قول الإمام أبي بكر الباقلاني([1]) رحمه الله (ت 403هـ)
قال الباقلاني([2]): «وإذا صحَّ حدوث العالم فلا بد له من محدِث أحدثه ومصوّر صوَّرَهُ، والدليل على ذلك أن الكتابة لا بد لها من كاتب كتبها، والصورة لا بد لها من مصوّر صوَّرها، والبناء لا بد له من بان بناه، فإنَّا لا نشك في جهل من أخبرنا بكتابة حَصَلَتْ بنفسها لا من كاتب، وصناعة لا من صانع، وحياكة لا من ناسج. وإذا صح هذا وجب أن تكون صور العالم وحركات الفلك متعلقة بصانع صنعها ومحدِث أحدثها، إذ كانت ألطف وأعجب صنعًا من سائر ما يتعذر وجوده إلا من صانع.
دليل ثان: ويدل على ذلك أيضًا علمنا بتقدم الحوادث بعضها على بعض، وتأخر بعضها عن بعض مع علمنا بتجانسها وتشاكلها، فلا يجوز أن يكون المتقدم منها متقدمًا لنفسه لأنه لو تقدم لنفسه لوجب تقديم كل ما هو من جنسه معه، وكذلك المتأخر منها لو تأخر لنفسه وجنسه لم يكن المتقدم منها بالتقدم أولى منه بالتأخر، وفي علمنا بأن المتقدم من المتماثلات بالتقدم أَوْلى منه بالتأخر دليل على أنَّ له مقدّمًا قدَّمَهُ وعاجلًا عجَّله في الوجود، مقصورًا على مشيئته.
ويدل على صحة ذلك أيضًا علمنا بأن الصور الموجودة منها ما هو مربَّع، ومنها ما هو مدوَّر ومنها شخص أطول من شخص، وآخر أعرض من آخر مع تجانسها، ولا يجوز أن يكون المربَّع منها ربَّع نفْسَه، ولا المطوَّل منها طوّل نفسه ولا القبيح منها قبّح نفسه ولا الحسن منها حسّن نفسه، فلم يبق إلا أن لها مصوّرًا صوَّرها، طويلة وقصيرة وقبيحة وحسنة، على حسب إرادته ومشيئته» اهـ.
ثم قال: «ويدل على صحة ذلك أيضًا: أنّا وجدنا أنفَسَ الموجودات في العالَم، الحي القادر العاقل المحصّل وهو الآدمي، ثم أَكْمِلْ ما يكون تعلمْ وتحققْ أنه كان في ابتداء أمره نطفة ميتة لا حياة فيها ولا قدرة، ثم نقل إلى العلقة ثم إلى المضغة ثم من حال إلى حال ثم بعد خروجه حيًّا من الأحشاء إلى الدنيا. تعلم وتحقق أنه كان في تلك الحالة جاهلًا بنفسه وتكييفه، وتركيبه، ثم بعد كمال عقله وتصوره وحذقه([3]) وفهمه لا يقدر في حال كماله أن يحدث في بدنه شعرة ولا شيئًا ولا عرقًا، فكيف يكون محدِثًا لنفسه ومنقلًا لها في حال نقصه من صورة إلى صورة ومن حالة إلى حالة؟! وإذا بطل ذلك منه في حال كماله، كان أَوْلى أن يبطل ذلك منه في حال نقصه. ولم يبق إلا أنَّ له محدِثًا أحدثه ومصوّرًا صوَّره ومنقلًا نقله وهو الله سبحانه وتعالى.
مسألة: وإذا ثبت أن للعالم صانعًا صنعه ومحدِثًا أحدثه فيجب أن يعلم أنه لا يجوز أن يكون مشبهًا للعالم المصنوع المحدَث، لأنه لو جاز ذلك لم يخل: إما أن يشبهه في الجنس أو في الصورة، ولا يجوز أن يكون مشبهًا له في الجنس، لأنه لو أشبهه في الجنس لجاز أن يكون محدَثًا كالعالم المحدَث، أو يكون العالم قديمًا كهو لأن حقيقة المشتبهين المتجانسين ما سدَّ أحدهما مسدَّ الآخر وناب منابه، وجاز عليه ما يجوز عليه، ولا يجوز أن يكون يشبه العالم في الصورة، لأن حقيقة الصورة هي الجسم المؤلَّف، والتأليف لا يكون إلا من شيئين فصاعدًا، ولأنه لو كان صورة لاحتاج إلى مصوّر صوَّرَهُ، لأن الصورة لا تكون إلا من مصور على ما قدَّمنا بيانه، وقد بيَّن ذلك تعالى بأحسن بيان فقال عزَّ وجلَّ: } أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ {17} (النحل). وقد سئل بعض أهل التحقيق عن التوحيد ما هو؟ فقال: هو أن تعلم أنه بايَنَهُم بقِدَمِهِ كما باينوه بحدوثهم» اهـ. أي أنَّ الله تعالى مباينٌ أي غير مشابه لجميع المخلوقات في الذات والصفات والأفعال فهو الأزلي وما سواه حادث.
وقال في كتابه تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل([4]): «فإن قال قائل: فَلِمَ أنكرتم أن يكون وجهه ويده جارحة إذ كنتم لم تعقلوا يد صفة ووجه صفة لا جارحة؟
يقال له: لا يجب ذلك كما لا يجب إذا لم نعقل حيًّا عالِـمًا قادرًا إلا جسمًا أن نقضي نحن وأنتم على الله تعالى بذلك. وكما لا يجب متى كان قائمًا بذاته أن يكون جوهرًا أو جسمًا لأنَّا وإياكم لم نجد قائمًا بنفسه في شاهدنا إلا كذلك» اهـ.
[1] ) أبو بكر الباقلانيّ، محمّد بن الطيّب بن محمّد بن جعفر بن قاسم البصريّ ثم البغداديّ، ابنُ الباقلانيّ، الإمام العلامة مقدّم الأصوليين القاضي صاحب التصانيف، ضُرب المثل بفهمه وذكائه، كان ثقة إمامًا بارعًا، صنّف في الردّ على الرافضة والمعتزلة والخوارج والجهمية والكرّاميّة، وانتصر لطريقة أبي الحسن الأشعريّ، ذكره القاضي عياض في «طبقات المالكيّة»، مات في ذي القعدة سنة 403هـ. سير أعلام النبلاء، الذهبي، 11/96، 98.
[2] ) الإنصاف، الباقلاني، ص44.
[3] ) «الحِذْقُ والحَذاقةُ: المهارة في كل عمل» اهـ. لسان العرب، ابن منظور، مادة ح ذ ق، 10/40.
[4] ) تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل، الباقلاني، ص 298.