الخميس نوفمبر 21, 2024

الدرس السابع والأربعون

بسم الله الرحمن الرحيم

إنَّ من أفضلِ أيّامِكُم يومَ الجمعةِ

درسٌ القاهُ المحدثُ الشيخُ عبدُ اللهِ بنُ محمدٍ العبدري  الحبشي رحمهُ الله تعالى وهو في شرحِ حديثِ إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة. قال رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً:

الحمدُ لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمّد وعلى ءاله وصحبه الطيبين.

أما بعدُ فقد رُوّينا في مُستدرَكِ الحاكمِ([i]) وسُننِ البيهقيّ([ii]) وغيرِهما من حديثِ شَدّادِ بنِ أوسٍ رضيَ اللهُ عنه أنَّ نبيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: إنَّ مِن أفضلِ أيَّامِكُم يومَ الجمعةِ فيهِ خُلِقَ ءادَمُ وفيه قُبِضَ وفيه النفخَةُ وفيه الصَّعقَةُ فإذا كان يومُ الجمعةِ فأكثِروا عليَّ من الصلاةِ فيه فإنَّ صلاتَكُم معروضةٌ عليَّ قيل وكيف تُعرَضُ صلاتُنا عليك يا رسول الله وقدْ أرَمْتَ قالَ إنَّ اللهَ حرَّمَ على الأرضِ أن تأكُلَ أجسادَ الأنبياءِ اهـ هذا الحديثُ يَتَضَمَّنُ فضلَ يومِ الجمعةِ، وإنما قالَ من أفضلِ أيامِكُم ولم يَقُلْ إنَّ أفضلَ أيامِكُم لأنَّ هناكَ أيامًا لها مزايا وفضائلُ كيومِ الحجّ الأكبرِ وهو يومُ العيدِ بالنسبةِ للمُحرِمِ في الحَجّ، يومُ العيدِ هو يومُ الحجّ الأكبَرِ وسُمِّيَ يومُ العيدِ للحاجّ يومَ الحجّ الأكبرِ لأنَّ مُعظَمَ أعمالِ الحجّ تكونُ فيه كالطوافِ والحلقِ أو التقصيرِ ورَمْيِ جمرةِ العَقَبةِ.

ولا يتنافَى هذا مَعَ حديثِ الحجُّ عَرَفةُ([iii]) اهـ لأنَّ أشدَّ أعمالِ الحجّ احتياطًا هو وقوفُ عرفةَ لِضِيقِ وقتِهِ لأنَّ الوقوفَ بعرفةَ وقتُهُ أقلُّ من يومٍ كاملٍ لأنَّ وقتَهُ من زوالِ يومِ عرفةَ أيِ التاسعِ من ذي الحِجَّةِ إلى الفجرِ، ما بينَ الزوالِ والفجرِ هذا وقتُ عرَفَةَ فمَنْ لم يتمكَّنْ منَ الوقوفِ بعرفةَ في هذه المدةِ التي هيَ أقلُّ من يومٍ كاملٍ فاتَهُ الحجُّ فلذلكَ قالَ الرسولُ صلى الله عليه وسلم الحجُّ عرفةُ معناهُ مَن أدركَ عرفةَ أي وقفَ بعرفةَ فقد أدركَ الحجَّ أي ما سِوَى ذلك سَهْلٌ عليه لأنَّ أركانَ الحجّ سِوَى الوقوفِ وقتُها واسِعٌ. الطوافُ بالبيتِ الذي هو رُكْنٌ من أركانِ الحجّ لا يُجبَرُ بدَمٍ أي بذَبحٍ إنْ فاتَ لأنَّ وقتَهُ واسعٌ لكنَّ أفضلَ أيامِهِ يومُ العيدِ فمَنْ لم يطُفْ طوافَ الفرضِ في خِلالِ أيام التشريقِ طافَ أيَّ يومٍ شاءَ بعدَ ذلكَ لو بعدَ شهرٍ أو شهرَينِ أو ثلاثةٍ أو أكثرَ.

والسعيُ مثله ليس وقتُهُ ضيّقًا بل واسعٌ إنْ شاءَ يسعَى عقِبَ طوافِ القُدُومِ أوَّلَ ما يدْخُلُ مكةَ وإنْ شاءَ يسعَى عقِبَ طوافِ الفرضِ. والحلقُ أو التقصيرُ يجوزُ فِعلُهُما كالطوافِ بعدَ شهرٍ أو شهرَينِ أو ثلاثةٍ أو أكثرَ. فلمَّا كانَ العملُ الذي وقتُهُ ضيّقٌ هو الوقوفَ بعرفةَ فقط قال عليه الصلاة والسلام: الحجُّ عرفةُ ليس معناهُ أنَّ مَنْ وقفَ بعرفةَ ثبتَ له الحجُّ من غيرِ توقُّفٍ على أعمالٍ أخرَى بل لا بُدَّ منَ الإحرامِ الذي هو النيةُ أي نيةُ الدخولِ في النُسُكِ ومِن طوافِ الفرضِ والسعيِ والحلقِ أو التقصيرِ.

قوله عليه الصلاة والسلام: إنَّ مِن أفضلِ أيامِكُم يومَ الجمعةِ هو لِبيانِ أنَّ هناك أيامًا فاضلةً غيرَ يوم الجمعةِ وإنْ كانَ يومُ الجمعةِ يختصُّ بمَزايا ليست لِتلكَ الأيامِ الفاضِلةِ سواهُ. ومن الأيام الفاضلةِ عشرُ ذي الحِجَّةِ أي من أولِ شهرِ ذي الحجةِ إلى العاشرِ من يوم العيدِ، كلُّ هذه الأيام لها فضلٌ عندَ الله تعالى فإنَّ عملَ البِرّ والإحسانِ في هذه الأيام يزْكُو ويزيدُ على ما سواه لذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما مِن أيامٍ العملُ فيها أحبُّ إلى اللهِ من عَشرِ ذي الحجةِ([iv]) اهـ فيُفهَمُ أنَّ الأعمالَ الصالحةَ في هذه الأيام تزكُو عندَ الله تعالى أكثرَ مما إذا عُمِلت في غيرِها.

نعودُ إلى شرح حديث: إنَّ مِنْ أفضلِ أيَّامِكُمْ يومَ الجُمُعةِ فيه خُلِقَ ءادَمُ وفيه قُبِضَ وفيه النَّفخَةُ وفيه الصَّعقَةُ اهـ هذه الأمورُ الأربعةُ أمورٌ عِظامٌ، أما ءادم فلأنَّهُ أولُ النوعِ البشريّ الذي فضَّلَهُ اللهُ على سائرِ أنواعِ المخلوقاتِ فهو أفضلُ من النوعِ الـمَلَكيِّ ومن النوعِ الجِنّيّ بما أنَّ أنبياءَ الله من البشر من أفرادِ هذا النوع الكريم على الله تعالى. ءادمُ عليه السلام خُلِقَ في هذا اليوم أي في يوم الجمعةِ، وتمامُ خَلْقِ ءادَمَ عليه السلامُ كان في الجنةِ فقد روى الحاكِمُ في مُسْتَدرَكِهِ أنَّ ءادَمَ لم يَمْكُثْ في الجنةِ إلا ساعةً من العصرِ إلى الغُروبِ([v]) اهـ لكن تلك الساعةُ وردَ أثرٌ بأنها مقدارُ مائةٍ وثلاثين عامًا لأنَّ تلكَ الأيامَ الستةَ التي خلقَ اللهُ فيها الأرضَ والسمواتِ وخلقَ ءادمَ في ءاخِرِ الخَلْقِ، كلُّ يوم منها قَدْرُ ألفِ سنةٍ بتقديرِ أيامنا هذه فكانَ مدةُ مكثِ ءادَمَ في الجنةِ بعد نَفْخِ الروحِ فيه إلى أن نزلَ إلى الأرضِ مائةً وثلاثينَ عامًا.

هذا معنى قولِهِ عليه الصلاة والسلام: فيهِ خُلِقَ ءادَمُ اهـ وإنما أُخِّرَ خلْقُهُ إلى ءاخرِ ذلكَ اليوم الذي هو ءاخِرُ الأيامِ الستّ التي خُلِقَتْ فيها السمواتُ والأرضُ لأنَّ ءادمَ صفوةُ الخلقِ، أي أفضلُ مما خُلِقَ قبلَهُ، أفضلُ من الملائكةِ وأفضلُ من غيرِهم فكانَ مناسبًا أن يكونَ ءاخِرَ الخلقِ في تلكَ الأيامِ الستةِ كما أنَّ محمدًا صلى الله عليه وسلم الذي هو سيدُ الخلق سيدُ العالمين على الإطلاق وإمامُ الأنبياءِ وأشرفُ المرسلين خُلِقَ ءاخِرَ الأنبياءِ، لم يُبْعَثْ إلا بعد أن بُعِثَ جميعُ الأنبياءِ، وفي ذلك مناسبةٌ معَ صِفَةِ شرابِ أهلِ الجنةِ الذي وصفَهُ اللهُ بقوله: ﴿خِتامُهُ مِسْكٌ([vi])، فليسَ الفضلُ عند الله تبارك وتعالى بطُولِ عُمرِ العبدِ من عبادِ اللهِ الصالحين، إنما الفضلُ بتفضيلِ اللهِ، فسيدنا ءادمُ عليه السلام عاش ألفَ سنةٍ ونوحٌ عليه السلام عاش أكثرَ من ذلك ومع ذلك فلَيسا أفضلَ الأنبياء، ولو كان الفضلُ بطول العمر لكان أفضلُ الأنبياءِ هو الخَضِرَ على القول بحياته أي القولِ بأنهُ لم يَمُتْ بعدُ وهو قولُ أكثرِ العلماءِ وهو نبيٌّ على القولِ الصحيحِ، هو أطولُ عمرًا من هذين النَّبيَّينِ ومن سائر البشر ومع ذلك فليس هو أفضلَ الأنبياءِ إنما أفضلُ الأنبياءِ هم خمسةٌ. روى الحاكم في المستدركِ عن أبي هريرة رضيَ الله عنهُ أنه قال: خِيارُ الأنبياءِ خمسةٌ محمّد وإبراهيم وموسى وعيسى ونوح وخيار الخمسة محمدٌ([vii]) اهـ كان سيدنا محمّد صلى الله عليه وسلم أقلَّ الأنبياء عمرًا، عاش بعد نزولِ النبوة عليه ثلاثةً وعشرين عامًا، مع ذلك اللهُ فضَّلَهُ على غيرهِ من الأنبياءِ الذين فيهم ءادَمُ الذي كان عمره ألفَ سنةٍ ونوحٌ الذي كان عمرُهُ ألفًا وزيادةً قيل إلى سبعمائةٍ وخمسين فوق الألفِ وقيل أقلّ من ذلك، فالفضل ليس إلا بتفضيل الله تعالى، فهو تبارك وتعالى له أن يُفَضّلَ مَن يشاءُ من خَلْقِهِ، لا يُقال مَن كان أطولَ عمرًا وأطولَ عبادةً هو أفضلُهم، لو كان الأمر كذلك لم يكن سيدنا محمدٌ أفضَلَهُمْ وسيدَهم وأشرَفَهم وأكرمهم على الله تعالى.

ولكونِ أمةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم ءاخِرَ الأمم كما أن نبيَّهم ءاخِرُ الأنبياءِ فإنهم لم يُذكروا في الأمم الماضين إلا بالمدح، ما ذُكِروا بالذم. وقد ذكر الله تعالى كثيرًا من مساوئ أمم من الأمم السابقة، قصَّ الله تعالى علينا في القرءان عما فعَلَ قومُ هودٍ وماذا فعلَ قومُ صالحٍ وماذا فعلَ قومُ إبراهيمَ وماذا فعلَ قومُ موسى وماذا فعلَ بنو إسرائيلَ بعيسى، اللهُ تعالى فَضَحَهُم، ذكرَ لنا مساوِئَهُم، أما أمّةُ محمدٍ فلم تُفضَحْ في أمةٍ من الأمَمِ الماضينَ بل ذُكروا بالمدح والثناء.

وأما كونُ ءادمَ عليه السلام قُبض يومَ الجمعة فهو أمرٌ مُتَّفقٌ عليه، ليس في ذلك خلافٌ لورود هذا النصّ الحديثيّ الصحيح.

وأما أنَّ النفخةَ فيه فالمرادُ بها النفخُ في الصُّورِ أي البُوقِ الذي وُكّلَ إسرافيلُ بالنفخ فيه.

وأما قوله عليه الصلاة والسلام: وفيه الصَّعقةُ فهيَ الموتُ بالنسبةِ لقِسمٍ من العبادِ والغَشْيَةُ بالنسبةِ لبعضٍ لأنهُ يحدُثُ من النفخةِ أمرانِ قسمٌ من الخَلْقِ وهم الملائكةُ والإنسُ والجِنُّ الذينَ تُدْرِكُهُمْ النفخةُ وهم أحياءٌ على وجهِ الأرض يموتون في هذه النفخةِ، وأما الصعقةُ التي هيَ غَشْيَةٌ ليست موتًا فهي لمن كان قد مات قبل ذلك من الأنبياء وغيرِهم فإنهم يُصعَقونَ أي يُغشَى عليهم لا يُعادُ عليهم الموتُ مرةً ثانيةً لأنهم قد ماتوا إلا أنه وردَ في حقّ موسى احتمالان من الرسولِ صلى الله عليه وسلم، ذكرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن موسى يجوزُ عليه أن يُغشَى عليه كما أُغشِيَ على غيره عند النفخة من الذين ماتوا قبل ذلك وهم جميعُ الأنبياء، والاحتمالُ الثاني أنه لا يُغشَى عليه بل يكونُ جُوزِيَ أي جازاهُ اللهُ تعالى بإنقاذِهِ واستثنائِهِ من الغَشْيَةِ عند النفخةِ لأنه صَعِقَ في الطُّورِ لمَّا رأى الجبلَ اندَكَّ أي صار مستويًا بالأرضِ بتَجَلِّي الله لهُ صعِقَ موسى أي غُشِيَ عليه. ومعنى تجَلَّى الله للجبل أنَّ اللهَ خلقَ في الجبلِ إدراكًا وحياةً ورؤيةً لله فرأى ربَّه، اللهُ تعالى خلقَ فيه الرؤيةَ لكنه اندَكَّ من شدةِ خَشْيَتِهِ من الله تعالى، وهذه الجماداتُ اللهُ تباركَ وتعالى يَخْلُقُ في بعضِها في بعضِ الأوقاتِ إدراكًا وحياةً ثم تعودُ إلى حالَتِها ومن الدليلِ على ذلك قولُهُ تعالى: ﴿وإنَّ مِنْها لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشيةِ اللهِ([viii]).

وقد صحَّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنَّ ثلاثةً من المؤمنينَ الذينَ كانوا ممن قبلَنا أي قبلَ هذه الأمةِ أوَوْا إلى غارٍ أي لجأوا إليه فلما دخلوهُ نزلت صخرةٌ من أعلَى الجبلِ فسدَّتْ عليهم فَمَ الغارِ، والرسولُ صلى الله عليه وسلم قال إنَّ هذا الحَجَرَ من الحَجَرِ الذي يهْبِطُ من خشيةِ اللهِ، هؤلاء المؤمنون اللهُ تعالى ابْتلاهُم لأنه سبحانه يَبْتَلي المؤمنين في هذه الدنيا بأشياءَ من البلاء، هؤلاءِ ارتعبوا ارتعابًا شديدًا لمَّا أصابهم هذا البلاءُ وهو انسدادُ فَمِ الغار الذي دخَلُوهُ عليهم بحيثُ لا يَقْدِرُونَ الخروجَ منه فقال بعضُهم لبعضٍ ليسألْ كلٌّ منَّا ربَّهُ الفرجَ بعملٍ صالحٍ قدَّمَهُ، فكلُّ واحدٍ من الثلاثةِ ذكرَ عملاً صالحًا قدَّمَهُ قبلَ ذلك ففرَّجَ الله عنهم بأنِ انْزاحَتِ الصخرةُ فخرجوا سالمين. ولولا أنَّ اللهَ فرَّجَ عليهم لَتَلِفُوا وهَلَكُوا.

اللهم ربنا ءاتِنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرةِ حسنةً وقِنا عذابَ النار، اللهم اغفر لنا وارْحَمنا وعافِنا واعفُ عنّا، اللهم اجعلنا من الـمُحسنين الذكَّارين الأوابين الشكَّارين لك، واغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان والحمد لله رب العالمين له النعمةُ وله الفضل وله الثناء الحسن وصلّ اللهم على سيدنا محمّد وعلى ءاله وسلم، سبحان ربّك رب العزة عما يصفون وسلامٌ على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

انتهى والله تعالى أعلم.

[i])) رواه الحاكمُ في المستدرك باب كتاب الجُمُعةِ.

[ii])) رواه البيهقيّ في السنن الصغير بابُ فضلِ الجُمُعةِ.

[iii])) رواه الحاكم في المستدرك باب أول كتاب الـمَناسِكِ.

[iv])) رواه ابن حبان في صحيحه باب ذِكر خبرٍ أوْهَمَ مَنْ لم يُحكِمْ صِناعةَ العِلمِ أنَّ شهرَ رمضانَ لا ينقُصُ عن تمامِ ثلاثينَ في العددِ.

[v])) رواه الحاكم في المستدرك باب ذكر ءادم عليه السلام.

[vi])) سورة المطففين/الآية 26.

[vii])) رواه الحاكم في المستدرك باب ذكر نوح النبيّ.

[viii])) سورة البقرة/الآية 74.