قول الإمام الحافظ الخطّابيّ (ت 388هـ)
قال الحافظ ابن حجر([1]): «قال الخطّابي في حديث رسول الله ﷺ([2]): «ولا يصعدُ إلى الله إلا الطَّيّبُ فإنَّ الله يتقبَّلُها بيمينِهِ» ما نصه: «ذكر اليمين في هذا الحديث معناه حسن القبول، فإن العادة قد جرت من ذوي الأدب بأن تُصان اليمين عن مسّ الأشياء الدنيئة، وإنما تباشر بها الأشياء التي لها قدر ومزيّة، وليس في ما يضاف إلى الله تعالى من صفة اليدين شمال لأن الشمال لمحلّ النقص في الضعف، وقد روي: «كِلْتَا يديهِ يمينٌ»([3])، وليس اليد عندنا الجارحة إنما هي صفة جاء بها التوقيف، فنحن نطلقها على ما جاءت ولا نكيّفها، وهذا مذهب أهل السّنة والجماعة» اهـ.
وسبقَ الحافظَ ابن حجر إلى هذا النقل الحافظ البيهقي حيث قال في الأسماء والصفات([4]): «وقال أبو سليمان الخطابيّ رحمه الله: ليس في ما يضاف إلى الله من صفة اليدين شمال لأنّ الشمال محل النقص والضعف، وقد روي «وكِلْتَا يديهِ يمينٌ» اهـ.
وقال ابن حجر أيضًا([5]): «قوله باب قول النبي ﷺ: «لا شخصَ أغيرُ منَ الله» كذا لهم، ووقع عند ابن بطال([6]) بلفظ «أحد» بدل «شخص»، وكأنه من تغييره ـ أي الراوي ـ. وأما الخطّابيّ فبنى على هذا أن هذا التركيب يقتضي إثبات هذا الوصف لله تعالى، فبالغ في الإنكار وتخطئة الراوي فقال: إطلاق الشخص في صفات الله تعالى غير جائز لأن الشخص لا يكون إلا جسمًا مؤلَّفًا، فخليقٌ([7]) ألّا تكون هذه اللفظة صحيحة وأن تكون تصحيفًا من الراوي. ودليل ذلك أن أبا عَوانة([8]) روى هذا الخبر عن
عبد الملك([9]) فلم يذكرها، ووقع في حديث أبي هريرة وأسماء بنت أبي بكر بلفظ: «شىء»، والشىء والشخص في الوزن سواء، فمن لم يمعن في الاستماع لم يأمن الوهم، وليس كل من الرواة يراعي لفظ الحديث حتى لا يتعدّاه، بل كثير منهم يُحدّث بالمعنى، وليس كلهم فَهِمًا بل في كلام بعضهم جفاء وتعجرف، فلعلّ لفظ «شخص» جرى على هذا السبيل إن لم يكن غلطًا من قبيل التصحيف([10]) يعني السمعيّ. قال: ثم إن عبيد الله بن عمرو انفرد عن عبد الملك فلم يتابع عليه، واعتوره الفساد من هذه الأوجه. وقد تلقّى هذه عن الخطّابيّ أبو بكر بن فورك([11]) فقال: «لفظ الشخص غير ثابت من طريق السند، فإن صحَّ فبيانه في الحديث الآخر وهو قوله: «لا أحد» فاستعمل الراوي لفظ «شخص» موضع «أحد» ثم ذكر نحو ما تقدّم عن ابن بطَّال، ومنه أخذ ابن بطَّال.
ثم قال ابن فورك: «وإنما مَنَعَنَا من إطلاق لفظ الشخص أمورٌ، أحدها أن اللفظ لم يثبت من طريق السمع. والثاني الإجماع على المنع منه. والثالث أن معناه الجسم المؤلّف المركّب» اهـ.
[1] ) فتح الباري، ابن حجر، 13/417.
[2] ) صحيح البخاري، البخاري، كتاب التوحيد، باب من انتظر حتى تدفن الجنازة 9/154.
[3] ) صحيح مسلم، مسلم، كتاب الإمارة، باب كراهية الإمارة بغير ضرورة، 6/7.
[4] ) الأسماء والصفات، البيهقيّ، ص332.
[5] ) فتح الباري، ابن حجر، كتاب التوحيد، 13/399.
[6] ) علي بن خلف بن عبد الملك بن بطَّال، أبو الحسن، ت 449هـ، عالم بالحديث من أهل قرطبة، من كتبه: «شرح البخاري». الأعلام، الزركلي، 4/285.
[7] ) «فلان خَلِيق لكذا أي جدير به، وأَنت خَليق بذلك أَي جدير» اهـ. لسان العرب، ابن منظور، مادة خ ل ق، 10/85.
[8] ) أبو عوانة الوضاح بن خالد اليشكريّ البصريّ، ت 176هـ، من حفاظ الحديث الثقات، كان مع سعة علمه شبه أُمّيّ يقرأ ويستعين بمن يكتب له. الأعلام، الزركلي، 8/116.
[9] ) عبد الملك بن عمير، ويقال أبو عمر الكوفيّ الحافظ، ت 136هـ، ويعرف بالقبطيّ رأى عليًّا وأبا موسى الأشعريّ رضي الله عنهما. وحدّث عن جندب البجليّ، وجابر ابن سمرة، وموسى بن طلحة، وأبي بردة بن أبي موسى وخلق من الصحابة وكبار التابعين، وعمّر دهرًا طويلًا وصار مسند أهل الكوفة. واختُلِفَ فيه فقال النسائيّ وغيره: «ليس به بأس» اهـ. وقال أبو حاتم: «صالح الحديث، ليس بحافظ، تغيّر حفظه قبل موته» اهـ. وروى إسحاق الكوسج عن يحيى بن معين قال: «مخلّط» اهـ. سير أعلام النبلاء، الذهبيّ، 5/ 438، 441.
[10] ) «التَّصْحِيفُ: الخَطَأُ في الصَّحيفَة بأَشْباهِ الحُرُوفِ، مُوَلَّدَةٌ، وقد تَصَحَّفَ عَلَيْه لَفْظُ كذا» اهـ. تاج العروس، الزَّبيديّ، مادة ص ح ف، 24/6.
[11] ) محمد بن الحسن بن فورك الأنصاريّ الأصبهانيّ أبو بكر، ت 406هـ، واعظ عالم بالأصول والكلام، من فقهاء الشافعية. سمع بالبصرة وبغداد، وحدَّث بنيسابور، له كتب كثيرة، قال ابن عساكر: «بلغت تصانيفه في أصول الدين وأصول الفقه ومعاني القرآن قريبًا من المائة» اهـ. ومنها: «حلّ الآيات المتشابهات»، و«مشكل الحديث وغريبه»، و«غريب القرآن»، و«رسالة في التوحيد». الأعلام، الزركلي، 6/83.