الأحد ديسمبر 22, 2024

سورة الحاقة

وهي مكية كلها بإجماعهم وهي اثنان وخمسون ءاية

بسم الله الرحمن الرحيم

  • {الحاقَّةُ}: القيامةُ. قال الفرّاءُ: “إنما قيلَ لها الحاقةُ لأن فيها حوَاقَّ الأمورِ”. وقال الزجاجُ: “إنما سُميت الحاقةُ لأنها تحقّ كل إنسانٍ بعملِهِ من خيرٍ وشرٍ”.
  • {ما الحاقَّةُ}: هذا استفهامٌ معناهُ تفخيمٌ لشأنها كما تقولُ زيدٌ وما زيدٌ على التعظيمِ لشأنِهِ. ثم زادَ في التهويلِ بأمرِها فقالَ تعالى:
  • {وما أدراكَ ما الحاقَّةُ}: أي لأنكَ لم تعايِنْها ولم تدرِ ما فيها من الأهوالِ. ثم أخبرَ عن المكذبينَ بها فقال تعالى:
  • {كذَّبَتْ ثَمُودُ وعاد بالقارعةِ}: قال ابنُ عباس رضي الله عنهما: “القارعةُ اسمٌ من أسماءِ يومِ القيامةِ”. قال مقاتلٌ: “وإنما سميت بالقارعةِ لأنّ الله يقرعُ أعداءَهُ بالعذابِ”. وقيل: القارعةُ القيامةُ لأنها تقرَعُ، يقال أصابتهم قوارعُ الدهر.
  • {فأمَّا ثمودُ فأُهْلِكُوا بالطاغيةِ}: قيل: بطُغيانهم وكفرِهِم قالهُ ابنُ عباس ومقاتلٌ ومجاهدٌ وقيل بالصيحةِ الطاغيةِ قاله مقاتل وذلكَ أنها جاوزتْ مقدارَ الصياحِ فأهلكَتهم.
  • {وأما عادٌ فأُهْلِكُوا بريحٍ صَرْصَرٍ}: شديدةِ الصوتِ في الهبوبِ.
  • {عاتِيَةٍ}: قويةٍ شديدةٍ على عادٍ فلم يقدروا على دفعِها عنهم بقوةٍ ولا حيلةٍ مع قوتهم وشدتهم.
  • {سَخَّرَها عليهِم}: أرسَلَها وسلَّطها عليهم وفيه ردٌّ على من قال إن سببَ ذلك كانَ باتصال الكواكب فنفى هذا المذهبَ بقوله: سخّرها عليهم وبيّنَ اللهُ تعالى أن ذلكَ بقضائِهِ وقدرِهِ ومشيئتِهِ لا باتّصال الكواكبِ.
  • {سبعَ ليالٍ وثمانيةَ أيامٍ}: قيل: أولُها من صبح يوم الأربعاء لثمانٍ بقينَ من شوالٍ وكانت في عجزِ الشتاءِ.
  • {حُسومًا}: مُتتابعاتٍ ليسَ فيها فتورٌ ولا انقطاعٌ.
  • {فترَى القَوْمَ فيها}: أي في تلكَ الليالي والأيام.
  • {صَرْعَى}: هَلْكَى جمعُ صريعٍ قد صرَعَهُم الموتُ.
  • {كأنَّهُم أعجازُ نَخْلٍ}: أي أًصولُ نخلٍ.
  • {خاوِيةٍ}: ساقطةٍ وفارغةٍ وباليةٍ.
  • {فهَلْ ترى لهُم من باقيةٍ}: فيها ثلاثةُ أقوالٍ:

أحدُها: من بقاءٍ. قال الفرّاء.

والثاني: من بقيةٍ. قاله أبو عبيدة.

والثالث: هل ترى لهم من أثرٍ.

  • {وجاءَ فرعَونُ ومَن قَبْلَهُ}: قُرِئَ بكسر القاف وفتح الباء أي ومن معه من جنودهِ وأتباعِهِ. وقُرئَ بفتح القافِ وسكونِ الباءِ أي ومن قبلَهُ من الأممِ الكافرةِ.
  • {والمُؤتَفِكاتُ}: يعني قُرى قومِ لوطٍ ويريدُ أهلَ المؤتفكات.
  • {بالخاطِئةِ}: الخطيئةِ والمعصيةِ وهو الشّركُ.
  • {فعَصَوا رسولَ ربِّهِم}: أي كذَّبوا رسُلَهُم.
  • {فأخَذَهُمْ أخذَةً رابيةً}: زائدةً في الشِّدَّةِ على غيرِها.
  • {إنَّا لمَّا طَغَا الماءُ}: أي تجاوزَ حدَّهُ حتى علا على كلّ شئٍ في زمنِ نوح.
  • {حَمَلْناكُم}: يعني حملنا ءاباءَكُم وأنتُم في أًصلابِهِم.
  • {في الجاريةِ}: وهي السفينةُ التي تجري في الماء (1).

___________________________

  • بناء سيدنا نوح للسفينة ونزول العذاب بالكفار

لبثَ سيدنا نوح في قومه يدعوهم إلى الإسلام ألف سنة إلا خمسين عامًا قال تعالى {فَلَبِثَ فيهِمْ ألفَ سنةٍ إلا خمسينَ عامًا} [سورة العنكبوت/14]، وكان قومه يبطشون به فيخنقونه حتى يغشى عليه، حتى تمادوا في معصيتهم وعظمت منهم الخطيئة فلا يأتي قرن إلا كان أخبث من الذي كان قبله، حتى إن كان الآخر ليقول: قد كان هذا مع ءابائنا وأجدادنا مجنونًا لا يقبلون منه شيئًا. ومن جملة ما قال لهم {ولا يَنفَعُكُمْ نُصْحي إنْ أردْتُ أنْ أنصحَ لكُمْ إن كانَ اللهُ يُريدُ أن يُغويَكُم} [سورة هود/34] أي أن الله هو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء، ولكن اليأس لم يدخل قلب نوح بل أخذ يجاهد في إبلاغ الرسالة ويبسط لهم البراهين، ولم يؤمن به إلا جماعة قليلة استجابوا لدعوته وصدقوا برسالته.

ثم إن الله أوحى إليه أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد ءامن قال تعالى {وأُوحِيَ إلى نوحٍ أنَّهُ لن يُؤمنَ من قَومِكَ إلا مَنْ قد ءامَنَ} [سورة هود/36]، فلما يئسَ من إيمانهم دعا عليهم فقال {وقالَ نوحٌ ربِّ لا تَذَرْ على الأرضِ منَ الكافرينَ دَيَّارًا* إنَّكَ إن تَذَرْهُم يُضِلُّوا عبادَكَ ولا يَلِدُوا إلا فاجِرًا كفَّارًا} [سورة نوح/26-27] فلما شكا إلى الله واستنصره عليهم أوحى الله إليه {واصْنَعِ الفُلْكَ بأعْيُنِنا وَوَحْيِنا ولا تُخاطِبني في الذينَ ظَلَمُوا إنَّهُم مُغْرَقُون} [سورة هود/37]، قال تعالى: {ولقد نادانا نوحٌ فَلَنِعْمَ المُجيبُون* ونَجَّيْناهُ وأهلَهُ منَ الكَرْبِ العظيمِ} [سورة الصافات/75-76].

فأٌقبل نوح على عمل السفينة وجعل يهئ عتاد الفلك من الخشب والحديد والقار وغيرها، وجعل قومه يمرون به

  • {لِنَجْعَلها}: هذه الفعلةَ وهي إنجاءُ المؤمنينَ وإهلاكُ الكافرينَ.

_____________________

وهو في عمله فيسخرون منه وكانوا لا يعرفون الفلك قبل ذلك، ويقولون: يا نوح قد صرت نجارًا بعد النبوة! وأعقم الله أرحام النساء فلا يولد لهن. وصنع الفلك من خشب الساج وقيل غير ذلك، ويقال إن الله أمره أن يجعل طوله ثمانين ذراعًا وعرضه خمسين ذراعًا، وطوله في السماء ثلاثين ذراعًا. وقيل: كان طولها ألف ذراع ومائتي ذراع وعرضها  ستمائة ذراع، وقيل غير ذلك والله أعلم.

ويقال إن نوحًا جعل الفلك ثلاث طبقات: سفلى ووسطى وعليا، السفلى للدواب والوحوش، والوسطى للناس، والعليا للطيور، حتى إذا فرغ منه وقد عهد الله إليه {حتى إذا جاءَ أمرُنا وفارَ التَّنُّورُ قُلنا احْمِلْ فيها مِن كلِّ زَوجَينِ اثنَينِ وأهلكَ إلا مَنْ سبقَ عليهِ القولُ ومَنْ ءامنَ وما ءامنَ معهُ إلا قليلٌ} [سورة هود/40] وقد جعل التنور ءاية، وقيل: إنه طلوع الشمس، وكان تنورًا من حجارة كانت لحواء، وقيل: كان تنورًا من أرض الهند، وقيل: بالكوفة، وأخبرته زوجته بفوران الماء من التنور، ولما فار التنور حمل نوح مَن أمر الله بحمله وكانوا ثمانين رجلاً، وقيل غير ذلك. وكان فيها نوح وثلاثة من بنية سام وحام ويافث وأزواجهم وتخلف عنه ابنه قيل اسمه يام وقيل كنعان وكان كافرًا. ويقال إن نوحًا حمل معه جسد ءادم عليه السلام، وقال تعالى {وقالَ ارْكَبُوا فيها بسمِ اللهِ مجْراها ومُرساها إنَّ ربي لَغَفورٌ رحيمٌ} [سورة هود/41].

ثم إن المطر جعل ينزل من السماء كأفواه القَرَب، فجعلت الوحوش يطلبن وسط الأرض هربًا من الماء حتى اجتمعت عند السفينة فحينئذٍ حمل فيها من كل زوجين اثنين.

لما اطمأن نوح في الفلك، وأدخل فيه من أمر به جاء الماء كما قال تعالى {ففَتَحْنا أبوابَ السماءِ بماءٍ مُنْهَمِرٍ* وفَجَّرْنا الأرضَ عُيُونًا فالْتَقَى الماءُ على أمرٍ قدْ قَدِرَ* وحَمَلناهُ على ذاتِ ألواحٍ ودُسُرٍ} [سورة القمر/11-12-13] والدسر: المسامير. وقوله تعالى {تجري بأعيُننا} [سورة القمر/14] أي بحفظنا وحراستنا.

وجعلت الفلك تجري بهم في موج كالجبال قال الله تعالى {وهيَ تجري بهم في مَوجٍ كالجِبالِ} [سورة هود/42]، وذلك أن الله تعالى أرسل من السماء مطرًا لم تعهده الأرض قبله وأمر الأرض فنبعت من جميع فِجاجها، ونادى نوح ابنه الذي هلك لأن يؤمن ويصعد وكان في معزل {يا بُنيَّ ارْكَبْ معنا ولا تَكُن معَ الكافرينَ} [سورة هود/42] وكان كافرًا خالف أباه في دينه، {قالَ سآوي إلى جبلٍ يَعْصِمُني منَ الماء} [سورة هود/43]، فقال نوح {قالَ لا عاصِمَ اليومَ من أمرِ اللهِ إلا مَن رَحِمَ وحالَ بينهُما الموجُ فكانَ منَ المُغْرَقينَ} [سورة هود/43].

قال جماعة من المفسرين: أرسل الله المطر أربعين يومًا، ويقال: إنهم ركبوا فيها لعشر ليالٍ مضين من رجب وخرجوا منها يوم عاشوراء من المحرم، وكان الماء نصفين نصفًا من السماء ونصفًا من الأرض وقد ارتفع الماء على أعلى جبل في الأرض قيل: خمسة عشر ذراعًا، وقيل ثمانين والله أعلم، وقد عم جميع الأرض سهلها وحَزنها وجبالها وقِفارها، فلم يبق على وجه الأرض أحد ممن عبد غير الله عز وجل، قال الله تعالى {فَكَذَّبُوهُ فأنْجَيناهُ والذينَ معهُ في الفُلْكِ وأغرَقْنا الذينَ كذَّبُوا بآياتِنا إنهُم كانُوا قومًا عَمِين} [سورة الأعراف/64]، وقال تعالى {ونَصَرنَاهُ منَ القومِ الذينَ كذَّبُوا بآياتِنا إنَّهُم كانوا قومَ سَوْءٍ فأغرَقْناهُم أجمَعين} [سورة الأنبياء/77]. وطافت السفينة بالأرض كلها لا تستقر حتى أتت الحرم فدارت حوله أسبوعًا، ثم ذهبت في الأرض تسير بهم حتى انتهت إلى جبل الجودي وهو بأرض الموصل فاستقرت عليه.

قال تعالى {وقيلَ يا أرضُ ابْلَعي ماءَكِ ويا سماءُ أقْلِعي وغيضَ الماءُ وقُضِيَ الأمرُ واستوتْ على الجُوديّ وقيلَ بُعْدًا للقومِ الظالمينَ} [سورة هود/44]. ثم لما غاض الماء أي نقص كما كان وأمكن السعي فيها والاستقرار عليها هبط نوح ومن معه من السفينة التي استقرت بعد سيرها على ظهر جبل الجودي قال الله تعالى {قيلَ يا نوحُ اهبِطْ بسلامٍ مِنَّا وبرَكاتٍ عليكَ وعلى أممٍ مِمَّن معكَ وأممٌ سَنُمَتِّعُهُم ثم يَمَسَّهُم مِنَّا عذابٌ أليمٌ} [سورة هود/48].

 

  • {لَكُمْ تذكرةً}: أي عبرةً وموعظةً.
  • {وتَعيَها أذنٌ واعيةٌ}: أي أذنٌ تحفظُ ما سَمِعَت وتعملُ به. وقال الفراء: “لتحفَظَها كلُّ أذنٍ فتكونُ عِظةً لمن يأتي بعدَهُ”.
  • {فإذا نُفِخَ في الصورِ نفخةٌ واحدةٌ}: فيها قولان:

أحدهما: أنها النفخةُ الأولى قاله عطاء.

والثاني: أنها الأخيرة.

  • {وحُمِلَتِ الأرضُ والجبالُ}: أي رُفِعَتْ من أماكنها.
  • {فدُكَّتا دكةً واحدةً}: أي كُسِرتا ودُقَّتا دقةً واحدةً فتصير كالأديمِ الممدود.
  • {فيَومئذٍ وقَعَتِ الواقعةُ}: أي قامتِ القيامةُ.
  • {وانْشَقَّتِ السماءُ}: لنزولِ من فيها من الملائكة.
  • {فهِيَ يومئذٍ واهيةٌ}: أي ضعيفةٌ لتشَقُّقِها.
  • {والمَلَكُ}: يعني الملائكةُ وهو اسمُ جنسٍ.
  • {على أرجائِها}: أي على جوانِبها.

قال الضحاك: “إذا انشقت السماءُ كانتِ الملائكةُ على حافتها حتى يأمرهم الله تعالى فينزلون إلى الأرضِ فيحيطون بها وبِمَنْ عليها”. ورُويَ عن سعيد بن جبير رضي الله عنه أنه قال: “على أرجاء الدنيا”.

________________

ثم إن نسل أهل السفينة انقرضوا غير نسل ولده فالناس كلهم من ولد نوح، ولم يُجعل لأحد ممن كان معه من المؤمنين نسلٌ ولا عقبٌ سوى نوح عليه السلام، قال تعالى {وجَعَلنا ذُرِّيتَهُ هُمُ الباقين} [سورة الصافات/77]، فكل من على وجه الأرض اليوم من سائر أجناس بني ءادم ينسبون إلى أولاد نوح الثلاثة.

روى الإمام أحمد عن سَمُرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “سام أبو العرب، وحام أبو الحبش، ويافث أبو الروم” ورواه الترمذي عن سمرة مرفوعًا بنحوه، وقيل: المراد بالروم هنا الروم الأول وهم اليونان، وروي عن سعيد بن المسيب أنه قال: “ولد نوح ثلاثة: سام ويافث وحام، وولد كل واحد من هؤلاء الثلاثة ثلاثة: فولد سام العرب وفارس والروم، وولد يافث الترك والصقالبة ويأجوج ومأجوج، وولد حام: القِبط والسودان والبربر”.

ذكر اليوم الذي استقرت فيه السفينة

قال قتادة وغيره: “ركبوا في السفينة في اليوم العاشر من شهر رجب فساروا مائة وخمسين يومًا واستقرت بهم على الجودي شهرًا، وكان جروجهم من السفينة في يوم عاشوراء من المحرم” اهـ، وقد روى ابن جرير خبرًا مرفوعًا يوافق هذا، وأنهم صاموا يومهم ذلك.

وروى الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم بأناس من اليهود وقد صاموا يوم عاشوراء، فقال: “ما هذا الصوم؟” فقالوا: هذا اليوم الذي نجى الله فيه موسى وبني إسرائيل من الغرق، وغرق فيه فرعون، وهذا اليوم استقرت فيه السفينة على الجودي فصامه نوح وموسى شكرًا لله عز وجل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “أنا أحقُّ بموسى وأحق بصوم هذا اليوم“، وهذا الحديث له شاهد في الصحيح من وجه ءاخر إلا أنه ليس فيه ذكر نوح عليه السلام.

 

  • {ويحْمِلُ عرشَ ربِّكَ فوقَهُم}: فيه ثلاثةُ أقوالٍ:

قيل: فوقَ رؤوسهم أي العرشُ على رؤوس الحملةِ. قاله مقاتلٌ.

وقيل: فوقَ الذين على أرجائها أي أن حملَة العرش فوقَ الملائكةِ الذين هم على أرجائِها.

وقيل: إنهم فوق أهل القيامةِ. حكاهما الماورديُّ.

  • {يومئذٍ}: أي يومَ القيامةِ.
  • {ثمانيةٌ}: منَ الملائكةِ. وقال الحافظ العبدري رحمه الله رحمة واسعة: “إنما يكونون ثمانيةً يوم القيامةِ إظهارًا لِعظمِ ذلكَ اليوم”. وقد روى أبو داودَ في سننه من حديثِ جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “أُذِنَ لي أن أُحَدِّثَ عن مَلَكٍ من ملائكةِ اللهِ من حمَلةِ العرشِ أنّ ما بينَ شحمةِ أذنِهِ إلى عاتِقِهِ مسيرةُ سبعمائةِ عام” (1).
  • {يومئذٍ تُعْرَضُونَ}: للحسابِ والسؤالِ.
  • {لا تخفَى مِنكُمْ خافِيةٌ}: سريرةٌ وفي الحديثِ يعرضُ الناس يوم القيامةِ ثلاثَ عَرَضاتٍ فأما عرْضتانِ فجدالٌ ومعاذيرٌ، وأما الثالثة فعندها تطيرُ الصحفُ، فيأخذُ الفائزُ كتابهُ بيمينِهِ، والهالكُ كتابَهُ بشمالِهِ. وكان عمرُ بنُ الخطّابِ يقول: “حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا للعرضِ الأكبرِ يؤمئذٍ لا تخفى منكم خافية”.
  • {فأمَّا مَنْ أُوتِيَ}: أي أُعطيَ.
  • {كتابَهُ بيَمينِهِ فيقولُ}: خطابًا لجماعتهِ لما سُرَّ بهِ.
  • {هاؤُمُ}: خذوا.
  • {اقْرَءوا كِتابِيَهْ}: والمعنى أنه لما بلغَ الغايةَ في السرورِ وعلمَ أنهُ من الناجين بإعطائِهِ كتابَهُ بيمينهِ أحبَّ أن يظهِرَ ذلكَ لغيرهِ حتى يفرحوا له.
  • {إنِّي ظَننتُ}: أي عَلِمتُ وأيقَنتُ في الدنيا.
  • {أنَّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ}: أي أُبْعَثُ وأُحاسَبُ في الآخرةِ.
  • {فَهُوَ في عيشةٍ}: أي في حالةٍ من العيش.
  • {راضيةٍ}: مرضيةٍ وذلكَ بأنهُ لقيَ الثوابَ وأَمِنَ من العقاب.
  • {في جنةٍ عاليةٍ}: أي عالية المنازل.
  • {قُطُوفُها دانيةٌ}: ثمارُها قريبةٌ من مريدها ينالُها القائمُ والقاعدُ والمضطجعُ يقطفونها كيفَ شاؤوا.
  • {كُلُوا}: أي يُقالُ لهم كُلُوا.

____________________

  • أبو داود، سنن أبي داود، 2/645.
  • {واشرَبُوا هَنيئًا بِما أسْلَفتُم}: أي بما قدّمتُم لآخرتكم من الأعمال الصالحةِ.
  • {في الأيامِ الخاليَةِ}: أي الماضيةِ وهي أيامُ الدنيا.
  • {وأمَّا مَنْ أوتِيَ كتابَهُ بِشِمالِهِ}: قيل تُلْوى يدُهُ اليسرة خلفَ ظهرهِ ثم يُعطى كتابهُ بها.
  • {فيَقُولُ يا ليتني لمْ أوتَ كِتابيَه}: وذلك لَمَّا نظرَ في كتابِهِ ورأى قبائحَ أعمالِهِ مُثْبَتَةً عليه تمنى أنه لم يؤتَ كتابَهُ لما حصل له من الخجل والافتضاح. قال مقاتل: “نزلتْ في الأسودِ بنِ عبدِ الأسدِ قتلهُ حمزة ببدرٍ” وقيل نزلت في أبي جهلٍ.
  • {ولمْ أدْرِ ما حِسابِيَهْ}: أي يا ليتني لم أعلم ما حسابي.
  • {يا لَيتها كانتِ القاضيةَ}: تمنى أنه لم يُبعثْ للحسابِ والمعنى يا ليتَ الموتةَ التي مِتُّها في الدنيا كانتِ القاضيةَ عن كلِّ ما بعدَها والقاطعةَ للحياة أي ما أحيا بعدَها. قال قتادةُ: “تمنى الموتَ ولم يكن شئٌ عنده أكرهَ منه إليه أي من الموتِ في الدنيا لأنه رأى تلك الحالةَ أشنعَ وأمرَّ مما ذاقَهُ من الموتِ”.
  • {ما أغْنَى عنِّي مالِيَهْ}: أي لم ينفعني ما جمعتُهُ في الدنيا.
  • {هلَكَ عنِّي سُلطانِيَهْ}: فيه قولان:

أحدُهما: ضَلَّتْ عني حجتي، حين شهِدَتْ عليه الجوارحُ بالشركِ.

والثاني: زالَ عني مُلكي وقوتي وتسلّطي على الناس وبقيتُ ذليلاً حقيرًا فقيرًا. والهاء في كتابيه وحِسابيه وماليه وسُلطانيه للسكتِ.

  • {خُذُوهُ}: أي يقولُ الله تعالى لخزنةِ جهنم خذوهُ.
  • {فغُلُّوهُ}: أي اجمعُوا يديهِ إلى عنقهِ.
  • {ثُمَّ الجحيمَ صَلُّوهُ}: أي أدخِلوهُ النارَ المُحرقةَ وقالَ الزجاج: “اجعلوهُ يَصْلى النارَ”.
  • {ثمَّ في سِلسِلةٍ}: وهي حِلَقٌ منتظمةٌ كلُّ حَلقةٍ منها في حلقة.
  • {ذَرْعُها}: أي مقدارُها والذَّرعُ التقديرُ بالذراعِ من اليدِ أو غيرِها.
  • {سَبعونَ ذِراعًا}: قال ابنُ عباس رضي الله عنهما: “بذراعِ الملَك”. وقال نوفل البِكاليُّ: “سبعونَ ذراعًا كل ذراعٍ سبعونَ باعًا كلُّ باعٍ أبعد مما بينك وبين مكة وكانَ في رَحَبةِ الكوفةِ رحبة مسجد الكوفة في العراق”. وقال سفيانُ: “كلُّ ذراعٍ سبعونَ ذراعًا”. وقال الحسنُ: “اللهُ أعلمُ أيّ ذراعٍ هُو”. وقال وهب: “لو جُمعَ حديدُ الدنيا ما وزنَ حلقةً منها”.
  • {فاسْلُكُوهُ}: أي أدخِلُوهُ فيها. قال ابنُ عباس رضي الله عنهما: “تدخلُ في دبرهِ وتخرُجُ من منخرهِ وقيل تدخلُ من فيهِ وتخرجُ من دبرِهِ”.
  • {إنهُ كانَ لا يُؤمنُ باللهِ العظيمِ}: أي لا يصدقُ بوحدانيةِ اللهِ وعظمتهِ.
  • {ولا يَحُضُّ على طعامِ المسكينِ}: أي ولا يَحُثُّ نفسَهُ على إطعامِ المسكينِ ولا يأمرُ غيرَهُ بذلكَ. وفيه دليلٌ على تعظيمِ الجُرْمِ في حرمانِ المساكينِ لأن الله تعالى عَطَفَهُ على الكفرِ وجعلهُ قرينَهُ، قال الحسن في هذه الآية: “أدْرَكْتُ أقوامًا يَعزِمُونَ على أهليهم أن لا يَرُدُّوا سائلاً”. وعن بعضهم أنه كانَ يأمرُ أهلَهُ بتكثيرِ المرقةِ لأجلِ المساكينِ ويقول خلَعْنا نصفَ السلسلةِ بالإيمانِ أفلا نخلعُ النصفَ الثاني بالإطعام.
  • {فليسَ لهُ اليومَ هَهُنا حَميمٌ}: أي ليسَ له في الآخرةِ قريبٌ ينفعُهُ ويشفعُ له.
  • {ولا طعامٌ إلا مِنْ غِسْلينٍ}: فيه ثلاثةُ أقوال:

أحدها: أنه صديدُ أهلِ النار. قاله ابن عباس. قال مقاتل: “إذا سالَ القيحُ والدمُ بادَروا أكلَهُ قبل أن تأكلَهُ النار”.

والثاني: شجرٌ يأكلُهُ أهلُ النار قاله الضحاك والربيع.

والثالث: أنه غُسالةُ أجوافهم قاله يحيى بن سلام.

  • {لا يأكُلُهُ إلا الخاطِئونَ}: يعني الكافرين.
  • {فلا أُقْسِمُ}: قيل أنّ لا صلةٌ، والمعنى أقسمُ، وقيل لا ردٌّ لكلامِ المشركين، كأنه قال ليسَ الأمر كما يقول المشركون، ثم قال تعالى “أقسم”، وقيل لا ههنا نافيةٌ للقسم، على معنى أنه لا يُحتاجُ إليه لوضوحِ الحقِّ، كأنه قال لا أقسمُ على أن القرءان قول رسولٍ كريمٍ، فكأنهُ لوضوحِهِ استغنى عن القسم.
  • {بِما تُبْصِرونَ* وما لا تُبْصِرونَ}: يعني بما تَرَونَ وتشاهدونَ وبما لا تَرَونَ ولا تشاهِدونَ أقسمَ بالأشياءِ كلها. وقيل أقسمَ بالدنيا والآخرة وقيل بما تُبصرون يعني على ظهرِ الأرض وما لا تبصرون أي ما في بطنها.
  • {إنَّهُ}: يعني القرءانَ.
  • {لَقَولُ رسولٍ كريمٍ}: فيه قولان:

أحدُهما محمدٌ صلى الله عليه وسلم قاله الأكثرون.

والثاني جبريل قاله ابن السائب ومقاتل.

وقيل لم يُرِدْ أنه قولُ الرسول صلى الله عليه وسلم وإنما أرادَ أنه قولُ الرسولِ عن الله تعالى. وفي الرسول صلى الله عليه وسلم ما يدل على ذلك فاكتفى به من أن يقول عن الله.

  • {وما هُوَ بِقَولِ شاعرٍ}: يعني أن هذا القرءانَ ليسَ بقولِ رجلٍ شاعرٍ ولا هو من ضروبِ الشعرِ ولا تركيبِهِ.
  • {قليلاً ما تُؤمِنون}: أراد بالقليلِ عدمَ إيمانهم أصلاً والمعنى أنكم لا تصدِقونَ بأن القرءان من عند الله تعالى.
  • {ولا بِقَولِ كاهِنٍ}: أي وليسَ هو بقولِ رجلٍ كاهنٍ ولا هو من جنسِ الكَهانةِ.
  • {قليلاً ما تَذَكَّرونَ}: المعنى لا تؤمنونَ ولا تذكَّرونَ ألبتة. يقال هذه الأرضُ قَلَّما تُنبتُ أي لا تنبتُ أصلاً.
  • {تنزيلٌ}: أي هو تنزيلٌ يعني القرءانَ.
  • {مِن ربِّ العالَمين}: وذلك أنه لما قال: {إنهُ لَقولُ رسولٍ كريمٍ} أتبعهُ بقولهِ {تنزيلٌ من ربِّ العالَمين} ليزول هذا الإشكال. حتى لا يظُنَّ أن هذا تركيب جبريل (1).

__________________

  • تفسير قول الله تعالى {إنَّما أمْرُهُ إذا أرادَ شيئًا أن يقولَ لهُ كُنْ فيَكونُ} [سورة يس/82].

لأهلِ السنةِ في شرح هذه الآيةِ تفسيران: أما الأول وهو ما قال به إمام الهدى أبو منصور الماتريدي: أن الله تعالى يوجد الأشياء بدون تعب ومشقة وبدون ممانعة أحد له، أي أنه يخلق الأشياء التي شاء أن يخلقها بسرعة بلا تأخر عن الوقت الذي شاء وجودها فيه، فمعنى {كُن فيكون} يدل على سرعة الإيجاد وليس معناهُ كل ما أراد الله خلق شئ يقول كن كن كن، وإلا لكان معنى ذلك أن الله كل الوقت يقول “كن كن كن” وهذا محال لأن الله عز وجل يخلق في اللحظة الواحدة ما لا يدخل تحت الحصر.

ثم “كن” لغة عربية والله تعالى كان قبل اللغات كلها وقبل أصناف المخلوقات فعلى قول المشبهة يلزم أن يكون الله ساكتًا قبل ثم صار متكلمًا وهذا محال لأن هذا شأن البشر وغيرهم، وقد قال أهل السنة: الحرف والصوت عرضان، فلو كان يجوز على الله أن يتكلم بالحرف والصوت لجاز عليه كل الأعراض من الحركة والسكون والبرودة واليبوسة والألوان والروائح والطعوم وغير ذلك وهذا محال، وقال أهل السنة إن الله تعالى خلق بعض العالم متحركًا دائمًا كالنجوم وخلق بعض العالم ساكنًا دائمًا كالسموات، وخلق بعض العالم متحركًا في وقت وساكنًا في وقت ومنهم الإنس والجن والملائكة والبهائم والرياح والنور والظلام والظلال، وهو سبحانه وتعالى لا يشبه شيئًا من هذه العوالم كلّها.

قال أبو بكر الباقلاني (403هـ) في “الإنصاف” عالم الكتب، الطبعة الأولى 1407هـ، ص152 ما نصه: “ويدل عليه قول شيخ طبقة التصوف الجنيد رحمه الله، فإنه قال: جلت ذاته عن الحدود، وجل كلامه عن الحروف، فلا حد لذاته، ولا حروف لكلامه” اهـ.

وأما التفسير الثاني لأهل السنة فهو قول الأشاعرة كالبيهقي فإنه يقول: إن الله يخلق الخلق بكن أي بالحكم الأزلي بوجوده فالآية عندهم عبارة عن أن الله تعالى يخلق العالم بحكمه الأزلي، وحكمه سبحانه كلامه الأزلي ليس كلامًا مركبًا من حروف ولا صوت.

وأما ما ذهبت إليه المجسمة من أن الله ينطق بالكاف والنون عند خلق كل فرد من أفراد المخلوقات فهو سفه لا يقول به عاقل لأنهم قالوا قبلا إيجاد المخلوق ينطق الله بهذه الكلمة المركبة من كاف ونون فيكون خطابًا للمعدوم، وإن قالوا إنه يقول ذلك بعد إيجاد الشئ قلنا لا معنى لإيجاد الموجود.

وأما التفسيران اللذان ذهب إليهما أهل السنة فإنهما موافقان للعقل والنقل، ثم إنه يلزم على قول المجسمة بشاعة كبيرة وهي أن الله تبارك وتعالى لا يفرغ من النطق بـ”كن” وليس له فعل إلا ذلك، لأنه في كل لحظة يخلق ما لا يدخل تحت الحصر. فكيف يصح في العقل أن يخاطب الله كل فرد من أفراد المخلوقات بهذا الحرف.

كيف يُعقل أن ينطق الله تعالى بالكاف والنون بعدد كل مخلوق يخلقه فإن هذا ظاهر الفساد لأنه يلزم عليه أن يكون الله ليس له كلام إلا الكاف والنون. فما أبشع هذا الاعتقاد المؤدي إلى هذه البشاعة.

ثم إن الله ما وصف نفسه بالنطق إنما وصف نفسه بالكلام أي بأنه متكلم فلو كان كلام الله نطقًا لجاءت بذلك ءاية من القرءان.

والموجود في القرءان الكلام والقول وهما عبارة عن معنًى قائم بذات الله أي ثابت له معناه الذكر والإخبار

_____________________

وليس نطقًا بالحروف والصوت. وقد ألّفَ الحافظ أبو المكارم المقدسي –وقيل أبو الحسن- جزءًا في تضعيف أحاديث الصوت على وجه التحقيق، والبيهقي رحمه الله قد صرّح بأنه لا يصح حديث في نسبة الصوت إلى الله.

وأما ما في كتاب فتح الباري في كتاب التوحيد من القول بصحة أحاديث الصوت فهو مردود، وابن حجر نفسه في كتاب العلم ذكر خلاف ما ذكره في كتاب التوحيد، على أنّ ما ذكره في كتاب التوحيد من إثبات الصوت قال إنه صوت قديم ولم يحمله على الظاهر الذي تقوله المشبهة أنه صوت حادث يحدث شيئًا فشيئًا يتخلله سكوت كما قال زعيم المشبهة ابن تيمية إن كلامه تعالى قديم النوع حادث الأفراد، ومثل ذلك قال في إرادة الله وكلا الأمرين باطل. (والحافظ ابن حجر العسقلاني) لا يعتقد قيام الحادث بذات الله، فشرحه هذا مشحون بذكر نفي الحركة والانتقال ونحو ذلك عن الله تعالى في مواضع كثيرة، فهو يؤول الأحاديث التي ظاهرها قيام صفة حادثة بذات الله على غير الظاهر. على طريقة أهل السنة.

ثم إنه يلزم من قول المشبهة إن الله يخلق بلفظ كن الذي هو لفظ مركب من حرفين يوجدان بعد عدم ويسبق أحدهما الآخر خَلْقُ المخلوق بالمخلوق وهذا محال، إنما يخلق الله المخلوقات بقدرته القديمة ومشيئته القديمة وعلمه القديم.

ولأهمية هذا الموضوع ننقل بحثًا نفسيًا وجوهرًا ثمينًا للمحدث الشيخ الإمام المفسر القدوة المرجع الحجة المجدد المجتهد شيخ الإسلام والمسلمين ورأس المحققين والمدققين في هذا العصر أبو عبد الرحمن عبد الله بن محمد بن يوسف بن جامع بن عبد الله الهرري الحبشي الشيبي العبدري رضي الله تعالى عنه وأرضاه من كتابه المقالات السنية في كشف ضلالات أحمد بن تيمية يبيّن أن ابن تيمية متورطٌ بأوحال التشبيه والتجسيم قائل بحلول الحوادث في ذات الله وينسب إلى الله أنه يتكلم بحرف وصوت والعياذ بالله من الزيغ والكفر والضلال مع رده عليه ردًا متقنًا موثقًا مبينًا تنزيه الله عن ذلك بإيراد عقيدة أهل السنة والجماعة المؤيدة بالقرءان والحديث والإجماع، قال العلامة الهرري ما نصه:

المقالة الرابعة

زعمه (أي ابن تيمية) أن الله يتكلم بحرفٍ وصوتٍ وأنه يتكلم إذا شاء ويسكت إذا شاء

ومن جملة افتراءات ابن تيمية على أئمة الحديث وأهل السنة والجماعة نقله عنهم أن الله متكلم بصوت نوعه قديم أي يحدث في ذات الله شيئًا بعد شئ قال في كتابه رسالة في صفة الكلام (ص/51) ما نصه: “وحينئذٍ فكلامه قديم مع أنه يتكلم بمشيئته وقدرته وإن قيل إنه ينادي ويتكلم بصوت لا يلزم من ذلك قدم صوت معين، وإذا كان قد تكلم بالتوراة والقرءان والإنجيل بمشيئته وقدرته لم يمتنع أن يتكلم بالباء قبل السين، وإن كان نوع الباء والسين قديمًا لم يستلزم أن يكون الباء المعينة والسين المعينة قديمة لما علم من الفرق بين النوع والعين” اهـ.

وقال في موضع (ص54) ءاخر منه: “وقال الشيخ الإمام أبو الحسن محمد بن عبد الملك الكرخي الشافعي في كتابه الذي سمّاه الفصول في الأصول: سمعت الإمام أبا منصور محمد بن أحمد يقول: سمعت الإمام أبا بكر عبد الله بن أحمد يقول: سمعت الشيخ أبا حامد الإسفرايني يقول: مذهبي ومذهب الشافعي وفقهاء الأمصار أن القرءان كلام الله غير مخلوق ومن قال إنه مخلوق فهو كافر، والقرءان حمله جبريل عليه السلام مسموعًا من الله والنبي سمعه من جبريل والصحابة سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي نتلوه نحن مقروء بـألسنتنا وفي ما بين الدفتين وما في صدورنا مسموعًا ومكتوبًا ومحفوظًا ومقروءًا وكل حرف منه كالباء والتاء كله كلام الله غير مخلوق ومن قال مخلوق فهو كافر عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين” اهـ.

وقال في المنهاج (1/221) “وسابعها قول من يقول إنه لم يزل متكلمًا إذا شاء بكلام يقوم به وهو متكلم بصوت يسمع وإن نوع الكلام قديم وإن يجعل نفس الصوت المعين قديمًا وهذا هو المأثور عن أئمة الحديث والسنة وبالجملة أهل السنة والجماعة أهل الحديث” اهـ.

__________________________

وقال في الموافقة ما نصه (2/143): “وإذا قال السلف والأئمة إن الله لم يزل متكلمًا إذا شاء فقد أثبتوا أنه لم يتجدد له كونه متكلمًا، بل نفس تكلمه بمشيئته قديم وإن كان يتكلم شيئًا بعد شئ فتعاقب الكلام لا يقتضي حدوث نوعه إلا إذا وجب تناهي المقدورات المرادات” اهـ.

ثم قال فيه ما نصه (2/151): “فلما رجع موسى إلى قومه قالوا له صف لنا كلام ربك فقال: سبحان الله  وهل أستطيع أن أصفه لكم، قالوا: فشبهه، قال: هل سمعتم أصوات الصواعق التي تقبل في أحلى حلاوة سمعتموها فكأنه مثله” اهـ.

وقال في الموافقة ما نصه (4/107): “وحينئذ فيكون الحق هو القول الآخر وهو أنه لم يزل متكلمًا بحروف متعاقبة لا مجتمعة” اهـ.

وقال في فتاويه ما نصه (6/160): “فعلم أن قدمه عنده أنه لم يزل إذا شاء تكلم وإذا شاء سكت، لم يتجدد له وصف القدرة على الكلام التي هي صفة كمال، كما لم يتجدد له وصف القدرة على المغفرة، وإن كان الكمال هو أن يتكلم إذا شاء ويسكت إذا شاء” اهـ.

وقال فيه أيضًا ما نصه (6/234): “وفي الصحيح: إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السموات كجر السلسلة على الصفوان”، فقوله: “إذا تكلم الله بالوحي سمع” يدل على أنه يتكلم به حين يسمعونه، وذلك ينفي كونه أزليًا، وأيضًا فما يكون كجر السلسلة على الصفا، يكون شيئًا بعد شئ والمسبوق بغيره لا يكون أزليًا” اهـ.

وقال أيضًا ما نصه (5/556-557): “وجمهور المسلمين يقولون: إن القرءان العربي كلام الله، وقد تكلم الله به بحرف وصوت، فقالوا: إن الحروف والأصوات قديمة الأعيان، أو الحروف بلا أصوات، وإن الباء والسين والميم مع تعاقبها في ذاتها فهي أزلية الأعيان لم تزل ولا تزال كما بسطت الكلام على أقوال الناس في القرءان في موضع ءاخر” اهـ.

وقال في مجموعة تفسير ما نصه (ص/311): “وقولهم: “إن المحدَث يفتقر إلى إحداث وعلم جرا” هذا يستلزم التسلسل في الآثار مثل كونه متكلمًا بكلام بعد كلام، وكلمات الله لا نهاية لها، وأن الله لم يزل متكلمًا إذا شاء، وهذا قول أئمة السنة، وهو الحق الذي يدل عليه النقل والعقل” اهـ.

أقول: فلا يغتر مطالع كتبه بنسبة هذا الرأي الفاسد إلى أئمة أهل السنة وذلك دأبه أن ينسب رأيه الذي يراه ويهواه إلى أئمة أهل السنة، وليعلم الناظر إلى مؤلفاته أن هذا تلبيس وتمويه محض يريد أن يروجه على ضعفاء العقول الذين لا يوفقون بين العقل والنقل، وقد قال الموفقون من أهل الحديث وغيرهم إن ما يحيله العقل فلا يصح أن يكون هو شرع الله كما قال ذلك الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي: إن الشرع لا يأتي إلا بمجوزات العقول، وبهذا يردّ الخبر الصحيح الإسناد أي إذا لم يقبل التأويل كما قاله علماء المصطلح في بيان ما يعلم به كون الحديث موضوعًا، وأيّدوا ذلك بأن العقل شاهد الشرع فكيف يرد الشرع بما يكذبه شاهده.

فمن قال: إن الله يتكلم بصوت، وقال: إنه صوت أزلي وأبدي ليس فيه تعاقب الحروف فلا يُكفَّر إن كان نيته كما يقول، وإلا فهو كافر كسائر المشبهة. وأما أحاديث الصوت فليس فيها ما يحتج به في العقائد، وقد ورد حديث مختلف في بعض رواته وهو عبد الله بن محمد بن عقيل (راجع ترجمته في: الضعفاء الكبير (2/298)، الكامل (4/1446)، المجروحين (2/3)، سؤالات ابن أبي شيبة لابن المدني (ص88)ـ أحوال الرجال (ص138)، الضعفاء والمتروكين لابن الجوزي (2/140)، الجرح والتعديل (5/153)، المغني (1/354)،تهذيب التهذيب (6/13)، الكاشف (2/113)، ميزان الاعتدال (3/484)، التاريخ الكبير (5/183)، روى حديثه البخاري (أخرجه عن ابن عقيل البخاري في الأدب المفرد: باب المعانقة، وأخرجه البخاري في صحيحه: كتاب التوحيد/ باب قول الله تعالى: {ولا تنفَعُ الشَّفَاعةُ عِندَهُ إلا لِمَنْ أذِنَ لهُ} الآية ذكره تعليقًا بغير إسناد.) بصيغة التمريض، قال: ويُذكر، وفيه: (فينادى بصوت فيسمعه من بَعُدَ كما يسمعه من قَرُبَ، أنا الملك أنا الديّان)، وإنما ذكره البخاري بصيغة التمريض من أجل راويه هذا، قال الحافظ ابن حجر (فتح الباري بشرح صحيح البخاري،

___________________

1/174-175): “ونظر البخاري أدق من أن يعترض عليه بمثل هذا فإنه حيث ذكر الارتحال فقد جزم به لأنّ الإسناد حسن وقد اعتضد، وحيث ذكر طرفًا من المتن لم يجزم به لأن لفظ الصوت مما يتوقف في إطلاق نسبته إلى الرب ويحتاج إلى تأويل، فلا يكفي فيه مجيء الحديث من طريق مختلف –فيها ولو اعتضدت” اهـ. أي لا يكفي ذلك في مسائل الاعتقاد وإن كان البخاري ذكر أوله في كتاب العلم (أخرجه البخاري في صحيحه تعليقًا: كتاب العلم: باب الخروج في طلب العلم) بصيغة الجزم لأنه ليس- فيه ذكر الصوت، إنما فيه ذكر رحيل جابر بن عبد الله إلى عبد الله بن أنيس من المدينة إلى مصر.

والحديث الآخر (أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب التوحيد: باب قول الله تعالى: “” الآية) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: “يقول الله يوم القيامة: يا ءادم، فيقول: لبيك وسعديك، فينادى بصوت: إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثًا إلى النار”، هذا اللفظ رواه رواة البخاري على وجهين، بعضهم رواه بكسر الدال وبعضهم رواه بفتح الدال.

قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (13/460): “ووقع فينادي مضبوطًا للأكثر بكسر الدال، وفي رواية أبي ذر بفتحها على البناء للمجهول، ولا محذور في رواية الجمهور، فإن قرينة قوله: إن الله يأمرك، تدل ظاهرًا على أن المنادي ملك يأمره الله بأن ينادي بذلك” اهـ. وهذا الحديث رواه البخاري موصولاً مسندًا، لكنه ليس صريحًا في إثبات الصوت صفة لله فلا حجة فيه لذلك للصوتية.

قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (458/13): “قال البيهقي: اختلف الحفاظ في الاحتجاج بروايات ابن عقيل لسوء حفظه، ولم يثبت لفظ الصوت في حديث صحيح عن النبي غير حديثه، فإن كان ثابتًا فإنه يرجع إلى غيره في حديث ابن مسعود (يعني به قوله: “إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السموات شيئًا، فإذا فُزّع عن قلوبهم وسكن الصوت عرفوا أنه الحقّ، ونادوا ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق” –رواه البخاري- وفي حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانًا لقوله، كانه سلسلة على صفوان، قال علي وقال غيره صفوان ينفذهم ذلك، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحقّ وهو العلي الكبير” –رواه البخاري-.) وفي حديث أبي هريرة أن الملائكة يسمعون عند حصول الوحي صوتًا، فيحتمل أن يكون الصوت للسماء أو للملك الآتي بالوحي أو لأجنحة الملائكة، وإذا احتمل ذلك لم يكن نصًا في المسألة، وأشار –يعني البيهقي- في موضع ءاخر إلى أن الراوي أراد فينادي نداء فعبر عنه بصوت” اهـ.

قال الكوثري في مقالاته (ص33) ما نصه: “ولم يصح في نسبة الصوت إلى الله حديث” اهـ.

أقول: وكذا قال البيهقي في الأسماء والصفات (ص273) فليس فيها ما يصح الاحتجاج به لإثبات الصفات لأن حديث الصفات لا يقبل إلا أن يكون رواته كلهم متفقًا على توثيقهم، وهذه الروايات المذكورة في فتح الباري في كتاب التوحيد ليست على هذا الشرط الذي لا بدّ من حصوله لأحاديث الصفات كما ذكره صاحب الفتح في كتاب العلم. لكنه خالف في موضع بما أورده في كتاب التوحيد من قوله: بعد صحة الأحاديث يتعين القول بإثبات الصوت له ويؤول على أنه صوت لا يستلزم المخارج.

ثم قال الكوثري: “وقد أفاض الحافظ أبو الحسن المقدسي شيخ المنذري في رسالة خاصة في تبيين بطلان الروايات في ذلك زيادة على ما يوجبه الدليل العقلي القاضي بتنزيه الله عن حلول الحوادث فيه سبحانه، وإن أجاز ذلك الشيخ الحراني (يعني ابن تيمية، نسبة إلى حران) تبعًا لابن ملكا اليهودي الفيلسوف المتمسلم، حتى اجترأ على أن يزعم أن اللفظ حادث شخصًا قديم نوعًا، يعني أن اللفظ صادر منه تعالى بالحرف والصوت فيكون حادثًا حتمًا، لكن ما من لفظ إلا وقبله لفظ صدر منه إلى ما لا أول له فيكون قديمًا بالنوع، ويكون قدمه بهذا الاعتبار في نظر هذا المخرف، تعالى الله عن إفك الأفاكين، ولم يدر المسكين بطلان القول بحلول الحوادث في الله جل شأنه وأن القول بحوادث لا أول لها هذيان، لأن الحركة انتقال من حالة إلى حالة، فهي تقتضي بحسب ماهيتها كونها مسبوقة بالغير، والأزل ينافي كونه مسبوقًا بالغير، فوجب أن يكون الجمع بينهما محالاً، ولأنه لا وجود للنوع إلا في ضمن أفراده، فادعاء قدم النوع مع الاعتراف بحدوث الأفراد يكون ظاهر البطلان.

_________________________

وقد أجاد الرد عليه العلامة قاسم في كلامه على المسايرة” اهـ.

قلت: وقد ذكر الفقيه المتكلم ابن المعلم القرشي في كتابه نجم المهتدي ورجم المعتدي أثناء ترجمة الحافظ ناصر السنة أبي الحسن علي بن أبي المكارم المقدسي المالكي ما نصه (ص249، مخطوط): “كان صحيح الاعتقاد مخالفًا للطائفة التي تزعم أنها أثرية، صنف كتابه المعروف بكتاب الأصوات أظهر فيه تضعيف رواه أحاديث الأصوات وأوهاهم، وحكى الشيخ تقي الدين شرف الحفاظ عن والده مجد الدين قال بأنه بلغ رتبة المجتهدين” اهـ.

فلا يصحُّ حمل ما ورد في النص من النداء المضاف إلى الله تعالى في حديث “يحشر الله العباد فيناديهم بصوت…” على معنى خروج الصوت من الله، فتمسُّك المشبهة بالظاهر لاعتقاد ذلك تمويه لا يروج إلا عند سُخفاء العقول الذين حُرموا منفعة العقل الذي جعل الشرع له اعتبارًا، وهل عُرفت المعجزة أنها دليل على صحة نبوة من أتى بها من الأنبياء إلا بالعقل؟

وقال –أي الكوثري- في تعليقه على السيف الصقيل ما نصه (ص52): “وحديث جابر المعلق في صحيح البخاري مع ضعفه في سياق ما بعده من حديث أبي سعيد ما يدل على أن المنادي غير الله حيث يقول (…فينادى بصوت إن الله يأمرك…) فيكون الإسناد مجازيًا، على أن الناظم يعني ابن زفيل وهو ابن قيم الجوزية. ساق في “حادي الأرواح” بطريق الدارقطني حديثًا فيه: “يبعث الله يوم القيامة مناديًا بصوت…” وهذا نص من النبي صلى الله عليه وسلم على أن الإسناد في الحديث السابق مجازي، وهكذا يخرب الناظم بيته بيده وبأيدي المسلمين، وللحافظ أبي الحسن المقدسي جزء في تبيين وجوه الضعف في أحاديث الصوت فليراجع ثمة” اهـ.

وهناك حديث ءاخر أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب التوحيد: باب قول الله تعالى: {ولا تنفعُ الشفاعةُ عندَهُ إلا لِمَنْ أذِنَ لهُ} الآية: (إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السموات شيئًا)، ورواه أبو داود (أخرجه أبو داود في سننه: كتاب السنة: باب في القرءان) بلفظ: “سمع أهل السماء للسماء صلصلة كجر السلسلة على الصفوان”، وهذا قد يحتج به المشبهة، وليس لهم فيه حجة لأن الصوت خارجٌ من السماء، فالحديث فسر الحديث بأن الصوت للسماء، فتبين أن قول الحافظ ابن حجر في موضع من الشرح: إن إسناد الصوت إلى الله ثبت بهذه الأحاديث الصحيحة فيه نظر فليُتأمل.

قال الشيباني في شرح الطحاوية (ص14، مخطوط) ما نصه: “والحرف والصوت مخلوق، خلق الله تعالى ليحصل به التفاهم والتخاطب لحاجة العباد إلى ذلك أي الحروف والأصوات، والبارئ سبحانه وتعالى وكلامه مستغن عن ذلك أي عن الحروف والأصوات، وهو معنى قوله: “ومن وصف الله تعالى بمعنى من معاني البشر فقد كفر” اهـ.

فإذا قال قائل إن بعض اللغويين قال: النداء الصوت، قلنا ليس مراد من قال ذلك أن النداء لا يكون في لغة العرب في جميع الموارد إلا بالصوت، وإنما المراد أنه في غالب الاستعمال يكون بالصوت، وقد قال ءاخرون من اللغويين: النداء طلب الإقبال، فليعلم المغفلون الآن ما جهلوه من أن قول السلف عند ذكر هذه الآيات والأحاديث المتشابهة بلا كيف معناه ليس على المعنى المتبادر من صفات المخلوقين.

قال القرطبي في التذكرة في أحوال الموتى وأمر الآخرة (ص338-339) ما نصه: فصل: قوله في الحديث: “فيناديهم بصوت”: استدل به من قال بالحرف والصوت وأن الله يتكلم بذلك، تعالى عما يقول المجسمون والجاحدون علوًا كبيرًا، إنما يُحمل النداء المضاف إلى الله تعالى على نداء بعض الملائكة المقربين بإذن الله تعالى وأمره، ومثل ذلك سائغ في الكلام غير مستنكر أن يقول القائل: نادى الأمير، وبلغني نداء الأمير، كما قال تعالى: {ونادى فرعونُ في قومِهِ} [سورة الزخرف/51]، وإنما المراد نادى المنادي عن أمره، وأصدر نداءه عن إذنه، وهو كقولهم أيضًا قتل الأمير فلانًا، وضرب فلانًا، وليس المراد توليَه لهذه الأفعال وتصديَهُ لهذه الأعمال، ولكن المقصود صدورها عن أمره. وقد ورد في صحيح الأحاديث أن الملائكة ينادون على رؤوس الأشهاد فيخاطبون أهل التقى والرشاد: ألا إن فلان ابن فلان كما تقدم.

_____________________

ومثله ما جاء في حديث النزول مفسرًا في ما أخرجه النسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه وأبي سعيد قالا: قال رسول الله: “إن الله عز وجل يمهل حتى يمضي شطر الليل الأول ثم يأمر مناديًا. يقول: هل من داع يستجاب له، هل من مستغفر يغفر له، هل من سائل يعطى” صححه أبو محمد عبد الحق، وكل حديث اشتمل على ذكر الصوت أو النداء فهذا التأويل فيه، وأن ذلك من باب حذف المضاف، والدليل على ذلك ما ثبت من قِدَمِ كلام الله تعالى على ما هو مذكور في كتب الديانات.

فإن قال بعض الأغبياء: “لا وجه لحمل الحديث على ما ذكرتموه فإن فيه: “أنا الديّان”، وليس يصدر هذا الكلام حقًا وصدقًا إلا من رب العالمين؟ قيل له: إن الملَك إذا كان يقول عن الله تعالى ويُنْبِئُ عنه فالحكم يرجع إلى الله رب العالمين، والدليل عليه أن الواحد منا إذا تلا قول الله تعالى: {إنَّني أنا اللهُ} [سورة طه/14]، فليس يرجع إلى القارئ وإنما القارئ ذاكر لكلام الله تعالى ودالٌّ عليه بأصواته وهذا بَيّنٌ)” اهـ.

قلت: وهذا له أيضًا دليل قوي في الصحيح (كتاب مناقب الأنصار، باب المعراج) في حديث المعراج الذي ذكر فيه تخفيف الخمسين صلاة إلى خمس قوله صلى الله عليه وسلم: “فلما جاوزت ناداني منادٍ: أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي”، فما أراد رسول الله بقوله: “ناداني” إلا المَلَك، فإذا ثبت هذا النداء من الملَك مبلغًا عن الله فلا يمتنع أن ينادي الملَك بتلك الجمل الثلاث: “ هل من داع يستجاب له، هل من مستغفر يغفر له، هل من سائل يعطى“، فبطل استنكار أن يكون هذا اللفظ من المَلَك في حديث النزول، فأين تذهب المشبهة.

قال الشيخ شرف الدين ابن التلمساني في شرح لمع الأدلة للجويني ما نصه (ص/71، مخطوط): “وقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إني زورت في نفسي كلامًا”.

الطرف الثالث: إذا أطلق الكلام على المعنى القائم بالنفس وعلى الألفاظ الدالة عليه فهل هو حقيقة فيهما معًا أو حقيقة في اللفظ مجاز في القائم بالنفس أو بالعكس اختلفوا في ذلك، فنقل عن الشيخ أبي الحسن قولان أحدهما: إنه حقيقة في المعنى القائم بالنفس مجاز في العبارات من مجاز إطلاق الدليل على المدلول، والقول الثاني: إنه حقيقة فيهما لاستعمال فيهما جميعًا. والأصل في الإطلاق الحقيقة وصار غيره إلى أنه حقيقة في العبارات لتبادرها إلى الفهم عند الإطلاق وعدم القرائن، ومجاز في المعنى القائم بالنفس لخفائه ولا يبعد أن يكون حقيقة لغوية في المعنى القائم بالنفس، ومجازًا في الألفاظ” اهـ.

ثم قال أيضًا ما نصه (شرح لمع الأدلة ص/64-65، مخطوط): “الفرقة الثانية: وهم الكرّامية زعموا أن البارئ تعالى تقوم به الأقوال المركبة من الحروف والأصوات، قالوا: ولا يكون قائلاً بها وإنما هو قابل للقابلية، وفسروا القائلية بالقدرة على القول، وكذلك أثبتوا له مشيئة قديمةً وإرادات حادثة تقوم به، قالوا: وإذا أراد الله تعالى إحداث محدَثٍ في الوجودِ خلق بذاته كافًا ونونًا وإرادة يوجب بها ما هو خارج عن ذاته أخذًا من قوله {إنما أمرُهُ إذا أرادَ شيئًا أن يقولَ لهُ كُنْ فيكونُ} [سورة يس/82]، وما ذكروه من قيام الحوادث بذاته يلزم منه حدوثه، فإن كل ما قبل الحوادث لا يخلو عنها وما لا يخلو عن الحوادث حادث، وأما الآية فهي إشارة إلى سرعة وقوع المراد فعبر عن القصد إلى الإيقاع بالأمر، وعن الوقوع بصورة الامتثال” اهـ.

وتبع ابن تيمية الكرامية في ذلك في قوله إن الله تقوم به كلمات تحدث في ذاته من وقت بعده وقت وهكذا على الاستمرار، يقول: فكلامه تعالى قديم النوع حادث الأفراد كما قالت الكرامية، وينسب هذا المذهب الردئ الذي أخذه من الكرامية إلى أئمة أهل الحديث، وأئمة أهل الحديث على خلاف ما يدعيه وما يقول، فإن معتقدهم أن ذات الله تعالى لا تحدث فيه صفة تتجدد من وقت إلى وقت، تتجدد في مرور الأوقات، ويكفي في ذلك ما ذكره الحافظ الطحاوي الشهير بقوله “ومن وصف الله بمعنى من معاني البشر فقد كفر”، ناسبًا ذلك إلى معتقد أبي حنيفة وصاحبيه ومن كان في تلك العصور من الأئمة، لأنه ألف عقيدته هذه المشهورة لبيان ما عليه أهل السنة وليس لبيان ما هو معتقده الخاص.

وأما ما احتج به ابن تيمية موهمًا أن أئمة الحديث على ذلك فإنما هو قول بعض المشبهة من الحنابلة وغيرهم، وليس هؤلاء الذين يعتمد عليهم من أصحاب المنزلة العالية في الحديث لأنه يعتمد على مثل أبي إسماعيل

________________________

الهروي السجزي وعثمان بن سعيد الدارمي، وأما ما يذكره عن ابن المبارك فهو غير ثابت إسنادًا، وقد نص أبو حنيفة رضي الله عنه على أن الله تعالى متكلم بكلام ليس حرفًا ولا صوتًا، وكل الحفاظ المنتسبين إلى مذهبه على هذا، وكذا الحفاظ المشاهير المنتسبون إلى الشافعي على هذا، وكذلك حفاظ المالكية ومتقدمو الحنابلة، فكيف يتجرأ ابن تيمية على نسبة هذا إلى أئمة الحديث موهمًا أن هذا مما أجمعوا عليه، وكثيرًا ما ينقل اتفاق العلماء على أشياء انفرد هو بها.

ويكفي أهل السنة دليلاً على أن الله تعالى لا يتكلم بالحرف والصوت قوله تعالى {إنهُ لَقَوْلُ رسولٍ كريمٍ} [سورة التكوير/19]، يعني أن القرءان الذي هو اللفظ المنزل مقروء جبريل ليس مقروء الله ولو كان اللفظ المنزل هو الصفة القائمة بذات الله لكان جبريل متصفًا بصفة الله وهذا محال لأن صفات الخالق لا يجوز أن تقوم بالمخلوق، وإلى هذا أشار الطحاوي في عقيدته بقوله: “وأن القرءان كلام الله منه بدا بلا كيفية قولاً”، والمراد بقوله: “بلا كيفية قولاً”، نفي أن يكون الله تعالى يتكلم بالحرف والصوت لأنه لو كان بالحرف والصوت لم يقل “بلا كيفية” لأن الحروف كيفيات، سبحان الله الذي يقفل قلوب من شاء من عباده عن فهم الحق.

وأما قول الطحاوي: “منه بدا” فليس معناه أن الله أحدثه في ذاته بعد أن لم يكن يتكلم به، إنما معناه منزل من عنده، أي نزل به جبريل بأمر الله.

وأما قول الله تعالى: {ما نَفِذَتْ كلِماتُ اللهِ} [سورة لقمان/27]، فالجمع ليس لأن كلام الله حروف متعاقبة، إنما ذكر بالجمع في الآية للتعظيم أي لتعظيم كلامه كما قال البيهقي في الأسماء والصفات (ص313) مع كونه في الحقيقة واحدًا لا تعدد فيه، شامل لكل متعلقاته من الواجب والجائز والمستحيل، لأن الكلام معناه الإخبار والذكر، ولا يُقاس صفة من صفات الله بصفات غيره، فمن قاس كلام الله الأزلي على كلام العباد فقد شبهه بخلقه. ومنشأ ضلالة المشبهة أنهم قاسوا ذاته الذي ليس حجمًا وجسمًا بذوات الخلق فأثبتوا له الحيز والشكل، وقاسوا صفاته بصفات خلقه فجعلوها حادثة وهذا يشهد عليهم بأنهم لم يفهموا قول الله: {ليسَ كمِثلِهِ شئٌ}.

فائدة جليلة: الدليل على أن كلام الله ليس حرفًا ولا صوتًا ولا لغة ما ثبت أن الله تعالى يكلم كل فرد من أفراد العباد يوم القيامة ويفرغ من حسابهم في وقت قصير، فلو كان الله تبارك وتعالى يكلمهم بصوت وحرف لم يكن حسابه لعباده سريعًا، والله تبارك وتعالى وصف نفسه بأنه سريع الحساب. ولو كان كلام الله تعالى بحرف وأصوات لكان أبطأ الحاسبين، وهذا ضد الآية: {ثمَّ رُدُّوا إلى اللهِ مَوْلاهُمُ الحَقِّ ألا لهُ الحُكْمُ وهُوَ أسرعُ الحاسِبينَ} [سورة الأنعام/62]، فلا يتحقق معنى أسرع الحاسبين، إلا على مذهب أهل السنة أن الله متكلم بكلام أزلي بغير حرف ولا صوت.

وذلك لأن عدد الجن والإنس كثير لا يحصيهم إلا الله، ومن الجن من يعيش ءالافًا من السنين، ومن الإنس من عاش ألف سنة فأكثر، فقد عاش ذو القرنين في ملكه ألفي عام كما قال الشاعر العربي:

الصّعبُ ذو القرنين أمسى ملكُه ألفين عامًا ثم صار رميمًا

ومن الإنس أيضًا يأجوج ومأجوج كما ورد في الحديث أنهم من ولد ءادم، وورد أنهم أكثر أهل النار كما روى البخاري، وورد أنه لا يموت أحدهم حتى يلد ألفًا لصلبه كما رواه ابن حبان والنسائي (انظر الإحسان (1/292)، والسنن الكبرى: كتاب التفسير: تفسير سورة الأنبياء)، وهؤلاء يحاسبهم الله على أقوالهم وأفعالهم واعتقاداتهم مع كثرتهم الكثيرة ويكلم كل فرد منهم تكليمًا بلا ترجمان، ويحاسبهم على عقائدهم ونواياهم وأفعالهم، فلا بد أن يأخذ حسابهم على موجب قول المشبهة الذين يقولون كلام الله حرف وصوت يتكلم من وقت إلى وقت ثم من وقت إلى وقت مدة واسعة جدًا، فعلى موجب كلامهم يستغرق ذلك جملة مدة القيامة التي هي خمسون ألف سنة، وعلى قولهم هذا لم يكن الله أسرع الحاسبين، وهو وصف نفسه بأنه أسرع الحاسبين كما تقدم، فقول المشبهة يؤدي إلى خلاف القرءان وذلك محال، وما أدى إلى المحال محال.

وأما أهل السنة فإنهم يقولون إن كلام الله ليس متجزئًا فيسمع الناس يوم القيامة كلامه الذي ليس بحرف وصوت

قال غوثنا وملجؤنا وسيدنا وسندنا علامة الدنيا ومحدث الزمان الشيخ عبد الله الهرري الحبشي رضي الله عنه: “لإزالةِ هذا التوهم أتبعَه بهذه الآية. وفيه حجةٌ لأهل السنة الذين يعتقدون أن الله لهُ كلامٌ أزليٌّ أبديّ ذاتيّ ليس حرفًا ولا صوتًا وأن هذا القرءان عبارةٌ عن كلامهِ الذاتي. لأن اللهَ لا يقولُ عن صفتهِ الأزليةِ القائمةِ بذاتهِ: {إنهُ لَقَولُ رسولٍ كريمٍ}.

  • {ولوْ تَقَوَّلَ عليْنا بعضَ الأقاوِيلِ}: أي لو تكلَّفَ محمدٌ أن يقولَ علينا ما لم نقله(1).
  • {لأَخَذْنا مِنْهُ باليَمينِ}: أي لأخذناهُ بالقوةِ والقُدرةِ وانتقمنا منه باليمينِ أي بالحقّ.

 

_______________________

وغير متجزئ في ساعة واحدة ويفهم كل واحد منهم ما شاء الله له أن يفهمه (والمراد بها جزء قليل لا الساعة الزمنية المعتادة في محاورات الناس اليوم)، فيتحقق على ذلك أنه أسرع الحاسبين.

فائدة أخرى: قال الشيخ الإمام المتكلم ابن المعلم القرشي في كتابه نجم المهتدي ورجم المعتدي (ص559)، مخطوط ما نصه: “قال الشيخ الإمام أبو علي الحسن بن عطاء في أثناء جواب عن سؤال وجه إليه سنة إحدى وثمانين وأربعمائة: الحروف مسبوق بعضها ببعض، والمسبوق لا يتقرر في العقول أنه قديم، فإن القديم لا ابتداء لوجوده وما من حرف وصوت إلا وله ابتداء، وصفات البارئ جلّ جلاله قديمة لا ابتداء لوجودها، ومن تكلم بالحروف يترتب كلامه ومن ترتب كلامه يشغله كلام عن كلام، والله تبارك وتعالى لا يشغله كلام عن كلام، وهو سبحانه يحاسب الخلق يوم القيامة في ساعة واحدة، فدفعة واحدة يسمع كل واحد من كلامه خطابه إياه، ولو كان كلامه بحرف ما لم يتفرغ عن يا إبراهيم ولا يقدر أن يقول يا محمد فيكون الخلق محبوسين ينتظرون فراغه من واحد إلى واحد وهذا محال” اهـ.

قال الإمام الإسفراييني ذاكرًا عقيدة أهل السنة والجماعة ما نصه (التبصير في الدين، ص102): “وأن تعلم أن كلام الله تعالى ليس بحرف ولا صوت لأن الحرف والصوت يتضمنان جواز التقدم والتأخر، وذلك مستحيل على القديم سبحانه” اهـ.

وقال ملا علي القاري في شرح الفقه الأكبر ما نصه (ص29-35): “ومبتدعة الحنابلة قالوا: كلامه حروف وأصوات تقوم بذاته وهو قديم، وبالغ بعضهم جهلاً حتى قال: الجلد والقرطاس قديمان فضلاً عن الصحف، وهذا قول باطل بالضرورة ومكابرة للإحساس بتقدم الباء على السين في بسم الله ونحوه” اهـ.

وقال أيضًا ما نصه (شرح الفقه الأكبر، ص41): “وقد ذكر المشايخ رحمهم الله تعالى أنه يقال: القرءان كلام الله غير مخلوق، ولا يقال القرءان غير مخلوق لئلا يسبق إلى الفهم أن المؤلف من الأصوات والحروف قديم كما ذهب إليه بعض جهلة الحنابلة”. انتهى كلام الإمام الهرري.

(1)فيستحيل شرعًا على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكذب على الله أو على دينه. فالقول بأن: “المعنى ولو تقول متقول ولا يكون الضمير في تقول عائدًا على الرسول لاستحالة وقوع ذلك منه فنحن بمنع أن يكون ذلك على سبيل الفرض في حقه عليه الصلاة والسلام”، فقد قال فيه مولانا الشيخ المحدث عبد الله الهرري رحمه الله: “هذا قولٌ باطلٌ مردودٌ، وقائله عليه معصيية من الكبائر”. فالضمير في تقول عائدٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعناه النبي لا يتقول على الله تعالى، مستحيل عليه ذلك.

– {ثُمَّ لقَطَعنا منهُ الوَتينَ}: قال ابن عباس رضي الله عنهما: “يعني نياطَ القلبِ”. وقيل: هو حبلُ الظهرِ، وقيلَ هو عِرقٌ يجري في الظهرِ حتى يتصل بالقلبِ بإذا انقطعَ ماتَ صاحبه. قيل: لم يُردْ أنَّا نَقْطَعُهُ بعينِهِ بل المرادُ منهُ أنه لو كذبَ علينا لأمَتناهُ من ذلك إما بواسطةِ إقامةِ الحجّةِ عليهِ بأن نقيّضَ له من يعارِضُهُ ويظهرُ للناس كذبَهُ فيكونُ ذلكَ إبطالاً لدعواهُ وإما أن نسلُبَ منه قوة التكلم بذلك القول الكذبِ حتى لا يشتبه الصادقُ بالكاذبِ وإما أن نميتَهُ.

– {فما مِنكُم منْ أحدٍ عنهُ حاجِزينَ}: أي ليس منكم أحدٌ يحجُزُنا عنهُ وإنما قال تعالى “حاجزين” يقع على الجمع كقوله تعالى: “لا نفرق بين أحد من رسله” هذا قول الفراء وأبي عبيدة والزجاج. ومعنى الكلام أنه لا يتكلفُ الكذبَ لأجلكم مع علمهِ أنهُ لو تكلفَ ذلكَ لعاقبناهُ ثم لم يقدِرْ على دفعِ عقوبتنا عنهُ أحدٌ.

– {وإنهُ}: يعني القرءان.

– {لَتَذكِرةٌ}: أي لعِظة.

– {للمُتقينَ}: أي لِمَنِ اتقى الله تعالى.

– {وإنَّا لنَعلمُ أنَّ مِنكُم}: يا أيها الناسُ.

– {مُكَذِّبينَ}: بالقرءان وهذا فيه وعيدٌ.

– {وإنهُ}: يعني القرءان.

– {لَحَسرةٌ على الكافرينَ}: يعني يوم القيامةِ والمعنى أنهم يندمونَ على تركِ الإيمانِ به لِما يَرَونَ من ثوابِ من ءامنَ به.

– {وإنهُ لحَقُّ اليَقينِ}: يعني القرءان عينُ اليقينِ ومحضُ اليقين لا بُطلانَ فيهِ.

– {فسَبِّحْ باسمِ ربِّكَ العظيمِ}: أي نَزّهْ ربكَ العظيمَ واشكرهُ على أن جعلكَ أهلًا لإيحائِهِ إليكَ.