تأويل ابن عباس “النور” بالهداية
قال الطبريّ في تفسيره ما نصّه([1]): «عن ابن عباس في قوله تعالى: اللهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ {35} (النور) يقول: الله سبحانه هادي أهل السموات والأرض» اهـ.
تمام الآية القرآنية: اللهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ {35} (النور).
في هذهِ الآية ضربَ الله مثلًا للإيمان الذي في صدر المؤمن بأنهُ كالمشكاة فيها مصباح، والمشكاة هي الطاقة المسدودة التي كانت في الزمن الماضي تُبنى في الحائط فيجعل فيها القنديل، وهذا لأنهُ حين يُؤمن العبد بالله ورسوله يصير في قلبِهِ نورُ الإيمان، ثُم حين يتعلم هذا المُؤمن القرآن ويعرفُ الحلالَ والحرام يصير فيهِ نورٌ على نور، ولا يجوز تفسير هذهِ الآية بأنّ الله نور بمعنى الضوء لأنّ ذلكَ كيفية، والذي يكون له كيفية مستحيل أن يكون ربًّا وإلهًا. ثُمّ إنّ قول الله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ {11} (الشورى) يدلُّ على أنّ الله تعالى ليس نورًا بمعنى الضوء، لأنهُ لو كان ضوءًا لبَطل معنى الآية ولكان له أمثال لا تُحصى، وذلك لأنّ الأنوار مُتماثلة. وقوله تعالى: مَثَلُ نُورِهِ صريحٌ بأنّ المُراد بهِ أنّ النور هنا مُضافٌ إليه فهو بمعـنى الهِداية. وكذلك قوله تعالى: يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء. ثُمّ إنّ النور بمعنى الضوء شىء مخلوقٌ لله تعالى كما قال تعالى: وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ {1} (الأنعام)، لأن (وَجَعَلَ) هنا -كما قال المفسرون- بمعنى خلق، أي الله خلق الضوء والظلام، وخالق الشىء لا يشبهه، فإذًا يستحيلُ أن يكون الإله الخالق سبحانه ضوءًا. فثبتَ أنَّه لا بُدّ من التأويل أي تفسير الآية بمعنى يليق بالله، وقد ذهب العلماء في ذلك إلى أقوال:
فقال بعضُهم: إنّ المراد بالآية أنّ الله هادي أهل السموات ومن شاءَ من أهلِ الأرض لنورِ الإيمان، وهو تفسير الصحابيّ الجليل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وقاله غيره كثيرون.
وقال بعضهم: إنّ المـُـراد بالآية أنّ الله مُدبّر السموات والأرض بحكمة بالغة([2]).
وقال بعضهم: المـُراد أنّ الله مُنوّر السموات والأرض بنورٍ خَلَقَهُ([3]).
فيتبين لنا أنه ليس هناك أحد من العُلماء المعتبرين فسّر الآية بأن الله نورٌ بمعنى الضوء، فلا يجوز أن يقال: إنّ الله يُشَبّهُ نفسه بالضوء الذي يُوضعُ في الطاقة ويُسقى بزيت الزيتون، بل المُراد أنّ الله هو الهادي، وأنه يهدي الملائكة أهل السموات ويهدي المؤمنين من أهل الأرض.
فخلاصة المقال في ذلك أن يردّ المتشابه إلى المحكم، وألّا يُحمل على ظاهره، لأنّه يلزم من ذلك ضرب القرآن بعضه ببعض، وذلك لأنّ قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} (طه) وقوله: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ {10} (فاطر) ظاهرهما تَحَيُّزُ الله تعالى في جهة فوق، وهذا مستحيل في حق الله، وقولَه تعالى: وَللهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ {115} (البقرة)، ظاهره أنّ الله في أفق الأرض، وهذا لا يليق بالله. وقولَه في حقّ إبراهيم: وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ {99} (الصافات) ظاهره أنّ الله ساكن فلسطينَ لأنّ إبراهيم كان متوجّهًا إلى فلسطين، تنـزّه الله عن ذلك. فإنّ تفسير هذه الآيات على ظواهرها يؤدّي إلى نسبة التناقض في القرآن، والحق أن القرآن لا يناقض بعضه بعضًا، فوجب ترك الأخْذ بظواهر هذه الآيات القرآنية، والرّجوع إلى آية لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ {11} (الشورى)، ولا ينبغي تفسير المُتشابه من القرآن اعتمادًا على هوى النفس، بلْ لنكنْ مستحضرين لقول الشّافعيّ([4]) رضي الله عنه: «آمنتُ بما جاءَ عنِ الله على مُرادِ الله، وآمنتُ بما جَاءَ عن رسولِ الله على مُرادِ رَسولِ الله» اهـ.
[1] ) تفسير الطبريّ، الطبري، 18/135.
[2] ) تفسير الطبري، الطبري، 18/135.
[3] ) تفسير الطبري، الطبري، 18/135.
[4] ) دفع شبه من شبه وتمرد، تقي الدين الحصني، ص56.