سورةُ ن أو سورة القلم
بسم الله الرحمن الرحيم
أحدُها: أنها الدّواةُ. قالَ بهِ الحسنُ وقتادة.
الثاني: أنهُ ءاخرُ حروفِ الرحمنِ. قالهُ ابنُ عباس.
الثالثُ: أنهُ لوحٌ من نورٍ.
الرابعُ: أنهُ نهرٌ في الجنةِ.
وقيلَ هو اسمٌ للسورةِ. وقيلَ إنه الحوتُ الذي على ظهره الأرضُ (1). والظاهرُ أن المراد به هذا الحرفُ من حروفِ المعجم.
أحدُهما: أنه الذي كُتِبَ به في اللوحِ المحفوظِ وهو قلمٌ من نورٍ طولُهُ ما بين السماء والأرض.
والثاني: أنه الذي يكتبُ بهِ الناسُ.
أقسم به لما فيهِ من المنافعِ والفوائدِ التي لا يحيطُ بها الوصف.
أحدُهُما: أنهم الملائكةُ يكتبونَ أعمالَ بني ءادم.
الثاني: أنهم جميعُ الكَتبة.
________________________
وقيل إن نعمة الله كانت ظاهرة عليه من الفصاحة التامةِ والعقلِ الكاملِ والسيرةِ المرضيةِ والأخلاقِ الحميدةِ والبراءةِ من كل عيبٍ والاتصافِ بكل مَكرُمةٍ وإذا كانت هذه النعَمُ محسوسةً ظاهرةً فوجودُها ينفي حصولَ الجنون.
أحدُها: دينُ الإسلام. قالهُ ابن عباس.
الثاني: أدبُ القرءان. قالهُ الحسن.
الثالث: الطبعُ الكريمُ وحقيقةُ الخُلُق.
وقد سُئلت عائشة رضي الله عنها عن خُلُق رسول الله فقالت كان خُلُقَهُ القرءانُ. تعني كان على ما أمرهُ الله به في القرءان. رواهُ مسلمٌ وأحمدُ.
فمهما أمرَهُ القرءانُ فعلَهُ ومهما نهاهُ عنه تركَهُ هذا مع ما جَبَلَهُ الله عليه من الخُلُقِ العظيمِ في الحياءِ والكَرَمِ والشجاعةِ والصّفحِ.
أحدُها: الضَّالُّ قالهُ الحسن.
الثاني: الشيطانُ. قاله مجاهد.
الثالث: المجنونُ قالهُ الضحّاك. والمعنى الذي قد فُتن بالجنون.
والرابعُ: المعذَّبُ. حكاهُ الماوردي.
لو تُلينُ فيَلينونَ لكَ قالهُ ابن السائب.
وقيل: ودّوا لو تداهنُ في دينك فيُداهنون في أديانهم وكانوا أرادوهُ على أن يعبُدَ ءالهَتهم مدةً ويعبدوا الله مدةً.
__________________
وروي أنه دخلَ على أمِّه وقال: إنّ محمدًا وصفني بعشر صفاتٍ وجدتُ تسعًا فيَّ فأمّا الزّنيمُ فلا علمَ لي به، فإن أخبرتني بحقيقتهِ، وإلا ضربتُ عنقَكِ، فقالت: إنّ أباك عِنّينٌ، وخِفتُ أن يموت فيصلَ مالُهُ إلى غيرِ ولدِهِ، فدعوتُ راعيًا إلى نفسي، فأنتَ من ذلكَ الراعي.
ذكرَ أهلُ التفسيرِ أنّ رجلاً بناحيةِ اليمنِ له بستانٌ بقريةٍ يقال لها ضَرَوان، وكانت على فرسَخَين من صنعاء، وكانَ مؤمنًا، وذلك بعدَ عيسى ابن مريم عليهما السلام، وكان يأخذُ منه قدرَ قوتِ سنةٍ، ويتصدَّقُ بالباقي على الفقراء، وكانَ يتركُ للمساكين ما تعدّاهُ المِنجلُ، وما يسقطُ من رؤوس النخل، وما ينتثرُ عندَ الدرس، فكانَ يجتمعُ من هذا الشئُ الكثيرُ. فماتَ الرجلُ عن ثلاثِ بنينَ، فقالوا والله إنّ المال لقليلٌ وإنّ العيالَ لكثيرٌ وإنما كان أبونا يفعل هذا إذ كانَ المالُ كثيرًا، والعيالُ قليلاً، وأمّا الآن فلا نستطيع أن نفعل هذا، فعزموا على حرمانِ المساكين، وتحالفوا بينهم ليغْدُنَّ قبل خروج الناس، فَلْيَصْرِمُنَّ نخلَهُم.
فذلكَ قولُهُ تعالى (1):
______________
ذكر الله تعالى في القرءان الكريم في سورة القلم شيئًا من قصة أصحاب الجنة أي البستان الذين لم يؤدوا حق الله تعالى فيه، فحرمهم منه عقابًا على نيتهم الخبيثة، فما تفاصيل هذه القصة؟.
كانت اليمن مشهورة بكثرة بساتينها وأراضيها الخصبة، وبالقرب من أهم مدنها صنعاء في ناحية اسمها “ضوران” عاش رجل صالح مع أولاده عيشة طيبة، حيث كان له أرض عظيمة الاتساع، منوعة الزروع، كثيرة الأشجار، وافرة الأثمار، فهنا نخيل، وهناك أعناب، وهنالك بقول، فغدت متعة للناظرين، ونزهة للقاصدين، يأتونها للراحة والتمتع بمنظرها الجميل.
وكان الرجل الصالح مسلمًا من أتباع سيدنا عيسى المسيح عليه السلام يشكر الله تعالى على ما أنعم عليه وأعطاه، وكان كلما حان وقت حصاد الزروع يدعو البستاني وأعوانه، فيقطعون بالمناجل ما يقطعونه، ويقطفون الثمار، ثم يبعث بطلب جماعات الفقراء على ما عودهم عليه كل عام، فلا يمنعهم من الدخول بل يعطيهم المنجل فلم يقطعه فكان لهم، وكذلك ما سقط من القمح بعد أن يجمع فوق البساط، وما تركه الحاصد، وما تناثر بين أشجار النخيل بعد فرط ثمارها، رزقًا حلالًا طيبًا، وجرى على هذا كل عام.
لم يتحمل بعض أبناء الرجل الصالح رؤية جزء من مال أبيهم موزعًا بين الفقراء، وبستانه مفتوحًا للمساكين والمحتاجين، وأنهم مثلهم سواء، فقال واحد منهم لوالده: “إنك بعطائك للفقراء، تمنعنا حقنا، وتضييق علينا في رزقنا”، وقال الابن الآخر: “قد نعود بعدك فقراء نمد الأيدي للناس، نشحد منهم”، وهم الثالث بالكلام، فأسكته الوالد وأدار عينيه على الجميع وقال: “ما أراكم إلا خاطئين في الوهم والتقدير، هذا المال مال الله مكنني فيه، وعلى هذا تعودت منذ كنت شابًا، وقد التزمت به رجلاً كهلاً، فكيف بي أن أتركه اليوم وأنا شيخ وموتي قريب” ولم يمكث الرجل الصالح طويلاً، إذ أصيب بمرض وتوفي تاركًا أولاده وبستانه الواسع.
ومضت الأيام سريعة، وحان وقت الحصاد، وترقب الفقراء والمساكين حوله ليأتوا ويأخذوا نصيبهم كما عودهم الرجل الصالح كل عام.
واجتمع الأبناء البخلاء يعدون للحصاد، فقال أحدهم: “لن نعطي بعد اليوم من البستان شيئًا لفقير أو محتاج، ولن يعود مأوى لقاصد أو ابن سبيل فإننا إذا فعلنا هذا، زاد مالنا وعلا شأننا”.
وقال أوسطهم وكان كأبيه طيبًا يحب عمل الخير: “إنكم تقدمون على أمر تظنونه أوفر لكم، ولكنه يحوي الشر،
أحدُهما: لا يقولونَ إن شاء الله قالهُ الأكثرون.
والثاني: لا يستَثنونَ حقَّ المساكينِ قاله عكرمة.
قال المفسرون: بعثَ الله عليها نارًا بالليلِ فاحترقت فصارت سوداءَ.
________________
وسيقضي على بستانكم من جذوره، إنكم لوحرمتم الفقراء ولم تعطوا المساكين والمستحقين زكاة الزرع أخاف عليكم عقاب الله تعالى”.
ولكنهم لم ينصاعوا واتفقوا فيما بينهم سرًا أن يقوموا أول الصبح قبل أن يستيقظ الناس فيأتوا إلى بستانهم ويقطفوا ثماره ويحصدوا زرعه ويقتسموه فيما بينهم، فلا يبقى شئ للفقراء.
وكان الله تعالى عالمًا بما يكيدونه وما اتفقوا عليه، فأرسل سيدنا جبريل عليه السلام ليلاً ببلاء شديد، فاقتلعت نباتهم واحترقت شجراتهم، وجفت أوراقهم وأنهارهم، وأصبح بستانهم أسود كالليل.
وطلع عليهم النهار وهم على مشارف بستانهم يتساءلون: أهذا بستاننا، وقد تركناه بالأمس مورقًا بأشجاره، وافرًا بثماره؟ ما نظن هذا بستاننا وإننا ضالون عنه.
قال أوسطهم: “بل هي جنتكم، حرمتم منها قبل أن يحرم الفقير منها، وجوزيتم على بخلكم وشحكم” فأقبل بعضهم يلوم البعض الآخر، فالأول يقول: “أنت أشرت علينا بمنع المساكين”، ويقول الآخر: “بل أنت زينت لنا حرمانهم”، فيجيبه أحدهم: “أنت خوفتنا الفقراء”، ويقول ءاخرهم: “بل أنت الذي رغبتنا بجمع المال” ثم قالوا: “يا ربنا إنا كنا طاغين” أي عصينا ربنا بمنع الزكاة.
وأدركهم الله تعالى برحمته عندما أظهروا استعدادهم للتوبة وقالوا: “إن أبدلنا الله خيرًا منها سنصنع كما صنع والدنا”، فدعوا الله وتضرعوا وتابوا إليه فأبدلهم من ليلتهم ما هو خير منها، وأمر جبريل عليه السلام أن يقتلع بستانهم المحروق ويجعله في مكان بعيد وأن يأخذ من أرض الشام بستانًا عامرًا ويجعله مكان الأول، فكانت البركة فيه ظاهرة إذ كان عنقود العنب فيه ضخمًا جدًا، وعادوا إلى ما كان عليه والدهم لا يمنعون فقيرًا ولا مسكينًا، يطهرون أموالهم وأنفسهم بما يرضي الله عز وجل.
والحردُ قيلَ اسمٌ للجنةِ، وقيلَ القَصْدُ والمنعُ، وقيلَ معناهُ على جِدٍّ وجَهْدٍ، وقيل على أمرٍ مجتمعٍ قد أسسوه بينهم، وقيل على حَنَقٍ وغَضَبٍ من المساكين.
وعلى التفسير الثاني أنّ الاستثناء بمعنى لا يتركون شيئًا للمساكين من ثمر جنتهم يكونُ معنى لولا تسبّحون أي تتوبونَ وتستغفرونَ اللهَ من ذنوبكم وتفريطكم ومنعكم حقَّ المساكين.
وقيل هلا تسبحونَ اللهَ وتشكرونهُ على ما أعطاكُم.
__________________
_________________
_____________
قال ابن الجوزي في تفسيره “زاد المسير” الطبعة الرابعة 1407هـ (8/341): “وقد روى عكرمة عن ابن عباس: {يومَ يُكشَفُ عن ساقٍ} قال: يُكشَفُ عن شدَّةٍ، وأنشد: وقامت الحربُ بنا على ساق. وهذا قول مجاهد وقتادة” اهـ.
{ويُدْعَونَ إلى السجودِ} هذا السجود سجود امتحان حتى يتميّز المؤمنون الذين كانوا يسجدون لله تعالى عن نية وإخلاص من المنافقين الذين كانوا يتظاهرون بالإسلام ولم يكونوا مسلمين وإنما كانوا يسجدون في الدنيا مع المسلمين أحيانًا، أي حتى ينكشف أمر هؤلاء وينفضحوا يأمر الله الناس بالسجود، فالمؤمنون يسجدون وأما المنافقون فلا يستطيعون لأن ظهورهم لا تطاوعهم على السجود فيفتضحون.
وأما قوله تعالى {والتَفَّتِ الساقُ بالسَّاقِ} أي ساق العباد بعضهم ببعض أي يوم القيامة من شدة الزحمة.
قال الإمام الحافظ المحدث شافعي زمانه ورفاعي أوانه شيخ الإسلام عبد الله بن محمد الهرري الحبشي في كتابه صريح البيان في الرد على من خالف القرءان الطبعة الثالثة 1429هـ طبع دار المشاريع بيروت (ص79): التأويل التفصيلي وإن كان عادة الخلف فقد ثبت أيضًا من غير واحد من أئمة السلف وأكابرهم كابن عباس من الصحابة، ومجاهد تلميذ ابن عباس من التابعين، والإمام أحمد ممن جاء بعدهم، وكذلك البخاري وغيره.
أما ابن عباس فقد قال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري في فتح الباري شرح صحيح البخاري (13/428): “أما الساق فجاء عن ابن عباس في قوله تعالى: {يومَ يُكشَفُ عن ساقٍ} قال: عن شدة من الأمر، والعرب تقول قامت الحرب على ساق إذا اشتدت، ومنه:
قد سن أصحابك ضرب الأعناق وقامت الحرب بنا على ساق
وقال الخطابي كما نقل البيهقي في الأسماء والصفات (ص345): تهيب كثير من الشيوخ الخوض في معنى الساق، ومعنى قول ابن عباس أن الله يكشف عن قدرته التي تظهر بها الشدة، وأسند البيهقي في الأسماء والصفات أيضًا الأثر المذكور عن ابن عباس بسندين كل منهما حسن وزاد: إذا خفي عليكم شئ من القرءان فابتغوه من الشعر، وذكر الرجز المشار إليه، وأنشد الخطابي في إطلاق الساق على الأمر الشديد: في سنة قد كشفت عن ساقها” اهـ. ومثل ذلك نقل الإمام المحدث الأصولي أبو بكر بن فورك في كتابه مشكل الحديث وبيانه طبعة دار عالم الكتب (ص442) عن أبي موسى الأشعري وابن عباس.
___________________
وذكر البيهقي في الأسماء والصفات (ص345): قال ابن عباس: هذا يوم كرب وشدة. وتابعه أبو كريب عن ابن المبارك، وقال أبو سليمان وقال غيره من أهل التفسير والتأويل في قوله {يومَ يُكشفُ عن ساقٍ} أي عن الأمر الشديد.
وقال الحافظ المفسر ابن الجوزي في كتابه الباز الأشهب طبعة دار الجنان (ص48) في الآية {يومَ يُكشفُ عن ساقٍ} ما نصه: “قال ابن عباس ومجاهد وإبراهيم النخعي وقتادة وجمهور العلماء يكشف عن شدة، وأنشدوا: وقامت الحرب بنا على ساق. وقال عاصم بن كليب: رأيت سعيد بن جبير غضب وقال: يقولون يكشف عن ساقه: وإنما ذلك عن أمر شديد”.
تنبيه مهم: أنكر ابن تيمية المجاز فقال في كتابه المسمى “الإيمان” ص 94 ما نصه: “فهذا بتقدير أن يكون في اللغة مجاز، فلا مجاز في القرءان، بل وتقسيم اللغة إلى حقيقة ومجاز تقسيم مبتدع محدث لم ينطق به السلف، والخلف فيه على قولين، وليس النزاع لفظيًا، بل يقال: نفس بهذا التقسيم باطل لا يتميز هذا عن هذا” اهـ.
الجواب: “أن المجاز ثابت عن الصحابة، فقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنه حيث إنه استند إلى تفسير بعض الآيات إلى بعض أشعار العرب التي ألفاظها بعيدة من المعنى الأصلي كتفسيره الساق في قوله تعالى: {يومَ يُكشَفُ عن ساق} بالشدة فقال في فتح الباري (13/428): عن شدة من الأمر، والعرب يقولون: قامت الحرب على ساق إذا اشتدت، ومنه:
قد سن أصحابك ضرب الأعناق *** وقامت الحرب بنا على ساق” اهـ،
وقد أسند الحافظ البيهقي في الأسماء والصفات (ص345-346) الأثر المذكور عن ابن عباس بسندين كل منهما حسن وزاد: “إذا خفي عليكم شئ من القرءان فابتغوه من الشعر فإنه ديوان العرب” اهـ، وهذا هو عين المجاز.
وكذا أثبت المجاز من السلف المحدث المجتهد اللغوي أبو عبيدة معمر بن المثنى فقد صنف كتاب المجاز.
وليس من شرط المجاز أن يكون كل أئمة السلف عبروا بهذا اللفظ بل العبرة بالمعنى، والمجاز هو اللفظ المستعمل في غير حقيقته بمعنى يقتضي ذلك، فكلمة الساق معناها الأصلي بعيد جدًا من المعنى الذي فسر ابن عباس الآية، لكن أساليب لغة العرب لا تأبى ذلك بل توافق، فكثيرًا ما ينقلون اللفظ عن معناه الأصلي إلى غيره.
وما دفع ابن تيمية إلى إنكار المجاز إلا شدة تعلقه بعقيدة التشبيه، وما إنكاره المجاز إلا محاولة منه لإجراء النصوص المتشابهة على ظاهرها نسأل الله السلامة.
وأما الحديث الذي رواه البخاري في كتاب “التفسير” باب (وتقول هل من مزيد) (7/733) حديث رقم 4850، ومسلم في كتاب “الجنة” باب (النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء) (9/198): “وأما أهل النار فإنهم يلقون فيها فتقول: هل من مزيد فلا تمتلئ حتى يضع فيها رجله” فقد قال فيه الحافظ الأصولي أبو بكر بن فورك في كتابه “مشكل الحديث وبيانه” طبعة دار عالم الكتب الطبعة الثانية 1405هـ (ص443-444) ما نصه: “اعلم أنا ذكرنا هذا الخبر في ما تقدم، وبينا تأويله وذكرنا أنه يحتمل أن يكون المعنى فيه ما يضعه الله في النار من الكفار، وهم الخلق الكثيرون فتمتلئ جهنم بهم، وأنه سمي ذلك “رجلاً” على عادة العرب في تسمية الجماعة “رجلاً” لأنهم يقولون للجراد الكثير “رجل”، ويقولون: جاءت رجل من الجراد يعنون بذلك جمعًا كثيرًا. ويحتمل أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد بالرجل ههنا الخلق الكثير، وإضافته إلى الله تعالى على طريق الملك والفعل”.
وذكر المفسر القرطبي في كتابه “صفات الله تعالى” طبعة دار الكتب العلمية الطبعة الأولى 1422هـ في (ص81) ما نصه: “قال الترمذي: وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: وءايات كثيرة مثل هذا ما يذكر فيه أمر الرؤية، وذكر القدم وما أشبه هذه الأشياء والمذهب في هذا عند أهل العلم من الأئمة مثل سفيان الثوري، ومالك بن أنس، وسفيان بن عيينة، وابن المبارك، ووكيع، وغيرهم أنهم رووا هذه الأشياء، وقالوا: تُروى هذه الأحاديث ونؤمن بها ولا يُقال كيف؟ وهذا الذي اختاره أهل الحديث أن يرووا هذه الأشياء كيف جاءت، ويؤمن بها ولا تتوهم ولا
_______________
يقال كيف؟ قال وهذا أمر أهل العلم الذي اختاروه وذهبوا إليه”. وفي (ص82) قال: “قال أبو سليمان: وذكر القدم ها هنا يحتمل أن يكون المراد به من قدمهم الله للنار من أهلها فيقع بهم استيفاء عدد أهل النار وكل شئ قدمتَه فهم قدم، كما قيل: لما هدمته هدم، ولما قبضتَه قبض. ومن هذا قوله عز وجل: {أنَّ لهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عندَ ربِّهِم} [سورة يونس/2] أي: ما قدموه من الأعمال الصالحة، وقد رُوي معنى هذا عن الحسن، ويؤيد هذا قوله في الحديث: “وأما الجنة فإن الله ينشئ لها خلقًا” فاتفق المعنيان في أن كل واحدة من الجنة والنار تمد بزيادة عدد يستوفى بها عدة أهلها فتمتلئ عند ذلك.
قلت: “على هذا التأويل أكثر العلماء وأن القدم، وإن كان –الظاهر يوهم- منها الجارحة فإن الله تعالى متعال عن ذلك والعرب تطلق القدم على السابقة في الأمر، يقال لفلان قدم صدق، أي أثرة حسنة”. وقال في ص 84: “وقال النضر بن شميل: في معنى قوله (حتى يضع الجبار فيها قدمه) أي من يسبق في علمه أنه من أهل النار. قال أبو سليمان الخطابي: وقد تأول بعضهم الرِّجل على معنى من هذا. قال: والمراد به استيفاء عدد الجماعة الذين استوجبوا دخول النار. والعرب تسمي الجراد رِجلاً، كما سموا جماعة الظباء سربًا، وجماعة النعام خيطًا، وجماعة الحمير عانة، قال: وهذا وإن كان اسمًا خالصًا لجماعة الجراد فقد استعار جماعة الناس على سبيل التشبيه والكلام المستعار والمنقول من موضعه كثير، والأمر فيه عند أهل اللغة مشهور” اهـ.
ويشهد لصحة ذلك ما جاء في صحيح مسلم تحت رقم الحديث 3326 –حدثنا أحمدُ بنُ جَنابٍ المِصِّيصيُّ حدَّثنا عيسى بنُ يُونُسَ عن زَكَريَّاءَ عن أبي إسحاقَ قالَ “جاءَ رجلٌ إلى البَراءِ فقالَ أكُنتُم وَلَّيتُم يومَ حُنَينٍ يا أبا عُمارةَ فقالَ أشهدُ على نبيِّ الله صلى الله عليه وسلم ما وَلَّى ولكنهُ انْطَلقَ أخِفَّاءُ من الناسِ وحُسَّرٌ إلى هذا الحيِّ مِنْ هَوَازِنَ وهُمْ قومٌ رُماةٌ فرَمَوهُمْ بِرِشقٍ منْ نَبْلٍ كأنها رِجلٌ من جرادٍ” اهـ.
قال الفقيهُ الحافظ المحدث شيخ الإسلام عبد الله الهرري رحمه الله رحمة واسعة، في كتابه “الدليل القويم على الصراط المستقيم”: “وأما الساق فلم يرد مضافًا إلى الله في حديث صحيح. والرواية الصحيحة هي الموافقة لما جاء في الكتاب من قوله تعالى: {يومَ يُكشَفُ عن ساقٍ}.
وقد فسر ابن عباس الساق بالكرب والشدة ولا يعول على رواية ساقه بالضمير اهـ.
وأما القَدَمُ والرِجلُ فمعناه الجماعة الذين يُقدِّمُهُم اللهُ للنارِ فتمتلئ بهم وذلك في ما رواه البخاري وغيره: “لا تزال جهنم تقول هل من مزيد حتى يضع ربُ العزةِ فيها قدمه فتقول قط قط“.
وكذلك ما ورد أن النار لا تمتلئ حتى يضع اللهُ فيها رجله فتقول قط قط المراد بالرجل الفوج الذي يملأ الله بهم النار. ولغة العرب صالحة لهذا المعنى. ولا يجوز جعل القدم والرجل من باب الصفات بل الإضافة فيهما إضافة مِلكٍ. فمن جعل لله قدمًا ورجلًا بمعنى الجزء فقد جعل الله مثل خلقه وذلك كفر، وكذبَ قول الله تعالى: {لو كانَ هؤلاءِ ءالهةً ما وَرَدُوها} [سورة الأنبياء/99] فقد أفهمنا أن كل شئ يَرِد النار فهو مخلوق ليس بإله” اهـ.
وبعد هذه الأدلة الساطعة الناصعة في تنزيه الله عن حقيقة القدم والرِّجل من نصوص علماء الإسلام من الصحابة ومن بعدهم وعلماء اللغة، أن هذا الحديث مؤول، وليس على ظاهره كما قال دكتور مجسّم مشبه من أهل هذا العصر من أتباع ابن تيمية الحراني “إن الله له رجل حقيقية ويضعها في جهنم فلا تحترق كما أن ملائكة العذاب في جهنم لا يحترقون”. وما يقول هذا الدكتور المجسم في قول الله عز وجل {ولكنْ حقَّ القولُ مِنِّي لَأمْلَأنَّ جَهَنَّمَ منَ الجِنَّةِ والناسِ أجمعين}، فإن كانت جهنم ستُملأ بالجن والإنس الكفار كما أخبر الله تعالى في القرءان، فأين تكون رِجل الله جارحة وجسم بزعم هذا الكافر الزنديق، والله تعالى لم يقل (لأملأنَّ جهنم برجلي) بل قال {منَ الجِنةِ والناسِ أجمعين} كأمثال هذا الدكتور إن مات على هذا المعتقد، وبزعمهم هذا يكون إبليس وفرعون وهامان وقارون وشداد بن عاد وأبو جهل وأبو لهب أقرب إلى ذات الله من الأنبياء الذين
_______________________
يكونون في الجنة، فعلى زعم الوهابية يكون جزء من الله في جهنم مع الكفار، والعياذ بالله من هذا التشبيه الصريح والتجسيم القبيح الذي وصل إليه الوهابية بسبب أفكار ابن تيمية الذي قال بإنكار ونفي المجاز، فحمل الآيات والأحاديث المتشابهة على ظاهرها وأتباعه، فزاغوا فضلوا وأضلوا.
ونقول لهم: ماذا تقولون في الحديث القدسي الصحيح الذي رواه البخاري في صحيحه تحت رقم الحديث 6021، يقول الله فيه: “فإذا أحببتُه كنتُ سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يُبصر به ويده التي يبطش بها ورِجله التي يمشي بها”. هل تزعمون أنه على ظاهره وتمنعون من تأويله فيكون الله على زعمكم رِجل هذا الولي؟!! أم تزعمون أنه حالٌّ فيها؟!! وإذا عَمِيَ هذا الولي أو شُلَّت يده أو قُطعت رجلُه، فهل تزعمون أن الله مات أو أصابه ضرر أو تجزأ، وإذا داس هذا الولي في النجاسة أو بال على رِجله صبيٌ أو داس الناس بنعالهم على رِجل هذا الولي، فهل تزعمومن أن الله خالط هذه النجاسات وأن البول عليه أو أنه تحت أقدام الناس ونعالهم لأنهم داسوا على رِجل هذا الولي؟!!! تنزّه الله عن ذلك كله وهذا من أبشع الكفر، فيلزمكم التأويل هنا كما في حديث “يضع رب العزة رجله فيها”، فوجب التأويل في الموضعين، ومعنى الحديث القدسي “كنتُ سمعه” أي أحفظ سمعَه من أن يسترسل به في المعاصي والمحرمات، فلا يستمع إلى ما حرَّم الله، وهكذا في البصر واليد والرِّجل.
قال الإمام أبو سليمان الخطابي (388هـ) في كتابه “أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري” المملكة العربية السعودية، جامعة أم القرى، المسمى معهد البحوث العلمية وإحياء التراث الإسلامي، مكة المكرمة، الطبعة الأولى 1409هـ (3/1930): “قلتُ: وهذا الحديث مما قد تهيَّب القولَ فيه شيوخنا، فأجْروهُ على ظاهر لفظه ولم يكشفوا عن باطن معناه على نحو مذهبهم في التوقف عن تفسير كل ما لا يُحيطُ العلم بكنه من هذا الباب، وقد تأوله بعضهم على معنى قوله {يومَ يُكشَفُ عن ساق}، فروى عن ابن عباس أنه قال عن شدة وكرب” اهـ. ونقله البيهقي (458هـ) عنه في كتابه “الأسماء والصفات” (الناشر المكتبة الأزهرية للتراث، الطبعة الأولى ص 325) وعلق الكوثري (ص324) بقوله: “هذا لفظ سعيد بن أبي هلال، وهو لفظ منكر. قال الإسماعيلي في قوله (عن ساقه) نكرة، ثم ساق بطريق حفص بن ميسرة بلفظ {يُكشَفُ عن ساقٍ}) من غير ضمير، وقال: هذه أصح لموافقتها لفظ القرءان في الجملة، ولا يظن أن الله ذو أعضاء وجوارح لما في ذلك من مشابهة المخلوقين، تعالى الله عن ذلك” اهـ. ونقل قول الخطابي أيضًا محمد بن يوسف الكرماني (786هـ) في كتابه “شرح الكرماني على صحيح البخاري” دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1431هـ (9/161).
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني (852هـ) في كتابه “فتح الباري بشرح صحيح البخاري” دار الريان-القاهرة، الطبعة الأولى 1407هـ، كتاب التفسير، (8/532): “ووقع في هذا الموضع (يكشف ربنا عن ساقه) وهو من رواية سعيد بن أبي هلال عن زيد بن أسلم فأخرجها الإسماعيلي كذلك ثم قال: في قوله (عن ساقه) نكرة. ثم أخرجه من طريق حفص بن ميسرة عن زيد بن أسلم بلفظ {يُكشَفُ عن ساق} قال الإسماعيلي: هذه أصح لموافقتها لفظ القرءان في الجملة، لا يظن أن الله ذو أعضاء وجوارح لما في ذلك من مشابهة المخلوقين، تعالى الله عن ذلك ليس كمثله شئ” اهـ. وكذا قال التَّاوُدي (1209هـ) في “حاشية التاودي ابن سودة على صحيح البخاري” دار الكتب العلمية الطبعة الأولى 1428هـ، (4/570).
وقال بدر الدين العيني الحنفي (855هـ) في كتابه “عمدة القاري شرح صحيح البخاري” دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1421هـ، كتاب التفسير، (9/369-370): “قوله (يكشف ربنا عن ساقه) من المتشابهات، ولأهل العلم في هذا الباب قولان: أحدهما: مذهب معظم السلف أو كلهم تفويض الأمر فيه إلى الله تعالى والإيمان به، واعتقاد معنى يليق لجلال الله عز وجل، والآخر: هو مذهب بعض المتكلمين أنها تتأول على ما يليق به، ولا يسوغ ذلك إلا لمن كان من أهله بأن يكون عارفًا بلسان العرب وقواعد الأصول والفروع، فعلى هذا قالوا: المراد بالساق هنا الشدة، أي: يكشف الله عن شدة وأمر مهول وكذا فسره ابن عباس” اهـ.
وقال شهاب الدين أحمد بن محمد الشافعي القسطلاني (923هـ) في كتابه “إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري” دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1416هـ (11/171): “وأخرج الإسماعيلي من طريق حفص بن ميسرة عن زيد بن أسلم {يُكشَفُ عن ساقٍ} قال الإسماعيلي هذه أصح لموافقتها لفظ القرءان والله تعالى يتعالى عن شبه
_______________________
المخلوقين” اهـ.
وقال ملا علي القاري الحنفي في كتابه “مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح” طبع دار إحياء التراث العربي، (2/136) بعد كلام في مذهبي السلف والخلف: “يُعلم أن المذهبين متفقان على صرف تلك الظواهر كالمجيء والصورة والشخص والرِّجل والقدم واليد والوجه والغضب والرحمة والاستواء على العرش والكون في السماء وغير ذلك مما يُفهمه ظاهرها لما يلزم عليه من محالات قطعية البطلان تستلزم أشياء يُحكم بكفرها بالإجماع فاضطر ذلك جميع الخلف والسلف إلى صرف اللفظ عن ظاهره” اهـ.
تضعيف الحفاظ والعلماء
لحديث يوم يكشف ربنا عن ساقه
روى البخاري في صحيحه في كتاب تفسير القرءان باب قوله تعالى: {يومَ يُكشَفُ عن ساقٍ} (تفسير القرءان ص922): حدَّثنا ءادم حدَّثنا الليثُ عن خالدِ بنِ يَزيدَ عن سعيدِ بنِ أبي هلالٍ عن زيدِ بنِ أسلَمَ عن عطاءِ بن يسارٍ عن أبي سعيدٍ رضي الله عنهُ قالَ: سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: يَكْشِفُ ربُّنا عن ساقِهِ فيسجُدُ لهُ كلّ مؤمنٍ ومُؤمنةٍ فيبقى كل مَنْ كانَ يسجدُ في الدنيا رياءً وسُمعةً فيذهبُ ليسجدَ فيعُودُ ظهرُهُ طبَقًا واحِدًا” اهـ.
وأيضًا في كتاب التوحيد (ص1344)، باب قول الله تعالى {وجُوهٌ يومئذٍ ناضِرةٌ* إلى ربِّها ناظرةٌ}. نقل الذهبي في كتابه “سير أعلام النبلاء” (ص329) إنكار الإمام مالك (93هـ) للفظ ساقه: “أبو أحمد بن عَدي: حدثنا أحمد بن علي المدائني، حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن جابر، حدثنا أبو زيد بن أبي الغمر، قال: قال ابن القاسم: سألت مالكًا عمَّن حدَّث بالحديث، الذين قالوا: (إن الله خلق ءادم على صورته)، والحديث الذي جاء: (إن الله يكشف عن ساقه)، وأنه (يُدخل يده في جهنم حتى يُخرج من أراد). فأنكر مالك ذلك إنكارًا شديدًا، ونهى أن يُحدِّثَ بها أحدًا” اهـ. لا شك أن مالكًا أوسع اطلاعًا ممن أثبت هذا اللفظ من غير تحقيق فلذلك أُكرهَ هذا الإمام الكبير الذي هو من أئمة أهل السنة والجماعة ولا يخفى أنه عاش في زمن السلف الصالح.
وقال الإمام أبو سليمان الخطابي (388هـ) في كتابه “أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري” (3/1930): قلتُ: وهذا الحديث مما قد تهيَّب القولَ فيه شيوخنا، فأجْروهُ على ظاهر لفظه ولم يكشفوا عن باطن معناه على نحو مذهبهم في التوقف عن تفسير كل ما لا يُحيط العلم بكنهه من هذا الباب، وقد تأوَّله بعضهم على معنى قوله {يومَ يُكشفُ عن ساقٍ}، فروي عن ابن عباس أنه قال: عن شدة وكرب” اهـ. ونقله البيهقي (458هـ) عنه في كتابه “الأسماء والصفات” (ص325) وعلَّق المحدث الكوثري بقوله (ص324): “هذا لفظ سعيد بن أبي هلال، وهو لفظ منكر. قال الإسماعيلي في قوله (عن ساقه): نكرة، ثم ساق بطريق حفص بن ميسرة بلفظ {يُكشَفُ عن ساق} من غير ضمير، وقال: هذه أصح لموافقتها لفظ القرءان في الجملة، ولا يظن أن الله ذو أعضاء وجوارح لما في ذلك من مشابهة المخلوقين، تعالى الله عن ذلك” اهـ.
ونقل قول الخطابي أيضًا محمد بن يوسف الكرماني (786هـ) في كتابه “شرح الكرماني على صحيح البخاري” (9/161).
وهو ما نقله الحافظ ابن حجر العسقلاني (852هـ) في كتابه “فتح الباري بشرح صحيح البخاري” (8/532).
وكذا قال التاودي (1209هـ) في “حاشية التاودي ابن سودة على صحيح البخاري” (4/570).
وكذا نقله شهاب الدين أحمد بن محمد الشافعي القسطلاني (923هـ) في كتابه “إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري” (11/171).
وأهل السنة والجماعة ينزهون الله تعالى عن الساق الحقيقية، ويؤولون ما ورد في القرءان على معنى الشدة الشديدة والأمور العظيمة التي يُظهرها الله يوم القيامة، والله منزه عن الجسم والأعضاء والجوارح والآلات
__________________
والأدوات والحركات والسكنات وكل ما كان من صفات المخلوقين، لأنه سبحانه ليس كمثله شئ، ومن وصف الله بمعنى من معاني البشر فقد كفر”.
وقال أبو يحيى زكريا بن محمد الأنصاري (926هـ) في كتابه “تحفة الباري بشرح صحيح البخاري” (5/245): {يوم يُكشفُ عن ساق} أي عن أمر شديد” اهـ.
(1)الرسول كان مأمورًا بالعفو ثم أمر بالقتال فقاتل.
يونس عليه السلام غضبه على قومه كان لأنهم لم يؤمنوا وتمادوا في الكفر وكونه خرج من بينهم بلا إذن من الله ليس فيه خسة ولا دناءة وخساسة بل هو ذنب صغير ليس فيه شئ من ذلك ثم تاب الله عليه (1).
____________________________
ومن نسبة العجز إليه
لا يجوز أن يعتقد أن نبيّ الله يونس عليه السلام ذهب مُغاضبًا لربه فإن هذا كفر وضلال ولا يجوزُ في حق أنبياء الله الذين عصمهم الله وجعلهم هُداةً مُهتدين عارفين بربهم، فمن نسب إلى يونس عليه السلام أنه ذهب مغاضبًا لله فقد افترى على نبي الله ونسبَ إليه الجهل بالله والكفر به وهذا يستحيل على الأنبياء لأنهم معصومون من الكفر والكبائر وصغائر الخسة قبل النبوة وبعدها، وأمّا قوله تعالى {فظنَّ أن لن نَّقدِرَ عليهِ} أي ظنَّ أن الله تعالى لن يُضيقَ عليه بتركه لقومه قبل أن يؤمر بذلك، ولا يجوز أيضًا أن يعتقد أن نبي الله يونس عليه السلام ظن أن الله تعالى لا يستطيع عليه لأن هذا مما لا يعذر فيه أحد العوامّ فضلاً عن نبي كريم. فأنبياء الله تعالى جميعهم عارفون بالله وهم أفضل خلق الله وقد عصمهم الله تعالى من الجهل به ومن كل فعل وقول واعتقاد ينافي العصمة، ومن نسب إلى نبي الله أنه ظن أن الله تعالى لا يستطيع عليه فقد نسب إليه الكفر والجهل بالله، وهذا لا يجوز في حق الأنبياء للعصمة الواجبة في حقهم. فجميع الأنبياء منذ نشأتهم كانوا عارفين بالله، وقد أفاض الله تبارك وتعالى على قلوبهم معرفته، فكانوا مؤمنين مسلمين معصومين من الكفر والضلال، فهم لا يعتقدون ما ينافي العقيدة الصحيحة التي أمرهم باتباعها وتعليمها للناس.
ما حصل لسيدنا يونس عليه الصلاة والسلام في بطن الحوت
لما وَعَدَ يونس بن متّى قومَه بالعذاب بعد ثلاثة أيام إن لم يؤمنوا وخرج من بينهم مغاضبًا لهم بسبب كفرهم وإصرارهم وتماديهم في غَيهم وضلالهم سار حتى وصل إلى شاطئ البحر فوجد قومًا في سفينة في البحر، فطلب من أهلها أن يُركبوه معهم فتوسموا فيه خيرًا فأركبوه معهم في السفينة، وسارت بهم السفينة تَشقُّ البحر فلما توسطوا البحر جاءت الرياح الشديدة وهاج البحر بهم واضطربت بشدة حتى وَجلت القلوب فقال من في السفينة: إنّ فينا صاحب ذنب فأسهموا واقترعوا فيما بينهم على أنّ من يقع عليه السهم يلقونه في البحر، فلمّا اقترعوا وقع السهم على نبي الله يونس عليه الصلاة والسلام، ولكن لما توسموا فيه خيرًا لم يسمحوا لأنفسهم أن يلقوه في البحر، فأعادوا القرعة ثانيةً فوقعت عليه أيضًا، فشمَّر يونس عليه السلام ليلقي بنفسه في البحر فأبوا عليه ذلك لما عرفوا منه خيرًا، ثم أعادوا القرعة ثالثة فوقعت القرعة عليه أيضًا، فما كان من يونس عليه السلام إلا أن ألقى بنفسه في البحر المظلم وتحت ظلمة الليل الحالك، وكان إلقاؤه بنفسه في البحر لأنه كان يعتقد أنه لا يصيبه هلاك بالغرق فلا يجوز أن يظن أن ذلك انتحار منه لأن الانتحار أكبر الجرائم بعد الكفر وذلك مستحيل على الأنبياء وعلى هذا يحمل ما ورد في البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم حين فتر الوحي عنه في أوائل البعثة همَّ أن يلقي بنفسه من ذِروة الجبل ولم يكن همه بذلك إلا لتخفيف شدة الوَجدِ الذي حصل له من إبطاء الوحي عليه للانتحار فإنه حصل لكثير من الأولياء أنهم مشوا على الماء ولم يغرقوا، فمن حمل ما ورد في البخاري من هذه القصة أن الرسول أراد أن ينتحر فقد كفر.
وعندما ألقى يونس عليه السلام بنفسه في البحر وكّل الله تبارك وتعالى به حوتًا كبيرًا فالتقمه وابتلعه ابتلاء له على تركه قومه الذين أغضبوه دون إذن، فدخل نبي الله يونس عليه السلام إلى جوف الحوت تحفُّهُ عنايةُ الله حتى صار وهو في بطن الحوت في ظلمات حالكة ومدلهمة ثلاث وهي ظلمةُ الليل وظُلمةُ البحر وظلمةُ بطن الحوت. ثم إن الحوت بقدرة الله تعالى لم يضر يونس ولم يجرحه ولم يخدش له لحمًا ولم يكسر له عظمًا، وسار الحوت وفي جوفه يونس عليه السلام يشق به عباب البحر حتى انتهى به إلى أعماق المياه في البحر، وهُناك سمع يونس عليه الصلاة والسلام وهو في بطن الحوت حِسًّا وأصواتًا غريبة فقال في نفسه: ما هذا؟ فأوحى الله
قول يونس عليه السلام (إني كنت من الظالمين) هو في معرض التذلل والتضرع إلى الله، وليس الظلم الذي هو من الكبائر لأن الأنبياء معصومون من ذلك، والظلم في اللغة يأتي بعدة معانٍ، منها كقوله تعالى {كِلْتا الجَنَّتَينِ ءاتَتْ أُكُلَها ولمْ تَظلِم منهُ شيئًا} [سورة الكهف/33]. في قصة البستان والثمار، أي لم تنقص منه شيئًا، فليتنبه لذلك، فإن يونس عليه السلام ليس ظالمًا، ولم يقع في كبيرةٍ ولا في صغيرة من نوع الخسة والدناءة.
________________________
إليه وهوَ في بطن الحوت: إنَّ هذا تسبيح دواب البحر، فما كان من نبي الله يونس عليه السلام وهو في بطن الحوت وفي تلك الظلمات المدلهمة إلا أن أخذ يدعو الله عز وجل ويستغفره ويسبّحه تبارك وتعالى قائلاً ما ورد عنه في القرءان {وذا النُّونِ إذ ذهبَ مُغاضِبًا فظَنَّ أن لن نقدِرَ عليهِ فنادى في الظُّلُماتِ أن لا إلهَ إلا أنتَ سُبحانَكَ إني كنتُ منَ الظالمينَ} [سورة الأنبياء/87] وسمِعت ملائكة السماء تَسبيحهُ لله عز وجل وسألوا الله تعالى أن يُفرّجَ الضيقَ عنه، واستجاب الله تعالى دعاءهُ ونجاهُ منَ الغمّ والكرب والضيق الذي وقع فيه لأنه كانَ من المُسَبّحين له في بطنِ الحوت والذاكرين، وأمرَ الله تعالى الحوت أن يلقيه في البرِّ فألقاهُ الحوت بالعراء وهو المكان القفر الذي ليس فيه أشجار والأرض التي لا يُتوارى فيه بشجر ولا بغيره، ويونس عليه السلام مريض ضعيف. وقد مكث نبي الله يونس عليه الصلاة والسلام في بطن الحوت ثلاثة أيام، وقيل: سبعة أيام، وقيل غير ذلك. ولولا أنه سبّح الله وهو في بطن الحوت وقال ما قال من التسبيح والتهليل للبث في بطن الحوت إلى يوم القيامة ولبُعث من جوف الحوت، قال الله تبارك وتعالى: {وإنَّ يونُسَ لَمِنَ المُرْسَلينَ* إذْ أبَقَ إلى الفُلكِ المَشْحونِ* فساهَمَ فكانَ منَ المُدْحَضينَ* فالْتَقَمَهُ الحوتُ وهُوَ مُليمٌ* فلولا أنهُ كانَ منَ المُسَبِّحينَ* للَبِثَ في بطنِهِ إلى يومِ يُبْعَثون* فَنَبَذهُ بالعراءِ وهُوَ سقيمٌ* وأنبَتنا عليهِ شجرةً مِن يقطينٍ* وأرْسَلناهُ إلى مائةِ ألفٍ أوْ يزيدونَ* فآمَنوا فمَتَّعْناهُم إلى حينٍ} [سورة الصافات/139-140-141-142-143-144-145-146-147-148].
فائدة: إذا قيل: ما الفائدة في إنباتِ شجرة اليقطين عليه دون غيرها؟
فالجواب: أنَّ يونس عليه السلام خرج من بطن الحوت ضعيفًا مريضًا وهزيلاً في بدنه وجِلده، فأدنى شئ يمرُّ به يُؤذيه، وفي ورق اليقطين –القرع- خاصيةٌ وهو أنه إذا تُركَ على شئ لم يقرَبه ذباب، فأنبته الله سبحانه وتعالى على يونس ليغطيه ورقُها ويمنع الذبابَ ريحُه أن يسقط عليه فيؤذيه. وفي إنبات القرع عليه حكمٌ كثيرة منها: أن ورقه في غاية النعومة، وأهمية تظليل ورقه عليه لكبره ونعومته، ويؤكل ثمره من أول طلوعه إلى ءاخره نيئًا ومطبوخًا وبقشره وببذره أيضًا، وقد ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يأكل منه.
وقد سخَّر الله تبارك وتعالى لنبيّه يونس عليه السلام بعد أن ألقاهُ الحوت من بطنِهِ أُرْويّة –وهي الأنثى من الوعول- يستفيد من لبنها فكانت ترعى بالبرية وتأتيه بكرةً وعشية ليتغذى بلبنها وهذا من رحمة الله تبارك وتعالى وعنايته بنبيه يونس عليه الصلاة والسلام.
عودة نبي الله يونس عليه الصلاة والسلام إلى قومه
ولمّا أًصاب نبي الله يونس عليه الصلاة والسلام ما أصابه من ابتلاع الحوت له، علم عليه السلام أنّ ما أصابه حصل له ابتلاء له بسبب استعجاله وخروجه عن قومه الذين أرسِلَ إليهم بدون إذن من الله تعالى، وعاد عليه الصلاة والسلام إلى قومه أهل نينوى في العراق فوجدهم مؤمنين بالله تائبين إليه منتظرين عودة رسولهم يونس عليه السلام ليأتمروا بأمره ويتبعوه، فمكثَ عليه الصلاة والسلام معهم يعلمهم ويرشدهم، ومتّع الله تعالى أهل
قال الإمام الهرري رضي الله عنه: “معناه تيب عليه قبل أن يخرج من بطن الحوت”.
_________________
نينوى في مدينتهم مدة إقامة يونس فيهم وبعده ءامنين مُطمئنين إلى حين، ثم لمّا ضلوا بعد ذلك عن الصراط المستقيم الذي جاءهم به نبيُّهم وتولوا عن الإيمان دمرَ الله تعالى لهم مدينتهم، وأنزل عليهم العذابَ وصارت مدينتهم عبرةً للمعتبرين، يقول الله تبارك وتعالى {وأرْسَلناهُ إلى مائةِ ألفٍ أوْ يزيدونَ* فآمَنوا فمَتَّعناهُم إلى حين} [سورة الصافات/147-148].
فائدة: كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يلتجئ إلى الله عند الكرب والغمّ والشدائد فكان يكثرُ الصلاة والدعاء ويكثرُ ذكرَ الله تعالى، فقد ثبتَ أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أكربه أمرٌ قال: “يا حيُّ يا قيوم برحمتكَ أستغيثُ”.
وروى الحاكم في مستدركه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “دعوةُ ذي النون إذ دعا ربَّهُ وهو في بطنِ الحوت: لا إله إلا أنتَ سُبحانكَ إني كنت من الظالمين، فإنهُ لم يَدْعُ بها رجلٌ مسلمٌ في شئٍ قط إلا استجاب لهُ” قال الحاكم أبو عبد الله: هذا صحيح الإسناد، ورواه الترمذي والنسائي.
وقال صلى الله عليه وسلم: “إني لأعلمُ كلمةً لا يقولها مكروبٌ إلا فرّج الله عنه كلمة أخي يونس صلى الله عليه وسلم” {فنادى في الظُّلُماتِ أن لا إلهَ إلا أنتَ سبحانَكَ إني كنتُ من الظالمين} [سورة الأنبياء/87].
قال في كتابه مختصر عبد الله الهرري الكافل بعلم الدين الضروري: ويجبُ اعتقادُ أن كلّ نبي من أنبياء الله يجبُ أن يكونَ متصفًا بالصدقِ والأمانةِ والفطانةِ، فيستحيلُ عليهم الكذبُ والخيانةُ والرذالةُ والسفاهةُ والبلادةُ، وتجبُ لهم العصمةُ منَ الكفرِ والكبائرِ وصغائرِ الخسةِ قبلَ النبوةِ وبعدَها، ويجوزُ عليهم ما سوى ذلكَ من المعاصي لكنْ يُنبّهونَ فورًا للتوبةِ قبلَ أن يقتديَ بهم فيها غيرُهُم. فمِن هنا يعلم أن النبوة لا تصحُّ لإخوةِ يوسفَ الذينَ فعلوا تلكَ الأفاعيلَ الخسيسة وهم مَن سوى بنيامين. والأسباط الذينَ أنزل عليهم الوحي هم مَنْ نُبِّئَ من ذريتهم.
تذهبُ إلا قليلاً حتى يسقطُ ما عانهُ (1) فسألَ الكفارُ هذا الرجل أن يصيبَ رسول الله بالعينِ ويفعلَ بهِ مثلَ ذلكَ فعصَمهُ الله (2). قال المحدث العبدري رضي الله عنه: “هذه الآيةُ دليلٌ على وجودِ الإصابة بالعين”.
فائدة: قال المحدث العبدري رضي الله عنه: “بسبب حفظ القرءان لا يحصل جنون”، وقال: “التقي الذي يحفظ القرءان لا يصاب بالخرف ولا بالجنون”
_______________________