِ الْخَلِيفَةُ) أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ (بَعْدَ أَنْ يَعْرِضَ عَلَيْهِ الرُّجُوعَ إِلَى الإِسْلامِ) وَأَمَّا قَبْلَ الِاسْتِتَابَةِ فَلا يَجُوزُ )وَيَعْتَمِدُ الْخَلِيفَةُ فِى ذَلِكَ( أَىْ فِى إِثْبَاتِ وَقُوعِهِ فِى الرِّدَّةِ )عَلَى شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ( ذَكَرَيْنِ )عَدْلَيْنِ أَوْ عَلَى اعْتِرَافِهِ) أَىِ اعْتِرَافِ الْمُرْتَدِّ (وَذَلِكَ لِحَدِيثِ الْبُخَارِىِّ مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ) اهـ أَىْ مَنْ خَرَجَ مِنَ الإِسْلامِ إِلَى غَيْرِهِ فَاقْتُلُوهُ إِنْ أَمَرْتُمُوهُ بِالرُّجُوعِ وَلَمْ يَرْجِعْ.
(وَ)مِنْ أَحْكَامِ الرِّدَّةِ أَنَّهُ (يَبْطُلُ بِهَا( أَىْ بِالرِّدَّةِ (صَوْمُهُ( لِعَدَمِ صِحَّةِ الصَّوْمِ مِنَ الْكَافِرِ (وَ)يَبْطُلُ أَيْضًا (تَيَمُّمُهُ( بِخِلافِ وُضُوئِهِ فَمَنِ ارْتَدَّ بَعْدَ أَنْ تَوَضَّأَ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الإِسْلامِ وَلَمْ يُحْدِثْ فَوُضُوؤُهُ صَحِيحٌ (وَ)يَبْطُلُ أَيْضًا عَقْدُ (نِكَاحِهِ( بِمُجَرَّدِ حُصُولِ الرِّدَّةِ مِنْ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ )قَبْلَ الدُّخُولِ( أَىِ الْوَطْءِ فَإِنْ رَجَعَ إِلَى الإِسْلامِ فَلا بُدَّ مِنْ عَقْدٍ جَدِيدٍ إِنْ أَرَادَا رُجُوعًا (وَكَذَا( يَبْطُلُ إِذَا حَصَلَتِ الرِّدَّةُ (بَعْدَهُ( أَىْ بَعْدَ الدُّخُولِ (إِنْ لَمْ يَعُدِ( الْمُرْتَدُّ مِنْهُمَا (إِلَى الإِسْلامِ فِى) مُدَّةِ (الْعِدَّةِ) فَيَحْتَاجُ إِلَى عَقْدٍ جَدِيدٍ إِنْ أَرَادَا رُجُوعًا فَإِنْ رَجَعَ إِلَى الإِسْلامِ قَبْلَ انْتِهَاءِ مُدَّةِ الْعِدَّةِ فَالْعَقْدُ صَحِيحٌ، وَالْعِدَّةُ ثَلاثَةُ أَطْهَارٍ لِذَوَاتِ الْحيْضِ وَثَلاثَةُ أَشْهُرٍ قَمَرِيَّةٍ لِمَنْ لا تَحِيضُ وَلِلْحَامِلِ حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا.
(وَ)الْمُرْتَدُّ )لا يَصِحُّ عَقْدُ نِكَاحِهِ عَلَى مُسْلِمَةٍ وَ(لا عَلَى (غَيْرِهَا( وَلَوْ مُرْتَدَّةً مِثْلَهُ (وَ)مِنْ أَحْكَامِهِ أَنَّهُ (تَحْرُمُ ذَبِيحَتُهُ( وَحُكْمُهَا أَنَّهَا مَيْتَةٌ (وَلا يَرِثُ( مَنْ مَاتَ مِنْ أَقْرِبَائِهِ الْمُسْلِمِينَ )وَلا يُورَثُ( إِذَا مَاتَ هُوَ فَلا يَرِثُهُ أَقْرِبَاؤُهُ الْمُسْلِمُونَ وَلا غَيْرُهُمْ (وَلا) يَجُوزُ أَنْ )يُصَلَّى عَلَيْهِ) لِكُفْرِهِ (وَلا( يَجِبُ أَنْ (يُغَسَّلَ( وَيَجُوزُ ذَلِكَ )وَلا( أَنْ (يُكَفَّنَ( وَيَجُوزُ ذَلِكَ )وَلا( يَجُوزُ أَنْ (يُدْفَنَ فِى مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ( لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُمْ )وَمَالُهُ( بَعْدَ مَوْتِهِ )فَىْءٌ أَىْ لِبَيْتِ الْمَالِ إِنْ كَانَ( أَىْ وُجِدَ )بَيْتُ مَالٍ مُسْتَقِيمٌ أَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنْ( بَيْتُ مَالٍ مُسْتَقِيمٌ كَحَالِ الْمُسْلِمِينَ مُنْذُ زَمَانٍ طَوِيلٍ حَتَّى الْيَوْمَ )فَإِنْ تَمَكَّنَ رَجُلٌ صَالِحٌ( أَمِينٌ عَارِفٌ بِمَصَارِفِ هَذَا الْمَالِ (مِنْ أَخْذِهِ وَصَرْفِهِ فِى مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ فَعَلَ ذَلِكَ(.
(فَصْلٌ( فِى أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ وَاجْتِنَابِ الْمُحَرَّمَاتِ.
اعْلَمْ أَنَّهُ )يَجِبُ عَلَى كُلِّ) شَخْصٍ )مُكَلَّفٍ أَدَاءُ جَمِيعِ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ( كَالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَرَدِّ الْمَظَالِمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ )وَيَجِبُ عَلَيْهِ( أَيْضًا )أَنْ يُؤَدِّيَهُ عَلَى مَا) أَىْ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي (أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الإِتْيَانِ بِأَرْكَانِهِ) جَمْعُ رُكْنٍ وَهُوَ مَا كَانَ جُزْءًا مِنَ الْعَمَلِ وَلا يَصِحُّ الْعَمَلُ بِدُونِهِ (وَشُرُوطِهِ( جَمْعُ شَرْطٍ وَهُوَ مَا لَمْ يَكُنْ جُزْءًا مِنَ الْعَمَلِ لَكِنْ لا يَصِحُّ الْعَمَلُ بِدُونِهِ )وَيَجْتَنِبَ مُبْطِلاتِهِ( أَىْ أَنْ يَبْتَعِدَ عَنْهَا وَيَتْرُكَهَا. )وَيَجِبُ عَلَيْهِ( أَىْ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفِ )أَمْرُ مَنْ رَءَاهُ تَارِكَ شَىْءٍ مِنْهَا( أَىِ الفَرَائِضِ )أَوْ يَأْتِى بِهَا عَلَى غَيْرِ وَجْهِهَا( أَىْ عَلَى وَجْهٍ لا تَصِحُّ الْفَرِيضَةُ إِنْ فَعَلَهَا عَلَيْهِ (بِالإِتْيَانِ بِهَا عَلَى وَجْهِهَا) أَىْ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي تَصِحُّ بِهِ (وَيَجِبُ عَلَيْهِ) أَىْ عَلَى الْمُكَلَّفِ إِذَا رَأَى شَخْصًا لا يُؤَدِّي الْوَاجِبَاتِ عَلَى وَجْهِهَا (قَهْرُهُ) بِإِرْغَامِهِ (عَلَى ذَلِكَ) أَىْ عَلَى تَأْدِيَةِ الْفَرَائِضِ عَلَى وَجْهِهَا (إِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ) أَىْ عَلَى الْقَهْرِ وَالأَمْرِ (وَإِلَّا) بِأَنْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَيْهِمَا (وَجَبَ عَلَيْهِ الإِنْكَارُ) أَىْ كَرَاهِيَةُ ذَلِكَ الْفِعْلِ (بِقَلْبِهِ إِنْ عَجَزَ عَنِ الْقَهْرِ وَالأَمْرِ وَذَلِكَ) أَىِ الإِنْكَارُ بِالْقَلْبِ (أَضْعَفُ) أَىْ أَقَلُّ ثَمَرَةِ (الإِيمَانِ أَىْ أَقَلُّ مَا يَلْزَمُ الإِنْسَانَ عِنْدَ الْعَجْزِ) عَنِ الْقَهْرِ وَالأَمْرِ (وَيَجِبُ) عَلَى الْمُكَلَّفِ (تَرْكُ جَمِيعِ الْمُحَرَّمَاتِ) مِنَ الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ (وَنَهْىُ مُرْتَكِبِهَا) أَىْ فَاعِلِ الْمُحَرَّمَاتِ (وَمَنْعُهُ قَهْرًا مِنْهَا إِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ) أَىِ النَّهْىِ بِالْيَدِ أَوِ اللِّسَانِ بِشَرْطِ أَنْ لا يُؤَدِّىَ إِنْكَارُهُ إِلَى مُنْكَرٍ أَعْظَمَ مِنْ ذَلِكَ الْمُنْكَرِ (وَإِلَّا) بِأَنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ (وَجَبَ عَلَيْهِ) أَىْ عَلَى الْعَاجِزِ (أَنْ يُنْكِرَ ذَلِكَ) الْحَرَامَ (بِقَلْبِهِ).
(وَ)حَدُّ (الْحَرَامِ) هُوَ (مَا تَوَعَّدَ اللَّهُ مُرْتَكِبَهُ) أَىْ فَاعِلَهُ (بِالْعِقَابِ) أَىْ مَا يَسْتَحِقُّ فَاعِلُهُ الْعِقَابَ فِى الآخِرَةِ (وَوَعَدَ تَارِكَهُ) امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللَّهِ (بِالثَّوَابِ وَعَكْسُهُ) حَدُّ (الْوَاجِبِ) وَهُوَ مَا وَعَدَ اللَّهُ فَاعِلَهُ امْتِثَالًا بِالثَّوَابِ وَتَوَعَّدَ تَارِكَهُ بِالْعِقَابِ.