الأحد ديسمبر 7, 2025

سورة المُزَّمِّل

وهي مكيةٌ كلها بإجماعهم إلا أنه قد رُوي عن ابن عباس أنه قال: “سوى ءايتين فيها، قوله تعالى {واصْبِرْ على ما يقولون} والتي بعدها. وقال ابن يَسار ومقاتلٌ: “فيها ءاية مدنية، وهي قوله تعالى {إنَّ ربَّكَ يعْلَمُ أنَّكَ تَقُومُ أدْنى}. وءاياتها عشرون.

بسم الله الرحمن الرحيم

  • {يا أيُّها المُزَّمِّلُ}: هذا خطابٌ للنبيِّ وأصلُهُ المتزمل وهو الذي تزمَّلَ في ثيابهِ أي تلففَ. وقيل: خرجَ النبيّ يومًا من البيتِ وقد لبسَ ثيابهُ فناداه جبريل يا أيها المزّمّل وقيل معناه: متزملُ النبوةِ أي حاملُها وقيل كان النبيّ قد نامَ وهو متزمّلٌ في ثوبهِ فنودي يا أيّها المزّمّل.
  • {قُمِ الليلَ}: أي للصلاةِ وكان قيامُ الليلِ فريضةً في ابتداءِ الإسلامِ.
  • {إلا قليلاً}: أي صلِّ الليلَ إلا قليلاً تنامُ فيه وهو الثلثُ ثم بين قدر القيامِ فقال تعالى:
  • {نِصْفَهُ}: أي قم نصفَ الليلِ.
  • {أوِ انقُصْ منهُ قليلاً}: أي إلى الثلثِ.
  • {أوْ زِدْ عليهِ}: أي على النصفِ إلى الثلثينِ خيَّره بين هذه المنازل فكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابُه يقومون على هذه المقاديرِ وكانَ الرجلُ منهم لا يدري متى ثلث الليل أو متى نصفه أو متى ثلثه فكان يقوم الليلَ كله حتى يصبح مخافة أن لا يحفظ القدرَ الواجبَ واشتد عليهم ذلك حتى انتفخت أقدامُهم (1) فرحمهم اللهُ وخفَّفَ عنهم ونسخَها عنهم بقوله: فاقرؤا ما تيسر منه. وقيل: ليس في القرءان سورة نسخَ ءاخرُها أولها إلا هذه السورة وكانَ بين نزول أولها ونزول ءاخرها سنة وقيل ستة عشر شهرًا وكان قيامُ الليلِ فرضًا ثم نسخ بعد ذلك وذهب قوم إلى أنه نسخَ قيام الليل في حقّ النبي صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {ومِنَ الليلِ فتَهَجَّدْ بهِ نافِلةً لكَ}. ونسخ في حق المؤمنين بالصلواتِ الخمس وقيلَ نُسخ عن هذه الأمةِ وبقي عليه فرضُهُ وقيل إنما كان مفروضًا عليه دونهم.

__________________

  • هذا الانتفاخ يذهب بعد قليل من الراحة ولم يكن إلى حد الإضرار بالنفس.
  • {ورَتِّلِ القُرءانَ تَرْتيلاً}: قال ابن عباس رضي الله عنهما: “بيِّنْهُ أي بيّنهُ بيانًا”. وقيلَ الترتيلُ هو التوقفُ والترسُّلُ والتمهلُ والإفهامُ وتبيينُ القراءةِ حرفًا حرفًا. وقيل: أي اقرأه على تمهل فإنه يكون عونًا على فهم القراءةِ وتدبره.
  • {إنَّا سَنُلقي عليكَ قَولاً ثقيلاً}: وهو القرءانُ وفي معنى ثِقله أقوال:

أحدها: أنه كان يثقُلُ عليه إذا أوحيَ إليهِ وهذا قولُ عائشة رضي الله عنها.

والثاني: أن العملَ بهِ ثقيلٌ في فروضِهِ وأحكامهِ قاله الحسن.

والثالث: أنه يثقلُ في الميزانِ يومَ القيامةِ.

  • {إنَّ ناشِئَةَ الليلِ}: أي ساعاتِهِ كُلُّها وكلُّ ساعةٍ منه ناشئةٌ لأنها تنشأ عن التي قبلها وقيل الناشئة القيامُ بعد النومِ وقيل كلُّ صلاةٍ بعد العشاءِ الآخرةِ فهي ناشئةُ الليلِ وقيل ناشئةُ الليلِ قيامُهُ.
  • {هيَ أشَدُّ وَطْئًا}: قيل أي أشدُّ على المصلي وأثقل من صلاةِ النهار لأن الليلَ جُعلَ للنومِ والراحةِ فكانَ قيامُهُ على النفسِ أشدَّ وأثقلَ. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: “كانت صلاتُهم أولَ الليلِ هي أشدَّ وَطْئًا”.
  • {وَأَقْوَمُ قِيلاً}: أي أصوبُ قراءةً وأصحُّ قولاً من النهارِ لهدأةِ الناسِ وسكونِ الأصواتِ. وقيل معناهُ أبينُ قولاً بالقرءان.
  • {إنَّ لكَ في النهارِ سَبْحًا طويلاً}: أي فراغًا لنومِكَ وراحتِكَ فاجعلْ ناشئةَ الليلِ لعبادتِك. قاله ابن عباس.
  • {واذْكُرِ اسمَ ربِّكَ}: أي بالتوحيدِ والتعظيمِ والتقديسِ والتسبيحِ.
  • {وتَبَتَّلْ إليهِ تبتيلاً}: قال مجاهد: “أخْلِصْ له إخلاصًا”. وقال الزجاج: “انقطعْ إليهِ في العبادةِ ومنه قيل لمريم “البتول” لأنها انقطعت إلى الله تعالى في العبادة”.
  • {ربُّ المَشْرِقِ والمَغربِ لا إلهَ إلا هُوَ فاتَّخِذْهُ وَكيلاً}: أي فوِّضْ أمركَ إليهِ وتوكَّل عليه. وقيل معناه اتخذ يا محمد ربَّكَ كفيلاً بما وعدَكَ من النصرِ على الأعداءِ.
  • {واصبِرْ على ما يقُولونَ}: أي كفارُ مكةَ من التكذيبِ لكَ والأذى.
  • {واهْجُرهُم هَجْرًا جميلاً}: أي واعتزلهم اعتزالاً حسنًا لا جَزَعَ فيه وهذه الآية منسوخة بآية القتال.
  • {وَذَرني والمُكَذِّبينَ}: أي لا تهتم بهم فأنا أكفيكَهُم وهم رؤساءُ قريش.
  • {أُوْلي النعمةِ}: أي أصحاب النعم والترفّه.
  • {ومَهِّلْهُمْ قليلاً}: يعني إلى يوم بدر فلم يكن إلا يسيرٌ حتى قتلوا ببدر.
  • {إنَّ لدينا}: أي عندنا في الآخرة.
  • {أنكالاً}: يعني قيودًا عِظامًا ثِقالاً لا تنفكُّ أبدًا وقيل أغلالاً من حديد.
  • {وجحيمًا* وطعامًا ذا غُصَّةٍ}: وهو الذي لا يَسُوغُ في الحلقِ وفيه للمفسرين أربعةُ أقوال:

أحدُها: أنه شوكٌ يأخذُ الحلقَ فلا يدخلُ ولا يخرجُ.

والثاني: الزقومُ.

والثالثُ: الضريعُ.

والرابع: الزقومُ والغِسلينُ والضريع.

  • {وعَذابًا أليمًا* يومَ ترْجُفُ الأرضُ والجِبالُ}: أي تزَلزَلُ وتحركُ أغلظَ حركةٍ.
  • {وكانتِ الجِبالُ كثِيبًا مَهيلاً}: قال مقاتل: وصارت بعد الشدةِ كثيبًا أي رملاً مجتمعًا ومهيلاً سائلاً بعد اجتماعهِ.
  • {إنَّا أرْسَلنا إليكُم}: يعني أهل مكة.
  • {رسولاً}: يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم.
  • {شاهِدًا عليكُم}: بالتبليغِ وإيمانِ من ءامن وكفرِ من كفر.
  • {كما أرسَلنا إلى فرعَونَ رسولاً}: وهو موسى عليه السلام.
  • {فعَصَى فرعَونُ الرسولَ}: أي ذلكَ الرسول.
  • {فأخَذْناهُ أخْذًا وبِيلاً}: والمرادُ بهذا الأخذِ الوبيل الغرقُ وهذا تخويفٌ لكفارِ مكة أن ينزلَ بهم العذابُ لتكذيبهم كما نزل بفرعون.
  • {فكيفَ تَتَّقُونَ إن كَفَرتُمْ يومًا يجْعَلُ الوِلْدانَ شيبًا}: قال الزجاجُ: “المعنى بأي شئٍ تتحصنون من عذابِ يومٍ من هولِهِ يشيبُ الصغيرُ من غير كِبرٍ” اهـ.
  • {السماءُ مُنفَطِرٌ بهِ}: وصفٌ لليومِ بالشدةِ. أي السماءُ على عظمها وإحكامها تنفطر به أي تنشق فما ظنك بغيرها من الخلائق.
  • {كانَ وعْدُهُ مَفْعُولاً}: وذلك أنه بالبعثِ فهو كائنٌ لا محالةَ.
  • {إنَّ هذهِ}: يعني ءاياتِ القرءانِ.
  • {تَذْكِرَةٌ}: أي تذكيرٌ وموعظةٌ.
  • {فَمَن شاءَ اتَّخَذَ إلى ربِّهِ سَبيلاً}: أي فمن شاءَ اتعظَ بها واتخذ سبيلاً إلى اللهِ بالتقوى والخشيةِ.
  • {إنَّ ربكَ يعلمُ أنَّكَ تقومُ أدْنى}: أي أقلَّ.
  • {من ثُلُثَي الليلِ ونِصْفَهُ وثُلُثَهُ}: أي تقومُ نصفَهُ وثلثه.
  • {وطائِفةٌ منَ الذينَ معكَ}: يعني المؤمنينَ وكانوا يقومونَ معه الليل.
  • {واللهُ يُقَدِّرُ الليلَ والنهارَ}: يعني أنَّ العالِمَ بمقاديرِ الليلِ والنهارِ وأجزائهما وساعاتهما هو الله تعالى لا يفوتُه علمُ ما يفعلون فيعلمُ القدرَ الذي يقومون من الليلِ والذي ينامون منه.
  • {عَلِمَ أن لن تُحْصُوهُ}: فيه قولان:

أحدهما: لن تطيقوا قيامَ ثلثي الليل ولا نصفَ الليلِ ولا ثلثه قاله مقاتل.

والثاني لن تحفظوا مواقيت الليل. قاله الفراء.

  • {فتابَ علَيكُم}: أي عادَ عليكم بالمغفرةِ والتخفيفِ.
  • {فاقْرَءوا ما تَيَسَّرَ منَ القُرءان}: فيه قولان:

أحدهما: أن المرادَ بهذه القراءةِ القراءةُ في الصلاةِ وذلك لأن القراءةَ أحدُ أجزاءِ الصلاةِ فأطلق اسم الجزءِ على الكلِ والمعنى فصلوا ما تيسَّر عليكم وقال الحسن: “يعني في صلاةِ المغرب والعشاء”. قال قيس بن أبي حازم: “صليتُ خلفَ ابن عباس بالبصرةِ فقرأ في أول ركعةٍ بالحمدُ وأول ءاية من البقرة ثم قامَ في الثانية فقرأ بالحمد والآية الثانية من البقرة ثم ركع فلما انصرفَ أقبلَ علينا بوجهه فقال: “إن الله تعالى يقول فاقرؤوا ما تيسر منه”. وقيل نسخَ ذلك التهجدَ واكتفى بما تيسر ثم نسخ ذلك أيضًا بالصلوات الخمس وذلك في حق الأمةِ قيامُ الليل في حقه صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {ومِنَ الليلِ فتَهَجَّدْ بهِ نافلةً لكَ}.

القول الثاني أن المراد بقوله: فاقرؤوا ما تيسر من القرءان دراسته وتحصيلُ حفظه وأن لا يعرَّضَ للنسيان فقيل يقرأ مائة ءاية ونحوها وقيل إن قراءة السورة القصيرة كافية. روى البَغوي بإسنادهِ عن أنس رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “من قرأ خمسين ءاية في يومٍ أو ليلةٍ لم يُكتَب من الغافلينَ ومن قرأ مائة ءاية كتبَ من القانتين ومن قرأ مائتي ءايةٍ لم يحاجُّهُ القرءانُ يوم القيامة ومن قرأ خمسمائة ءاية كنت له قنطارٌ من الأجر”. وذكره الشيخ محي الدين في كتابه الأذكار ولم يضعفه. وقال في رواية: “من قرأ أربعين ءاية” بدل خمسين وفي رواية: “عشرين” وفي رواية عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من قرأ عشر ءاياتٍ لم يكتب من الغافلين”. ثم ذكر أعذارهم فقال تعالى:

  • {عَلِمَ أن سَيَكونُ مِنكُم مرضَى}: فلا يطيقون قيامَ الليلِ.
  • {وءاخَرونَ يَضْرِبُونَ في الأرضِ}: وهم المسافرونَ للتجارة.
  • {يبْتَغُونَ من فضلِ اللهِ}: أي من رزقهِ فلا يطيقونَ قيامَ الليل.
  • {وءاخَرُونَ يُقاتِلونَ في سبيلِ الله}: وهم المجاهدونَ فلا يطيقونَ قيامَ الليل.
  • {فاقْرَءوا ما تيسَّرَ منهُ}: أي من القرءانِ وإنما أعادهُ للتأكيدِ.
  • {وأقيمُوا الصلاةَ}: أي الصلواتِ الخمسَ في أوقاتها.
  • {وءاتُوا الزكاةَ}: أي المفروضةِ.
  • {وأقْرِضُوا اللهَ قرْضًا حسَنًا}: قال ابن عباس رضي الله عنهما: “يريد سوى الزكاة من صلة الرحمِ وقِرَى الضيف”. وقيل يريد سائرَ الصدقات وذلك بأن يخرجها على أحسنِ وجهٍ من كسبٍ طيبٍ ومن أكثر الأموال نفعًا للفقراء ومراعاة النيةِ والإخلاصِ وابتغاءِ مرضاةِ اللهِ تعالى بما يخرِجُ ولصرفِ إلى المستحق.
  • {وما تُقَدِّمُوا لأنفُسِكُم من خيرٍ تَجِدُوهُ عندَ اللهِ}: أي تجدوا ثوابَهُ في الآخرةِ.
  • {هُوَ خيرًا}: قال المفسرون: ومعنى خيرًا أي أفضلُ مما أعطيتُمْ.
  • {وأعْظَمُ أجرًا}: من الذي تؤخرونه إلى وقتِ الوصيةِ عند الموت.
  • {واسْتَغفِروا اللهَ}: سَلُوا الله غفرانَ ذنوبكم يصفح عنها.
  • {إنَّ اللهَ غفورٌ رحيمٌ}: إن الله ذو مغفرةٍ لذنوبِ من تابَ من عبادِهِ من ذنوبهِ وذو رحمة أن يعاقبهم عليها من بعد توبَتهم منها.