الأحد ديسمبر 7, 2025

سورة المُدَّثّر

وهي مكيةٌ بإجماعهم وءاياتُها ست وخمسون

وقال مقاتل فيها من المدني ءاية واحدة وهي قوله تعالى {وما جَعَلنا عِدَّتَهُم إلا فِتنةً}.

بسم الله الرحمن الرحيم

وأما سببُ نزولِها فقد روى البخاريُّ ومسلمٌ في صحيحَيهِما من حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “جاورتُ بِحراءَ شهرًا فلما قضيتُ جواري نزلتُ فاستنبطتُ بطنَ الوادي فنوديت فنظرتُ أمامي وخلفي وعن يميني وعن شمالي فلم أر أحدًا ثم نوديت فرفعتُ رأسي فإذا هو في السماءِ فأقبلتُ إلى خديجةَ فقلتُ دثروني دثروني” فأنزل الله عز وجل {يا أيُّها المُدَّثِّرُ قُمْ فأنْذِرْ}. قال المفسرون: فلما رأى جبريل وقع مغشيًا عليه فلما أفاقَ دخل إلى خديجة ودعا بماء فصبه عليهِ وقال دثروني فدثَّروهُ بقطيفةٍ فأتاه جبريلُ فقال يا أيها المُدثر (1).

___________________________

  • روى البخاري في صحيحه: قالَ ابنُ شِهابٍ وأخْبَرَني أبو سلمةَ بنُ عبدِ الرحمنِ أنَّ جابرَ بنَ عبدِ اللهِ الأنصاريَّ قالَ وهُوَ يُحَدِّثُ عن فترةِ الوحيِ فقالَ في حديثِهِ بَيْنا أنا أمشي إذْ سَمِعْتُ صوتًا مِنَ السماءِ فرَفَعْتُ بَصَري فإذا المَلَكُ الذي جاءَني بِحِراءٍ جالسٌ على كُرْسيٍّ بينَ السماءِ والأرضِ فَرُعِبتُ منهُ فرَجَعْتُ فقلتُ زَمِّلوني فأنزلَ اللهُ تعالى: {يا أيُّها المُدَّثِّرُ* قُمْ فأنْذِرْ* ورَبَّكَ فكَبِّرْ* وثيابَكَ فَطَهِّرْ* والرُّجْزَ فاهْجِرْ} فحَمِيَ الوحيُ وتتابعَ تابَعَهُ عبدُ اللهِ بنُ يوسفَ وأبو صالحٍ وتابَعَهُ هلالُ بنُ رَدَّادٍ عنِ الزُّهريِّ وقالَ يونسُ ومَعمرٌ بَوَادِرُهُ.

وقوله صلى الله عليه وسلم فسمعت صوتًا من السماء راجع إلى قوله: فإذا المَلَكُ الذي جاءَني بحِراء أي أنه صوت الملك وكان هذا صوت جبريل عليه السلام وليس إلى الله تعالى لأن الله تعالى أزلي أبدي وكلامه أزلي أبدي ليس حرفًا ولا صوتًا ولا لغة.

وقد قال عماد السيد محمد إسماعيل الشربيني في كتابه رد شبهات حول عصمة النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير الحديث ما نصه: “فرعبت منه” قرينة قوية على أن خشيته صلى الله عليه وسلم على نفسه (هذا من الخوف الطبيعي) كانت مما رأى من المفاجآت السابق ذكرها، فضلاً عن شدة الوحي التي اعترته لأول مرة، وهو في غار حراء، وكلها أمور تضعف عن حملها فطرة البشر. فالخوف والخشية، لا يصادم الإذعان والإتقان بشئ أصلاً، لأنه في بنية البشر، قال تعالى {يُريدُ اللهُ أن يُخفِّفَ عنكُم وخُلِقَ الإنسانُ ضَعيفًا}. وكما جاز لموسى عليه السلام أن يخاف من عصاه حين صار ثعبانًا، ولم يصادم ذلك إيمانه، جاز لرسول الله صلى الله عليه وسلم أيضًا أن يخشى عند رؤية الملك بهيئته الملائكية، وعطه، وشدة الوحي، فكل ذلك ليس بأقل من عصا موسى عليه السلام.

قال الحافظ الهرري في كتابه “عمدة الراغب”: يستحيل على الأنبياء الجبن، أما الخوف الطبيعي

  • {يا أيُّها المُدَّثِّرُ}: أصلهُ المتدثر وهو الذي يتدثرُ في ثيابِهِ ليستدفئ بها وأجمعوا على أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما سمّاهُ مدثرًا لقوله صلى الله عليه وسلم دثِّروني.
  • {قُمْ فأَنْذِرْ}: كفارَ مكة العذابَ إن لم يوحّدوا، والمعنى قم من مضجعكَ ودثارِكَ.
  • {وربَّكَ فكَبِّرْ}: أي عظّمهُ عما يقوله عبدةُ الأوثان.
  • {وثِيابَكَ فطَهِّرْ}: فيه أقوالٌ:

أحدُها: لا تلبَسها على معصيةٍ ولا على غدر.

والثاني: لا تكن ثيابُك من مكسبٍ غيرِ طاهر.

والثالث: ثيابكَ قصِّر.

وقيل: اغسل ثيابكَ بالماءِ ونقّها.

_________________________

فلا يستحيل عليهم بل الخوف الطبيعي موجود فيهم وذلك مثل النفور من الحية فإن طبيعة الإنسان تقتضي النفور من الحية وما أشبه ذلك مثل التخوف من تكالب الكفار والأعداء عليهم حتى يقتلوهم فإن ذلك جائز عليهم وهو جائز في حق الأنبياء، ولا يقال عن النبي صلى الله عليه وسلم هرب لأن هرب يشعِرُ بالجُبن أما فرّ من الأذى مثلاً فلا يشعر بالجبن، يقال: هاجر فرارًا من الكفار أي من أذى الكفار هذا جائزٌ ما فيه نقص وعلى هذا المعنى قول الله تعالى إخبارًا عن موسى عليه السلام أنه قال “ففررت منكم لما خفتكم”، وبهذا المعنى تفسر الآية: {خُذْها ولا تَخَفْ} في قصةِ معجزة العصا لموسى عليه السلام وبنفس المعنى ما جاء في قوله تعالى {فأوْجَسَ في نفسِهِ خِيفَةً مُوسى}.

ولا يجوز أن يوصف الأنبياء بالجبن، فيتحصل مما سبق أنّ معنى (فَرُعِبْتُ منهُ) ليس خوف الجبن، هذا الخوف هو الخوف الطبيعي، إذ يستحيل على الأنبياء الجبن أما الخوف الطبيعي فلا يستحيل عليهم بل هو موجود فيهم قال القشيري في تفسيره لقوله تعالى {ففَرَرْتُ منكُم لمَّا خِفْتُكُم}: “يجوزُ حمله على الظاهر وأنه خاف منهم على نفسه”، وقد قال الله تعالى مخاطبًا نبيه موسى عليه السلام: {خُذْها ولا تَخَفْ} وقال تعالى: {فأوجَسَ في نفسِهِ خيفةً موسى} وقال تعالى حكاية عن موسى: {وأخافُ أن يقتلون}، وقال تعالى حكاية عن هارون وموسى: {لا تخافا إنني معكُما أسمعُ وأرى}، هذا عن الخوف الطبيعي وليس خوف الجبن.

وأما الناموس الذي ورد في لفظ هذا الحديث “هذا الناموس الذي نزّل الله على موسى” فمعناه صاحب السرّ والمراد به جبريل سُمي بذلك لاختصاصه بنزول الوحي على الأنبياء غالبًا.

وقال الحافظ ابن حجر: قوله ما أنا بقارئ ثلاثًا ما نافية إذ لو كانت استفهامية لم يصلح دخول الباء وإن حكى عن الأخفش جوازه فهو شاذ والباء زائدة لتأكيد النفي أي ما أحسن القراءة فلما قال ذلك ثلاثًا قيل له اقرأ باسم ربك أي لا تقرؤه بقوتك ولا بمعرفتك لكن بحول ربك وإعانته فهو يعلمك كما خلقك وكما نزع عنك علق الدم وغمز الشيطان في الصغر وعلم أمتك حتى صارت تكتب بالقلم بعد أن كانت أمية ذكره السهيلي وقال غيره أن هذا التركيب وهو قوله ما أنا بقارئ يفيد الاختصاص ورده الطيبي بأنه إنما يفيد التقوية والتأكيد والتقدير لست بقارئ البتة فإن قيل لم كرر ذلك ثلاثًا أجاب أبو شامة بأن يحمل قوله أولاً ما أنا بقارئ على الامتناع وثانيًا على الإخبار بالنفي المحض وثالثًا على الاستفهام ويؤيده أن في رواية أبي الأسود في مغازيه عن عروة أنه قال كيف أقرأ وفي رواية عبيد بن عمير عن ابن إسحاق ماذا أقرأ وفي مرسل الزهري في دلائل البيهقي كيف أقرأ وكل ذلك يؤيد أنها استفهامية والله أعلم قوله فغطني بغين معجمة وطاء مهملة وفي رواية الطبري بتاء مثناة من فوق كأنه أراد ضمني وعصرني اهـ. من غير إيذاء.

  • {والرُّجْزَ فاهْجُرْ}: قال الزجاج: “الرجزُ في اللغةِ العذاب والمعنى اهجر ما يؤدي إلى عذاب الله”. وقيل اترك المآثمَ.
  • {ولا تَمْنُن تسْتَكْثِرُ}: قال ابن عباس رضي الله عنهما: “لا تعط عطيةً تلتمس بها أفضلَ منها معناه أعط لربك وأرد بهِ الله فأدِّ بهِ بأشرفِ الآداب”.
  • {ولِرَبِّكَ فاصْبِرْ}: لأجلِ ربكَ وقيل لثوابِ ربك فاصبر على الأذى وقيل على طاعته وفرائضه.
  • {فإذا نُقِرَ في الناقورِ}: أي نفخَ في الصور وهل هذه النفخة هي الأولى أو الثانية فيه قولان.
  • {فذلكَ يؤمئذٍ يومٌ عسيرٌ}: أي يعسُر الأمرُ فيه.
  • {على الكافرينَ غيرُ يَسيرٍ}: غير هيّن.
  • {ذَرْني ومَنْ خَلَقْتُ وحيدًا}: أي كِلْهُ إليَّ يعني الوليدَ بنَ المغيرةِ وكان يُلقَّبُ في قومه بالوحيد وقيل معناه خلقته وحدي ولم يشاركني في خلقه أحدٌ والمعنى ذرني وإياه فأنا أكفيكَهُ. قال الزجاجُ قالَ ابن عباس رضي الله عنهما: جاءَ الوليدُ بن المغيرةِ إلى النبي فقرأ عليه القرءانَ فكأنهُ رقّ له فبلغَ ذلك أبا جهل فأتاهُ فقال يا عم إن قومَكَ يريدونَ أن يجمعوا لكَ مالاً فإنكَ أتيتَ محمدًا تتعرضُ لما قِبَله فقال قد علِمَتْ قريشٌ أني من أكثرها مالاً قال فقل فيه قولاً يبلغُ قومَكَ أنك منكِرٌ له قال وماذا أقول فوالله ما فيكم رجلٌ أعلمُ بالأشعارِ مني فواللهِ ما يشبهها الذي يقول والله إنَّ لقوله حلاوةً وإن عليه طلاوةً وإنه لمثمرٌ أعلاهُ مغدِقٌ أسفلُهُ وإنه ليعلو ولا يُعلى قال: لا يرضى عنكَ قومُكَ حتى تقولَ فيه قال فدعني حتى أفكرَ فيه فقال هذا سحرٌ يُؤثَرُ يَأثُره عن غيره فنزلت {ذَرْني ومن خلَقْتُ وحيدًا} الآيات كلّها. وقال مجاهد: قال الوليدُ لقريش: إنَّ لي إليكم حاجةً فاجتمعوا في دارِ الندوةِ فقال إنكم ذوو أحسابٍ وأحلامٍ وإن العربَ يأتونَكم وينطلقون من عندكم على أمرٍ مختلفٍ فأجمعوا على شئٍ واحدٍ ما تقولون في هذا الرجلِ قالوا نقول إنه شاعرٌ فعبَسَ عندها وقال قد سمعنا الشعرَ فما يشبه قولُهُ الشعرَ فقالوا نقول إنه كاهنٌ قال إذن يأتونه فلا يجدونه يحدّثُ بما يحدثُ به الكهنةُ قالوا نقول إنه ساحر قال وما الساحرُ قالوا بَشَرٌ يحبّبون بين المتباغضين ويُبَغّضُونَ بين المتحابين قال فهو ساحرٌ فخرجوا لا يلقى أحدٌ منهم النبيَّ إلا قال: يا ساحر فاشتدَّ ذلك عليهِ فأنزل الله عز وجل {يا أيُّها المُدَّثِّرُ} إلى قوله: {إنْ هذا إلا سحرٌ يُؤثَرُ}.
  • {وجَعَلتُ لهُ مالاً ممْدُودًا}: وهو الكثيرُ الممدودُ عددُه أو مساحتُه.
  • {وبَنينَ شُهُودًا}: أي حضورًا بمكةَ لا يغيبون عنه لأنهم كانوا أغنياءَ غيرَ محتاجين إلى الغَيبةِ لطلب الكسبِ وقيل معنى شهودًا أي رجالاً يشهدونه معهُ المحافلَ والمجامعَ قيل كانوا عشرة وقيل سبعة وهم الوليد بن الوليد وخالد وعمارةُ وهشام والعاصي وقيس وعبد شمس أسلم منهم ثلاثةُ نفرٍ خالد وهشام وعمارة.
  • {ومَهَّدْتُ لهُ تَمْهيدًا}: أي بَسَطْتُ له العيشَ وطولَ العمرِ.
  • {ثُمَّ يطمَعُ أنْ أزيدَ}: فيه قولان أحدهما: يطمعُ أن أدخلَهُ الجنة. قاله الحسن والثاني: أن أزيدَهُ من المال والولدِ قاله مقاتل.
  • {كلا}: أي لا أفعلُ فمنعه الله المالَ والولدَ حتى ماتَ فقيرًا.
  • {إنَّهُ كانَ لآياتِنا عَنيدًا}: أي معاندًا وفي المراد بالآياتِ هنا ثلاثةُ أقوالٍ:

أحدُها أنه القرءان قاله مجاهد.

والثاني الحقُ قاله مجاهد.

والثالثُ رسولُ اللهِ قاله السُّدّي.

  • {سَأرْهِقُهُ صَعُودًا}: أي سأكَلّفُهُ مشقةً من العذابِ وقيل الصَعودُ جبلٌ من نارٍ يصعدُ فيه ثم يهوي أبدًا. قال الكلبيُّ: “الصَعودُ صخرة ملساءُ في النارِ يكلّفُ الكافرُ أن يصعدها لا يُتركُ يتنفس في صعودِهِ يُجذَبُ من أمامهِ بسلاسل حديدٍ ويضربُ من خلفِهِ بمقامعَ من حديد فيصعدها في أربعين عامًا فإذا بلغ ذروتها أحدِرَ إلى أسفلها ثم يُكلفُ أن يصعدها يُجذبُ من أمامهِ ويُضربُ من خلفهِ فذلكَ دأبه أبدًا”.
  • {إنَّهُ فكرَ وقَدَّرَ}: أي تفكَّرَ ماذا يقولُ في القرءانِ وقدَّرَ القولَ في نفسهِ.
  • {فقُتِلَ كيفَ قدَّرَ* ثمَّ قُتِلَ كيفَ قدَّرَ}: أي لُعِنَ على أيِّ حال قدَّر ما قدرَ من الكلامِ. وقيل “كيف” ههنا بمعنى التعجب والإنكار والتوبيخ وإنما كُررَ تأكيدًا.
  • {ثُمَّ نَظرَ}: في طلبِ ما يدفعُ بهِ القرءانَ ويرده.
  • {ثُمَّ عبسَ وبَسَر}: كرَّهَ وجهَهُ ونظرَ بكراهيةٍ شديدةٍ كالمهتم المتفكر في الشئ.
  • {ثُمَّ أدبرَ}: عن الإيمان.
  • {واسْتَكبرَ}: أي تكبرَ حينَ دُعِيَ إليه.
  • {فقالَ إنْ هذا إلا سحرٌ يُؤثَرُ}: أي قال ما هذا القرءان إلا يُروى عن السحرة أي من كلام الإنس وليس من كلام الله.
  • {إنْ هذا إلا قولُ البشرِ}: فقال الله تعالى:
  • {سَأُصليهِ سَقرَ}: أي سأدخلهُ النارَ.
  • {وما أدراكَ ما سقرُ}: لِعِظَمِ شأنِها.
  • {لا تُبْقي ولا تَذَرُ}: أي لا تبقي لهم لحمًا إلا أكلته ولا تذَرهُم إذا أعيدوا خلقًا جديدًا.
  • {لوَّاحةٌ للبشرِ}: أي مُغيّرَةٌ للبشرِ وهو جمعُ بشَرة وهي جلدةُ الإنسانِ الظاهرةُ قاله مجاهد والزجاج وقيل: “إنهم الإنسُ من أهلِ النار”.
  • {عَلَيها تسعةَ عشرَ}: وهم خُزَّانُها مالكٌ ومعه ثمانية عشر وقيل أعينهم كاللهب الخاطِف يخرج لهبُ النارِ من أفواههم يسعُ كفُّ أحدهم مثلَ ربيعة ومُضَر فلما نزلت هذه الآية قال أبو جهل يخوفُكُم محمدٌ بتسعة عشر أما له من الجنودِ غيرُ هؤلاء أيعجزُ كلُ عشرةٍ أن يبطشَ بواحدٍ منهم ثم يخرجونَ من النارِ فأنزلَ الله تعالى:
  • {وما جَعَلْنا أصحابَ النارِ إلا ملائكةً}: لا ءادميين فمن يطيقُهم ومن يغلبهم.
  • {وما جعلْنا عِدَّتَهُمْ}: في هذه القِلةِ.
  • {إلا فِتنةً}: أي ضلالةً.
  • {للذينَ كَفَروا}: حتى قالوا ما قالوا.
  • {لِيَسْتَيْقِنَ الذينَ أوتوا الكِتابَ}: أن ما جاء به محمدٌ صلى الله عليه وسلم لحق لأنَّ عدَّتَهم في التوراةِ تسعة عشر.
  • {ويَزْدادَ الذينَ ءامنُوا}: من أهل الكتابِ.
  • {إيمانًا}: أي تصديقًا بمحمد إذ وجدوا ما يخبرهم موافقًا لما في كتبهم.
  • {ولا يرتابَ الذينَ أوتُوا الكتابَ والمؤمِنونَ}: أي ولا يشكّ هؤلاء في عددِ الخزنةِ.
  • {ولِيقولَ الذينَ في قلوبِهم مرضٌ}: وفيه ثلاثة أقوال:

أحدها إنه النفاقُ.

والثاني إنه الشركُ.

والثالث إنه الخلاف.

  • {والكافرونَ}: وهم مشركو العرب.
  • {ماذا أرادَ اللهُ}: أيْ أيَّ شئٍ أرادَ الله تعالى.
  • {بِهذا}: الحديثِ والخبرِ.
  • {مَثَلاً}: والمثَلُ يكونُ بمعنى الحديثِ نفسِه ومعنى الكلام يقولون ما هذا من الحديث.
  • {كذلِكَ}: أي كما أضل من أنكرَ عددَ الخزنةِ وهدى من صدَّق.
  • {يُضلُّ اللهُ مَن يشاءُ ويهدي مَن يشاءُ}: لأن الله بيدِهِ الهدايةُ والإضلالُ وفيه دليلُ خلقِ الأفعالِ ووصفُ اللهِ بالهدايةِ والإضلالِ (1). وأنزلَ في قولِ أبي جهل: أمَا لمحمدٍ من الجنودِ إلا تسعةَ عشر (2).
  • {وما يعلمُ جُنُودَ ربِّكَ إلا هُوَ}: يعني من الملائكةِ الذينَ خلقهم لتعذيب أهل

_____________________

(1)أي أن الله هو خالق الضلالة وليس معناه أن من أسماء الله الضال ولا المضل، حاشا الله.

  • معنى القَدَرِ والإيمان به

قال بعض العلماء: القَدَر هو تدبير الأشياء على وجهٍ مطابقٍ لعلم الله الأزلي ومشيئته الأزلية فيوجدها في الوقت الذي علم أنها تكون فيه.

فيدخل في ذلك عمل العبد الخير والشرّ باختياره.

ويدلّ عليه قول رسول الله لجبريل حين سأله عن الإيمان: “الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره” رواه مسلم. ومعناه أن المخلوقات التي قدّرها الله تعالى وفيها الخير والشرّ وجدت بتقدير الله الأزلي، وأمّا تقدير الله الذي هو صفة ذاته فهو لا يوصف بالشرّ بل تقدير الله للشر الكفر والمعصية وتقديره للإيمان والطاعة حسنٌ منه ليس قبيحًا.

فإرادة الله تعالى نافذةٌ في جميع مراداته على حسب علمه بها.

فما علِمَ كَونَهُ أرادَ كونَهُ في الوقتِ الذي يكونُ فيه، وما علمَ أنه لا يكونُ لم يُرِدْ أن يكون.

فلا يَحدُثُ في العالمِ شئٌ إلا بمشيئتهِ ولا يُصيبُ العبدَ شئٌ من الخيرِ أو الشر أو الصحةِ أو المرضِ أو الفقرِ أو الغنى أو غير ذلك إلا بمشيئةِ الله تعالى، ولا يخطئ العبدَ شئٌ قدّر الله وشاء أن يصيبه، فقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم علّم بعض بناته: “ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن” رواه أبو داود في السنن ثم تواتر واستفاض بين أفراد الأمة.

وروى البيهقي رحمه الله تعالى عن سيدنا علي رضي الله عنه أنه قال: “إنّ أحدكم لن يخلص الإيمان إلى قلبه حتى يستيقن يقينًا غير شكّ أنّ ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأهُ لم يكن ليصيبه، ويقرّ بالقدر كله” أي لا يجوز أن يؤمن ببعض القدر ويكفر ببعض.

وروى أيضًا بالإسناد الصحيح أنّ عمر بن الخطاب كان بالجابية –وهي أرض من الشام- فقام خطيبًا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال “من يهدِ الله فلا مضلّ له ومن يضلل فلا هادي له”، وكان عنده كافرٌ من كفار العجم من أهل الذمة فقال بلغته “إنّ الله لا يضلّ أحدًا”، فقال عمر للترجمان “ماذا يقول؟” قال إنه يقول إنّ الله لا يضلّ أحدًا، فقال عمر: “كذبت يا عدو الله ولولا أنك من أهل الذمةِ لضربت عنقك هو أضلّك وهو يدخلك النار إن شاء”.

وروى الحافظ أبو نعيم عن ابن أخي الزهريّ عن عمه الزهري أن عمر بن الخطاب كان يحبّ قصيدة لبيد بن ربيعة التي منها هذه الأبيات وهي: [الرمل]

إنّ تقوى ربنا خير نقل *** وبإذن الله ريثي وعجل

أحمد الله فلا نـــــــدّ له *** بيديه الخير ما شاء فعل

 

 

_______________________

من هداهُ سبل الخير اهتدى *** ناعم البال ومن شاء أضل

ومعنى قوله “إنّ تقوى ربنا خير نفل” أي خير ما يعطاه الإنسان.

ومعنى قوله “وبإذن الله ريثي وعجل” أي أنه لا يبطئ مبطئ ولا يسرع مسرعٌ إلا بمشيئة الله وبإذنه.

وقوله “أحمد الله فلا ندّ له”، أي لا مثل له. وقوله “بيديه الخير”، أي والشر.

وإنما اقتصر على ذكر الخير من باب الاكتفاء كقوله تعالى {سرابيلَ تَقيكُمُ الحرَّ} [سورة النحل/81] أي والبرد لأن السرابيل تقي من الأمرين ليس من الحر فقط.

وقوله “ما شاء فعل” أي أراد الله حصوله لا بد أن يحصل وما أراد أن لا يحصل فلا يحصل.

وقوله “من هداه سبل الخير اهتدى” أي من شاء له أن يكون على الصراط الصحيح المستقيم اهتدى.

وقوله “ناعم البال” أي مطمئن البال. وقوله “ومن شاء أضلّ” أي من شاء له أن يكون ضالاً أضلّه.

وروى البيهقي عن الشافعي أنه قال حين سئل عن القدر: [متقارب تام]

ما شئت كان وإن لم أشـــــأ *** وما شئت إن لم تشأ لم يكـــــن

خلقت العباد على ما علمت *** ففي العلم يجري الفتى والمسن

على ذا مننت وهذا خذلــت *** وهذا أعنـــــــــــت وذا لم تعن

فمنهم شقيٌّ ومنهم سعيـــــدٌ *** وهذا قبيحٌ وهذا حســــــــــــن

فتبيّن بهذا أنّ الضمير في قوله تعالى {يُضلُّ مَن يشاءُ ويهدي مَن يشاء} [سورة النحل/93] يعود إلى الله لا إلى العبد كما زعمت القدرية بدليل قوله تعالى إخبارًا عن سيدنا موسى {إنْ هيَ إلا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بها مَنْ تشاءُ وتهدي مَن تشاءُ} [سورة الأعراف/155].

وكذلك قالت طائفةٌ ينتسبون إلى أمين شيخو الذين زعيمهم اليوم عبد الهادي الباني الذي هو بدمشق فقد جعلوا مشيئة الله تابعة لمشيئة العبد حيث إنّ معنى الآية عندهم إن شاء العبد الاهتداء شاء الله له الهدى وإن شاء العبد أن يضلّ أضلّه الله فكذبوا بالآية {وما تشاءونَ إلا أن يَشاءَ اللهُ} [سورة التكوير/29].

فإن حاول بعضهم أن يستدلّ بآيةٍ من القرءان لضدّ هذا المعنى قيل له القرءان يتصادق ولا يتناقض فليس في القرءان ءايةٌ نقيض ءايةٍ وليس هذا من باب الناسخ والمنسوخ لأنّ النسخ لا يدخل العقائد وليس موجبًا للتناقض فالنسخ لا يدخل في الأخبار إنما هو في الأمر والنهي. إنما النسخ بيان انتهاء حكم ءايةٍ سابقةٍ بحكم ءايةٍ لاحقةٍ، على أنّ هذه الفئة لا تؤمن بالناسخ والمنسوخ.

ومن غباوتهم العجيبة أنهم يفسرون قوله تعالى {وعلَّمَ ءادمَ الأسماءَ كُلَّها} [سورة البقرة/31] بأسماء الله الحسنى، فإن قيل لهم لو كانت الأسماء هي أسماء الله الحسنى لم يقل الله {فلمَّا أنبأَهُم بأسمائِهِم} [سورة البقرة/33] بل لقال فلمّا أنبأهم بأسمائي انقطعوا، لكنهم يصرّون على جهلهم وتحريفهم للقرءان.

وروى الحاكم رحمه الله تعالى أن علي الرضى بن موسى الكاظم كان يقعد في الروضة وهو شاب ملتحفٌ بمطرف خزّ فيسأله الناس ومشايخ العلماء في المسجد، فسئل عن القدر فقال: قال الله عز من قائل: {إنَّ المُجرِمينَ في ضلالٍ وسُعُرٍ* يومَ يُسْحَبونَ في النارِ على وُجوهِهِم ذُوقُوا مسَّ سَقر* إنَّا كلَّ شئٍ خلقْناهُ بقَدَرٍ} [سورة القمر/47-48-49] ثم قال الرضى: “كان أبي يذكر عن ءابائه أنّ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب كان

___________________________

يقول “إنّ الله خلق كلّ شئٍ بقدرٍ حتى العجزَ والكيس وإليه المشيئة وبه الحول والقوة” اهـ.

فالعباد منساقون إلى فعل ما يصدر عنهم باختيارهم لا بالإكراه والجبر كالريشة المعلقة تميلها الرياح يمنةً ويسرةً كما تقول الجبرية.

ولو لم يشأ الله عصيان العصاة وكفر الكافرين وإيمان المؤمنين وطاعة الطائعين لما خلق الجنة والنار.

ومن ينسب لله تعالى خلق الخير دون الشر فقد نسب إلى الله تعالى العجز ولو كان كذلك لكان للعالم مدبّران مدبر خيرٍ ومدبر شر وهذا كفرٌ وإشراكٌ.

وهذا الرأيُ السفيه من جهةٍ أخرى يجعل الله تعالى في ملكه مغلوبًا لأنه على حسب اعتقاده الله تعالى أراد الخير فقط فيكون قد وقع الشر من عدوه إبليس وأعوانه الكفار رغم إرادته.

ويكفر من يعتقد هذا الرأي لمخالفته قوله تعالى {واللهُ غالِبٌ على أمرِهِ} [سورة يوسف/21] أي لا أحد يمنع نفاذ مشيئته.

وحكم من ينسب إلى الله تعالى الخير وينسب إلى العبد الشر أدبًا أنه لا حرج عليه، أما إذا اعتقد أنّ الله خلق الخير دون الشرّ فحكمه التكفير.

واعلموا رحمكم الله أنّ الله تعالى إذا عذّب العاصي فبعدله من غير ظلم، وإذا أثاب المطيع فبفضله من غير وجوب عليه، لأن الظلم إنما يتصور ممن له ءامرٌ وناهٍ ولا ءامر لله ولا ناهي له، فهو يتصرف في ملكه كما يشاء لأنه خالق الأشياء ومالكها، وقد جاء في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد في مسنده والإمام أبو داود في سننه وابن حبان عن ابن الديلمي قال: “أتيت أبيّ ابن كعب فقلت يا أبا المنذر، إنه حدث في نفسي شئٌ من هذا القدر فحدّثني لعلّ الله ينفعني”، قال: “إنّ الله لو عذّب أهل أرضه وسمواته لعذّبهم وهو غير ظالم لهم ولو رحمهم كانت رحمته خيرًا لهم من أعمالهم، ولو أنفقت مثل أحدٍ ذهبًا في سبيل الله ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أنّ ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو متّ على غير هذا دخلت النار”. قال: ثم أتيت عبد الله بن مسعود فحدثني مثل ذلك، ثم أتيت حذيفة بن اليمان فحدثني مثل ذلك، ثم أتيت زيد بن ثابت فحدثني مثل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وروى مسلم في صحيحه والبيهقي في كتاب القدر عن أبي الأسود الدّؤلي قال: قال لي عمران بن الحصين أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه أشئٌ قضي عليهم ومضى عليهم من قدرٍ قد سبق أو فيما يستقبلون به ممّا أتاهم به نبيهم وثبتت الحجة عليهم؟ فقلت بل شئٌ قضي عليهم ومضى عليهم، قال فقال أفلا يكون ظلمًا، قال ففزعت من ذلك فزعًا شديدًا وقلت كلّ شئٍ خلقه وملك يده لا يسئل عما يفعل وهُم يُسألون، قال فقال لي يرحمك الله إني لم أرد بما سألتك إلا لأحزر عقلك، إنّ رجلين من مزينة أتيا رسول الله فقالا يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه أشئٌ قضي عليهم من قدرٍ قد سبق أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم وثبتت الحجة عليهم؟ فقال “بل شئٌ قضي عليهم ومضى عليهم”، ومصداق ذلك قول الله تبارك وتعالى {ونفسٍ وما سَوَّاها * فألهَمَها فُجُورَها وتَقْواها} [سورة الشمس/7-8].

وصحّ حديث: “فمن وجد خيرًا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه” رواه مسلمٌ من حديث أبي ذرّ عن النبي صلى الله عليه وسلم عن الله عز وجل.

أمّا الأول وهو من وجد خيرًا فلأنّ الله تعالى متفضلٌ عليه بالإيجاد والتوفيق من غير وجوبٍ عليه فليحمد العبد ربه على تفضّله عليه.

أما الثاني وهو من وجد شرًّا فلأنه تعالى أبرز بقدرته ما كان من ميل العبد السيء فمن أضلّه الله فبعدله ومن هداه فبفضله.

_________________________________

ولو أن الله خلق الخلق وأدخل فريقًا الجنة وفريقًا النار لسابق علمه أنهم لا يؤمنون لكان شأن المعذّب منهم ما وصف الله بقوله {ولَوْ أنَّا أهْلَكْناهُم بعذابٍ مِنْ قبلِهِ لِقالوا ربَّنا لولا أرْسَلْتَ إلينا رسُولاً فنَتَّبِعَ ءاياتِكَ مِن قبلِ أن نذِلَّ ونَخْزَى} [سورة طه/134].

فأرسل الله الرسل مبشرين ومنذرين ليظهر ما في استعداد العبد من الطّوع والإباء فيهلك من هلك عن بيّنةٍ ويحيا من حيّ عن بيّنةٍ.

فأخبرنا أنّ قسمًا من خلقه مصيرهم النار بأعمالهم التي يعملون باختيارهم، وكان تعالى عالمًا بعلمه الأزلي أنهم لا يؤمنون.

قال تعالى: {ولوْ شِئْنا لآتَيْنا كلَّ نفسٍ هُداها ولَكنْ حقَّ القولُ منِّي لأَملأنَّ جَهَنَّمَ منَ الجِنَّةِ والناسِ أجمعينَ} [سورة السجدة/13] أخبر الله تعالى في هذه الآية أنه قال في الأزل {ولوْ شِئنا لآتَينا كلُّ نفسٍ هُداها ولكنْ حقَّ القولُ مني لأملأنَّ جهنَّمَ منَ الجِنةِ والإنسِ أجمعين} وقوله صدقٌ لا يتخلّف لأنّ التخلف أي التغير كذبٌ والكذب محالٌ على الله.

قال تعالى {قُلْ فللهِ الحُجَّةُ البالغةُ فلوْ شاءَ لَهَداكُمْ أجمَعين} [سورة الأنعام/149] أي ولكنه لم يشأ هداية جميعكم إذ لم يسبق العلم بذلك.

فالعباد منساقون إلى فعل ما يصدر عنهم باختيارهم لا بالإكراه والجبر.

واعلم أنّ ما ذكرناه من أمر القدر ليس من الخوض الذي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه بقوله “إذا ذكر القدر فأمسكوا” رواه الطبراني، لأنّ هذا تفسيرٌ للقدر الذي ورد به النص، وأما المنهيُّ عنه فهو الخوض فيه للوصول إلى سره، فقد روى الشافعي والحافظ ابن عساكر عن علي رضي الله عنه أنه قال للسائل عن القدر “سرّ الله فلا تتكلف”، فلمّا ألحّ عليه قال له: “أمّا إذ أبيت فإنه أمرٌ بين أمرين لا جبرٌ ولا تفويضٌ”.

واعلم أيضًا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذمّ القدرية وهم فرقٌ، فمنهم من يقول العبد خالقٌ لجميع فعله الاختياري، ومنهم من يقول هو خالق الشر دون الخير وكلا الفريقين كفارٌ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “القدرية مجوس هذه الأمة” وفي رواية لهذا الحديث “لكل أمةٍ مجوسٌ، ومجوس هذه الأمة الذين يقولون لا قدر” رواه أبو داود عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وفي كتاب “القدر” للبيهقي وكتاب “تهذيب الآثار” للإمام ابن جرير الطبري رحمهما الله تعالى عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال “صنفان من أمتى ليس لهما نصيبٌ في الإسلام القدرية والمرجئة”. فالمعتزلة هم القدرية لأنهم جعلوا الله والعبد سواسيةً بنفي القدرة عنه عز وجل على ما يقدر عليه عبده، فكأنهم يثبتون خالقين في الحقيقة كما أثبت المجوس خالقين خالقًا للخير هو عندهم النور وخالقًا للشر هو عندهم الظلام.

والهداية على وجهين

أحدهما إبانة الحق والدعاء إليه، ونصب الأدلة عليه، وعلى هذا الوجه يصحّ إضافة الهداية إلى الرسل وإلى كل داعٍ لله كقوله تعالى في رسوله محمد صلى الله عليه وسلم {وإنَّكَ لتَهدي إلى صراطٍ مستقيم} [سورة الشورى/52].

وقوله تعالى {وأمَّا ثمودُ فَهَدَيناهُم فاستَحَبُّوا العَمَى على الهُدى} [سورة فصلت/17].

والثاني من جهة هداية الله تعالى لعباده، أي خلق الاهتداء في قلوبهم كقوله تعالى {فمَن يُرِدِ اللهُ أن يَهديَهُ يشرحْ صَدْرَهُ للإسلامِ ومَن يُرِدْ أن يُضِلَّهُ يجعلْ صدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [سورة الأنعام/125] والإضلال خلق الضلال في قلوب أهل الضلال فالعباد مشيئتهم تابعةٌ لمشيئة الله قال تعالى {وما تشاءونَ إلا أن يشاءَ اللهُ} [سورة الإنسان/30].

وذلكَ لأنَّ لكل واحدٍ من هؤلاء التسعةَ عشر من الأعوان ما لا يعلمه إلا الله (1).

________________________________

وهذه الآية من أوضح الأدلة على ضلال جماعة أمين شيخو لأنهم يقولون إن شاء العبد الهداية يهديه الله وإن شاء العبد الضلال يضله الله، فماذا يقولون في هذه الآية { فمَن يُرِدِ اللهُ أن يَهديَهُ يشرحْ صَدْرَهُ للإسلامِ} فإنها صريحةٌ في سبق مشيئة الله على مشيئة العبد لأنّ الله نسب المشيئة إليه وما ردّها إلى العباد. فأولئك كأنهم قالوا من يرد العبد أن يشرح صدره للإسلام يشرح الله صدره، ثم قوله {ومَن يردْ أن يُضِلَّهُ} فلا يمكن أن يرجع الضمير في يرد أن يضله إلى العبد لأن هذا يجعل القرءان ركيكًا ضعيف العبارة والقرءان أعلى البلاغة لا يوجد فوقه بلاغةٌ، فبان بذلك جهلهم العميق وغباوتهم الشديدة. وعلى موجب كلامهم يكون معنى الآية {فمَن يُرِدِ اللهُ أن يَهْدِيَهُ يشرَحْ صدرَهُ للإسلامِ} أن العبد الذي يريد أن يهديه الله يشرح الله صرده للهدى وهذا عكس اللفظ الذي أنزله الله، وهكذا كان اللازم على موجب اعتقادهم أن يقول الله والعبد الذي يريد أن يضلّه الله يجعل صدره ضيّقًا حرجًا، وهذا تحريفٌ للقرءان لإخراجه عن أساليب اللغة العربية التي نزل بها القرءان وفهم الصحابة القرءان على موجبها، والدليل على أنهم يفهمون القرءان على خلاف ما تفهمه هذه الفرقة اتفاق المسلمين سلفهم وخلفهم على قولهم “ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن”.

تقدير الله لا يتغير

اعلم أن تقدير الله تعالى الأزلي لا يغيره شئٌ لا دعوة داع ولا صدقة متصدقٍ ولا صلاة مصلٍ ولا غير ذلك من الحسنات بل لا بد أن يكون الخلق على ما قدّر لهم في الأزل من غير أن يتغير ذلك، وأما قول الله تعالى {يَمْحواْ اللهُ ما يشاءُ ويُثْبِتُ وعنْدَهُ أمُّ الكتابِ} [سورة الرعد/39] فليس معناه أنّ المحو والإثبات في تقدير الله، بل المعنى في هذا أنّ الله جلّ ثناؤه قد كتب ما يصيب العبد من عباده من البلاء والحرمان والموت وغير ذلك وأنه إن دعا الله تعالى أو أطاعه في صلة الرحم وغيرها لم يصبه ذلك البلاء ورزقه كثيرًا أو عمّره طويلاً، وكتب في أمّ الكتاب ما هو كائنٌ من الأمرين، فالمحو والإثبات راجعٌ إلى أحد الكتابين كما أشار إليه ابن عباس، فقد روى البيهقي عن ابن عباس في قول الله عز وجل {يَمحواْ اللهُ ما يشاءُ ويُثْبِتُ وعندَهُ أمُّ الكتابِ} قال: “يمحو الله ما يشاء من أحد الكتابين، هما كتابان يمحو الله ما يشاء من أحدهما ويثبت وعنده أم الكتاب” اهـ.

والمحو يكون في غير الشقاوة والسعادة، فقد روى البيهقي أيضًا عن مجاهد أنه قال في تفسير قول الله تعالى {فيها يُفْرَقُ كلُّ أمرٍ حكيمٍ} [سورة الدخان/4] “يفرق في ليلة القدر ما يكون في السنة من رزقٍ أو مصيبةٍ، فأمّا كتاب الشقاء والسعادة فإنه ثابتٌ لا يغيّر” اهـ.

فلذلك لا يصحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الدعاء الذي فيه: “إن كنت كتبتني في أمّ الكتاب عندك شقيًّا فامح عني اسم الشقاء وأثبتني عندك سعيدًا، وإن كنت كتبتني في أم الكتاب محرومًا مقترًا عليّ رزقي فامح عني حرماني وتقتير رزقي وأثبتني عندك سعيدًا موفقًا للخير فإنك تقول في كتابك {يَمْحواْ اللهُ ما يشاءُ ويُثْبِتُ وعنْدَهُ أمُّ الكتابِ} [سورة الرعد/39]” ولا ما أشبهه، ولم يصحّ هذا الدعاء أيضًا عن عمر ولا عن مجاهد ولا عن غيرهما من السلف كما يعلم ذلك من كتاب القدر للبيهقي. وليعلم أن مشيئة الله وتقديره لا يتغيران لأن التغير مستحيلٌ على الله. وأما حديث “لا يرد القدر شئ إلا الدعاء” فهذا راجعٌ إلى القدر المعلق ليس إلى القدر المبرم.

  • قال المفسر محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي في تفسيره “الجامع لأحكام القرءان” دار الفكر، الطبعة الأولى (19/82) ما نصه: “{وما يعلمُ جُنودَ ربكَ إلا هُوَ}، أي وما يدري عدد ملائكة ربك الذين خلقهم لتعذيب أهل النار إلا هو أي إلا الله جل ثناؤه” اهـ.

وقال المفسر الحسين بن مسعود البغوي في تفسير المسمى “معالم التنزيل” طبعة دار المعرفة- بيروت، الطبعة الثالثة في سنة 1413هـ، (4/417) ما نصه: “قال عطاء: {وما يعلمُ جُنُودَ ربِّكَ إلا هُوَ} يعني من الملائكة الذين خلقهم لتعذيب أهل النار، لا يعلم عدّتهم إلا الله، والمعنى: إن تسعة عشر هم خزنة النار، ولهم من الأعوان والجنود من الملائكة ما لا يعلم إلا الله عز وجل” اهـ.

قال الشيخ رضي اللهُ عنه: “الجنود بمعناه أي العباد الطائعون له العاملون بأمره”.

 

  • {وما هِيَ إلا ذِكرى للبَشَرِ}: أي ما النارُ في الدنيا إلا مذكرةٌ لنار الآخرةِ وقيل يعني ءاياتُ القرءان ومواعظُهُ تذكرةٌ للناس.
  • {كلا}: أي لا يتعظونَ ولا يتذكرونَ وقيل معناه ليس الأمرُ كما زعم أنه يكفي أصحابه خزنةَ النار وقيل كلا هنا بمعنى حقًا.
  • {والقمرِ* والليلِ إذْ أدْبَرَ}: أي ولَّى ذاهبًا. وقيلَ أدبرَ بمعنى أقبلَ فالليلُ يأتي خلفَ النهارِ.
  • {والصبحِ إذا أسْفَرَ}: أي أضاءَ وتبيَّنَ.
  • {إنَّها لإحْدى الكُبَرِ}: أي إنَّ سقر لإحدى الأمور العِظام.
  • {نَذيرًا للبَشَرِ}: قيل يحتمل أن يكونَ نذيرًا صفةً للنارِ والمعنى أن النار نذيرٌ للبشر قال الحسن: “واللهُ ما أنذرَ بشئٍ أدهى من النار”. وقيل: يجوزُ أن يكون نذيرًا صفةً للهِ والمعنى أنا لكم منها نذيرٌ فاتقوها وقيل هو صفة للنبي صلى الله عليه وسلم ومعناه يا أيها المدثر قم نذيرًا للبشر فأنذر.

________________________________

هذا معنى الآية، الملائكة جنود الله أي يطيعونه في ما أمرهم ولا يعصونه، قال الله تعالى {لا يعصُونَ اللهَ ما أمرَهُم ويُفْعَلونَ ما يُؤمَرون} [سورة التحريم/6]، ليس معنى الجنود في هذه الآية أن الله يحتاج إليهم أو يستعين بهم كما أن الملك أو السلطان يحتاج إلى جنوده ويستعين بهم، الآية {جُنُودَ ربِّكَ} ليس معناها أنهم أعوانه كما حرّف وادّعى وافترى إمام المشبهة والمجسمة ابن تيمية الحراني في كتابيه “مجموع الفتاوى” المجلد الخامس (ص507)، والمسمى “بيان تلبيس الجهمية” (6/36) حيث قال: “أنه سبحانه يفعل ذلك بجنوده وأعوانه من الملائكة” اهـ.

ابن تيمية هذا يسمي الملائكة “أعوان الله” والعياذ بالله من الكفر. وقد قال الله تعالى {ومَن كفرَ فإنَّ اللهَ غنيٌّ عنِ العالَمين} [سورة ءال عمران/97]، أي مستغنٍ عن كل ما خلق، وقال تعالى {وهُوَ الواحِدُ القَهَّارُ} [سورة الرعد/16]، فالله تعالى لا معين ولا ءامر له، ولا شبيه ولا نظير له، ولا وزير ولا مشير له، ولا ضدّ ولا مغالب ولا مكره له، ولا ندّ ولا مثل له.

ولقد دافع عن هذا المنكر القبيح والكفر الصريح، الذنب الوهابي الجوال المدعو عبد الرحمن دمشقية في تسجيل له بالصوت والصورة نشره على الإنترنت حيث أوّل كفر شيخه وإمامه في التجسيم والتشبيه، فقط لأنه صدر من ابن تيمية، المجسمة المشبهة يؤولون الكفر الصريح لمشايخهم.

فيا لفضيحة الوهابية!!! لأيّ شئٍ يكفّرون المسلمين؟!! كيف ينكرون على المسلمين استعانَتَهم بالأنبياء والأولياء والصالحين، ولا ينكِرون على إمامِهم المجسم ابن تيمية نسبة الأعوانِ لله بل يؤولون له، أليسَ الأولى بهم أن يحذِّروا منه حيث نسبَ لله الأعوان من الملائكة الذين هم أولياء، بدلَ أن ينفِقوا الأموال الطائلة في سبيل تكفير المسلمين حيث استعانوا بالأنبياء والأولياء؟!!

 

  • {لِمَنْ شاءَ مِنكُم أن يَتَقَدَّمَ أو يَتأخَّرَ}: أي يتقدَّمَ في الخيرِ والطاعةِ أو يتأخرَ عنهما فيقعَ في الشرّ والمعصيةِ.
  • {كلُّ نفسٍ بِما كَسَبَتْ رَهينةٌ}: أي مُرتَهَنَةٌ في النارِ بكسبِها ومأخوذةٌ بعملها.
  • {إلا أصحابَ اليَمينِ}: فإنهم غيرُ مُرتَهنين بذنوبهم في النارِ ولكنَّ اللهَ يغفرها لهم وقيل معناه فَكُّوا رقابَ أنفسهم بأعمالهم الحسنة كما يفُكُّ الراهنُ رهنَهُ بأداءِ الحقِّ الذي عليه. واختلفوا في أصحابِ اليمينِ فقيل هم المؤمنون المخلصون وقيل أطفالُ المسلمين وقيل هم الملائكة.
  • {في جَنَّاتٍ}: أي هم في بساتينَ.
  • {يَتَساءَلونَ* عنِ المُجرِمينَ}: يسألُ بعضُهم بعضًا عنهم وعن حالِهم ويقولونَ لهم بعد إخراجِ الموحّدينَ من النار.
  • {ما سَلَكَكُمْ في سَقَرَ}: قال المفسرون: سلككم بمعنى أدخلكم. وقال مقاتل: “ما حبَسكم بها” وسقر اسم من أسماء جهنم.
  • {قالُوا لمْ نَكُ مِنَ المُصَلِّينَ}: أي لله في الدنيا.
  • {ولمْ نَكُ نُطْعِمُ المِسكينَ}: أي لم نتصدقُ عليهِ.
  • {وكُنَّا نخُوضُ معَ الخائِضينَ}: أهلِ الباطلِ والتكذيبِ والخوضُ هو الشروعُ في الباطلِ.
  • {وكُنَّا نُكَذِّبُ بيومِ الدينِ}: أي بيوم الجزاءِ والحساب.
  • {حتى أتانا اليقينُ}: وهو الموتُ.
  • {فما تنفَعُهُمْ شفاعةُ الشافِعينَ}: من الملائكةِ والنبيين والصالحين لأنها للمؤمنين دون الكافرين وفيه دليلُ ثبوتِ الشفاعةِ للمؤمنين وفي الحديث: “إن من أمتي مَنْ يدخلُ الجنةَ بشفاعتِهِ (1) أكثرُ من ربيعة ومضر”.
  • {فما لَهُم عَنِ التذكرةِ مُعْرِضينَ}: يعني كفارَ مكة حين نفروا من القرءانِ والتذكيرِ بمواعظه والمعنى لا شئ لهم في الآخرةِ إذ أعرضوا عن القرءانِ فلم يؤمنوا به ثم شبههم بنفورهم عنه بالحُمُرِ فقال تعالى:
  • {كأنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنفِرةٌ}: بفتحِ الفاء وكسرها ومن قرأ بفتح الفاء أراد مذعورة استُنفرت فنَفرت ومن قرأ بكسر الفاء أراد نافرة.
  • {فرَّتْ مِن قَسْوَرَة}: قال ابن عباس رضي الله عنهما: “الحمر الوحشية إذا عاينَت الأسدَ هربت منه فكذلك هؤلاء المشركون إذا سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم هربوا منه” وإلى هذا ذهب أبو عبيدة والزجاج. قال بعضهم: كأنه من القسر والقهر والأسد يقهر السباع. وقيل إن القَسْوَرة الرماةُ وقيلَ حبالُ

__________________________

  • بعض العلماء فسره بعثمان بن عفان.

الصيادين.

  • {بَلْ يُريدُ كلُّ امرئٍ مِنهُم أن يُؤتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً}: فيها ثلاثة أقوال:

أحدها أنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم إن سرَّكَ أن نتَّبِعَكَ فليصبح عند كل رأس رجلٍ منا كتابٌ منشورٌ من الله تعالى إلى فلانِ ابنِ فلان يُؤمرُ فيه باتباعكَ قاله الجمهور.

والثاني: أنهم أرادوا براءةً من النار أن لا يعذبوا بها.

والثالث أنهم قالوا كان الرجل إذا أذنب في بني إسرائيل وجدَهُ مكتوبًا إذا أصبح في رُقعةٍ فما بالنا لا نجد ذلك فنزلت هذه الآية، قاله الفراء فقال الله تعالى:

  • {كلا}: أي لا تُؤثِرونَ الصحفَ.
  • {بلْ لا يَخافُونَ الآخرةَ}: أي لا يخشَونَ عذابَها والمعنى أنهم لو خافوا النار لما اقترحوا الآياتِ بعد قيامِ الدلالة.
  • {كلا}: أي حقًّا وقيل معنى كلا ليس الأمر كما يريدون ويقولون.
  • {إنَّهُ تَذْكِرةٌ}: أي تذكيرٌ وموعظةٌ.
  • {فَمَن شاءَ ذَكَرهُ}: الهاء عائدةٌ على القرءانِ فالمعنى فمن شاء أن يذكر القرءان ويتعظَ بهِ ويفهمه ذكرَهُ ثم ردّ المشيئةَ إلى نفسهِ فقال تعالى:
  • {وما يَذكُرونَ إلا أن يشاءَ اللهُ}: أي إلا أن يريد لهم الهدى.
  • {هُوَ أهلُ التقوى}: أي أهلٌ أن يُتَّقى.
  • {وأهلُ المغفرةِ}: أي أهلٌ أنْ يغفر لمن تابَ. وروى أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تلا هذه الآية فقال: “قال ربكم عز وجل أنا أهلٌ أن أُتَّقَى فلا يُشْرَكُ بي غيري وأنا أهلٌ لمن اتقى أن يُشرِكَ بي غيري أن أغفر له”. رواهُ أحمد والترمذي والحاكم وابن ماجه والطبراني وأبو يعلى والبزار وهو ضعيف كما قال الحافظ ابن حجر.