الأحد ديسمبر 22, 2024

فصل الخطاب في مسئلة النقاب

الحمد لله وصلى الله وسلم على سيدنا رسول الله وعلى ءاله وصحبه الطيبين الطاهرين أما بعد، فهذه فائدة مهمة فيها بيان حكم شرعي اتفق عليه المجتهدون ولا خلاف فيه بينهم وتناقله العلماء خلفا عن سلف ألا وهو:

جواز خروج المرأة كاشفة الوجه وأن على الرجال غض البصر، يعني مع ستر ما يجب عليها ستره.

فقد نقل إجماع الأمة المحمدية على ذلك جمع كبير من العلماء منهم الإمام المجتهد ابن جرير الطبري في تفسيره (حيث بين أن وجهها ليس بعورة إجماعا) والقاضي عياض المالكي في الإكمال وإمام الحرمين الجويني والقفال الشاشي والإمام الرازي بل نقل ابن حجر الهيتمي عن جمع من العلماء الإجماع على ذلك.

يقول الله تعالى (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) قالت السيدة عائشة والإمام عبد الله بن عباس رضي الله عنهم [إلا ما ظهر منها الوجه والكفان]. اهـ ومثل ذلك قال الإمام أحمد. اهـ

ومما يدل على ذلك حديث المرأة الخثعمية الذي أخرجه البخاري ومسلم ومالك وأبو داود والنسائي والدارمي وأحمد من طريق ‏عَبْد اللَّهِ بْن عَبَّاسٍ ‏ ‏رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ‏قَالَ [واللفظ للبخاري] ‏ أَرْدَفَ رَسُولُ اللَّهِ ‏‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏الْفَضْلَ بْنَ عَبَّاسٍ ‏‏يَوْمَ النَّحْرِ خَلْفَهُ عَلَى عَجُزِ رَاحِلَتِهِ وَكَانَ ‏ ‏الْفَضْلُ ‏رَجُلًا وَضِيئًا فَوَقَفَ النَّبِيُّ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ ‏لِلنَّاسِ يُفْتِيهِمْ وَأَقْبَلَتْ امْرَأَةٌ مِنْ ‏‏خَثْعَمَ ‏‏وَضِيئَةٌ تَسْتَفْتِي رَسُولَ اللَّهِ ‏‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏‏فَطَفِقَ ‏‏الْفَضْلُ ‏‏يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَأَعْجَبَهُ حُسْنُهَا فَالْتَفَتَ النَّبِيُّ ‏‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏‏وَالْفَضْلُ ‏‏يَنْظُرُ إِلَيْهَا فَأَخْلَفَ بِيَدِهِ فَأَخَذَ بِذَقَنِ ‏الْفَضْلِ ‏فَعَدَلَ وَجْهَهُ عَنْ النَّظَرِ إِلَيْهَا فَقَالَتْ: ‏‏يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ فِي الْحَجِّ عَلَى عِبَادِهِ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَوِيَ عَلَى الرَّاحِلَةِ فَهَلْ يَقْضِي عَنْهُ أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ قَالَ: نَعَمْ.

وعند الترمذي من حديث علي (وَاسْتَفْتَتْهُ جَارِيَةٌ شَابَّةٌ مِنْ ‏‏خَثْعَمٍ ‏‏فَقَالَتْ إِنَّ أَبِي شَيْخٌ كَبِيرٌ قَدْ أَدْرَكَتْهُ فَرِيضَةُ اللَّهِ فِي الْحَجِّ أَفَيُجْزِئُ أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ قَالَ حُجِّي عَنْ أَبِيكِ).

قَالَ وَلَوَى عُنُقَ ‏الْفَضْلِ ‏فَقَالَ ‏‏الْعَبَّاسُ ‏‏يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَ لَوَيْتَ عُنُقَ ابْنِ عَمِّكَ، قَالَ رَأَيْتُ شَابًّا وَشَابَّةً فَلَمْ آمَنْ الشَّيْطَانَ عَلَيْهِمَا. وقال الترمذي ‏حَدِيثُ ‏‏عَلِيٍّ ‏‏حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. اهـ
قال ابن عباس وكان ذلك بعد ءاية الحجاب. اهـ

ووجه الدليل من هذا الحديث انه عليه الصلاة والسلام لم يقل لهذه المرأة الشابة الجميلة غطي وجهك.

وقد يقول قائل (هي كانت محرمة)،

قلنا لو كان واجبا لأمرها أن تسدل شيئا على وجهها مع المجافاة لمراعاة مصلحة الإحرام، ولكن لم يأمرها، فدل ذلك على عدم وجوب تغطية الوجه للمرأة، كما قال الشهاب الرملي وغيره.

وقد أجمع العلماء على أن المرأة يكره لها ستر وجهها والتنقب في الصلاة وعلى حرمته في الإحرام.

وأما وجوب تغطية الوجه على النساء فخاص بنساء الرسول صلى الله عليه وسلم كما قال أبو داود وغيره.

روى أبو داود عَنْ ‏أُمِّ سَلَمَةَ ‏قَالَتْ ‏كُنْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ‏‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏‏وَعِنْدَهُ ‏مَيْمُونَةُ ‏فَأَقْبَلَ ‏ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ ‏‏وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ أُمِرْنَا بِالْحِجَابِ فَقَالَ النَّبِيُّ ‏‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجِبَا مِنْهُ فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَيْسَ أَعْمَى لَا يُبْصِرُنَا وَلَا يَعْرِفُنَا فَقَالَ النَّبِيُّ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏ (أَفَعَمْيَاوَانِ أَنْتُمَا أَلَسْتُمَا تُبْصِرَانِهِ). اهـ

‏‏قَالَ ‏أَبُو دَاوُد: ‏‏هَذَا لِأَزْوَاجِ النَّبِيِّ ‏‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏خَاصَّةً أَلَا ‏تَرَى إِلَى اعْتِدَادِ ‏‏فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ ‏‏عِنْدَ ‏ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ ‏قَدْ قَالَ النَّبِيُّ ‏‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏‏لِفَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ: ‏اعْتَدِّي عِنْدَ ‏ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ ‏‏فَإِنَّهُ رَجُلٌ أَعْمَى تَضَعِينَ ثِيَابَكِ عِنْدَهُ. اهـ

قال الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير ما نصه: وقال أبو داود هذا لأزواج النبي خاصة بدليل حديث فاطمة بنت قيس.

قلت وهذا جمع حسن وبه جمع المنذري في حواشيه واستحسنه شيخنا. اهـ
مراده بذلك أن قول النبي خطابا لزوجتيه (احْتَجِبَا مِنْهُ) حين دخل ابن أم مكتوم، مختص بنساء الرسول جمعا بينه وبين حديث فاطمة بنت قيس الذي فيه انه عليه الصلاة والسلام قال لها (اعْتَدِّي عِنْدَ ‏ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ ‏فَإِنَّهُ رَجُلٌ أَعْمَى تَضَعِينَ ثِيَابَكِ عِنْدَهُ).

‏ ففرق رسول الله الحكم بين نسائه وبين غيرهن، وحديث فاطمة بنت قيس رواه مسلم، أما حديث (احْتَجِبَا مِنْهُ). رواه أبو داود
وقال أبو القاسم العبدري صاحب التاج والاكليل بشرح مختصر خليل (ولا خلاف أن فرض ستر الوجه مما اختص به أزواج النبي صلى الله عليه وسلم). اهـ

وأما قول الله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا) سورة الأحزاب / 59،
فالله تعالى لم يقل يدنين على وجوههن بل (عَلَيْهِنَّ) هذه الآية يتفق معناها مع الآية الأخرى (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) وأن مفاد الآيتين إيجاب ستر العنق والنحر، وإنما جاءت هذه الآية للفرق بين الحرائر والإماء، كما قال الإمام الحافظ المجتهد علي بن محمد بن القطان الفاسي في كتابه النظر في أحكام النظر وغيره.

وأما معنى الخمار فهو ما تغطي به المرأة رأسها، والجيب هو رأس القميص الذي يلي العنق، وأما الجلباب فهو مستحب للمرأة وهو الملاءة التي تلتحف بها المرأة فوق ثيابها ويسمى عند بعض الناس بالشادور.

فالآية (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) ليس فيه إيجاب تغطية الوجه بل المراد تغطية العنق به كما قال عكرمة: إن معناه ستر ثغرة النحر، لأن النساء قبل نزول ءاية الحجاب كن على ما كانت عليه نساء الجاهلية من وضع الخمار على الرأس وسدله إلى الخلف فكانت أعناقهن بادية.

ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ، أي الحرائر، أقرب للسلامة من أذى السفهاء إذا تميزت عن الإماء، لأن الفساق كانوا يتعرضون للحرائر إن ظنوهن إماء، ففي ستر الحرة رأسها وعنقها سلامة من تعرض الفساق لهن لأنه حصلت علامة فارقة، والإماء ليس عليهن ستر العنق والرأس إذا خرجن.

هذا وقد تبين لنا من هذه الفائدة العلمية اتفاق العلماء على عدم وجوب تغطية الوجه للمرأة الحرة مع كونه شيئا حسنا مستحبا.

والله أعلم وأحكم.