الأربعاء ديسمبر 4, 2024

مباحث في أدلّة أهل السّنة والجماعة على تنزيه الله عن الجسمية
وصفات الأجسام من النقل

قال الإمام الرازيّ رحمه الله([1]): «تقرير الدلائل السمعية على أنه سبحانه وتعالى منزّه عن الجسمية والحيز والجهة، ويدلّ عليه وجوه:

الحجة الأولى:

قوله تعالى: قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ {1} اللهُ الصَّمَدُ {2} لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ {3} وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ {4} (الإخلاص).

اعلم أنه قد اشتهر في التفسير أن النبيَّ ﷺ سُئِل عن الله ونعته وصفته، فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه السورة.

إذا عرفت هذا فنقول هذه السورة من المحكمات لا من المتشابهات، لأنه تعالى جعلها جوابًا عن سؤال السائل، وأنزلها عند الحاجة وذلك يقتضي كونها من المحكمات لا من المتشابهات، وإذا ثبت هذا وجب الجزم بأن كل مذهب يخالف هذه السورة يكون باطلًا.

فنقول: إنَّ قوله تعالى: (أَحَدٌ) يدلّ على نفي الجسمية، لأن الجسم أقلّه أن يكون مركَّبًا من جوهرين وذلك ينافي الوحدة، ولمّا كان قوله عزَّ وجلَّ: (أَحَدٌ)  مبالغة في الوَحدانية كان قوله (أَحَدٌ) منافيًا للجسمية.

ولو كان جوهرًا لكان كل جوهر فرد كفوًا له، فدلّت السورة من الوجه الذي قرّرناه على أنه تعالى ليس بجسم ولا بجوهر…

واعلم أنه تعالى كما نصّ على أنه واحد فقد نصَّ أيضًا على البرهان الذي لأجله يجب الحكم بأنه أَحَدٌ، وذلك أنه قال: قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ {1} (الإخلاص)، وكونه إلهًا يقتضي كونه غنيًّا عمَّا سواه، وكلّ مركّب مفتقر إلى كل واحد من أجزائه، وكل واحد من أجزائه غيره، فكلّ مركّب هو مفتقر إلى غيره، وكونه إلهًا يمنع من كونه مفتقرًا إلى غيره، وذلك يوجب القطع بأنه أحد، وكونه أحدًا يوجب القطع بأنه ليس بجسم ولا جوهر ولا في حيّز، فثبت أن قوله تعالى: قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ {1} (الإخلاص) برهان قاطع على ثبوت هذه المطالب.

وأما قوله سبحانه وتعالى: اللهُ الصَّمَدُ {2} (الإخلاص)، فالصمد هو السيد المصمود إليه في الحوائج، وذلك يدلّ على أنه ليس بجسم، وبيان دلالته على نفي الجسمية من وجوه:

الأول: أن كلّ جسم هو مركّب، وكلّ مركّب محتاج إلى كل واحد من أجزائه، وكل واحد من أجزائه غيره، فكل مركّب محتاج إلى غيره، والمحتاج إلى الغير لا يكون غنيًّا محتاجًا إليه، فلم يكن صمدًا مطلقًا.

الثاني: لو كان مركّبًا من الجوارح والأعضاء لاحتاج في الإبصار إلى العين ـ الحدقة ـ، وفي الفعل إلى اليد، وذلك ينافي كونه ـ أي الله ـ صمدًا مطلقًا.

الثالث: أنَّا سنُقيم الدلالة على أن الأجسام متماثلة، والأشياء المتماثلة يجب اشتراكها في اللوازم، فلو احتاج بعض الأجسام إلى بعض لزم كون الكل محتاجًا إلى ذلك الجسم، ولزم أيضًا كونه محتاجًا لذلك الجسم، ولزم أيضًا كونه محتاجًا إلى نفسه وكل ذلك محال، ولمّا كان ذلك محالًا وجب ألّا يحتاج ـ أي الله ـ إلى شىء من الأجسام، ولو كان كذلك ـ أي محتاجًا ـ لم يكن صمدًا على الإطلاق.

وأما قوله تعالى: وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ {4} (الإخلاص)، فهذا أيضًا يدلّ على أنه ليس بجسم ولا جوهر، لأنَّا سنقيم الدلالة على أن الجواهر متماثلة، فلو كان تعالى جوهرًا لكان مثلًا لجميع الجواهر فكان كلّ واحد من الجواهر كفؤًا له، ولو كان جسمًا لكان مؤلّفًا من الجواهر لأن الجسم يكون كذلك، وحينئذ يعود الإلزام المذكور، فثبت أن هذه السورة من أظهر الدلائل على أنه تعالى ليس بجسم ولا بجوهر

واعلم أنه كما أن الكفّار سألوا الرسول ﷺ عن صفة ربّه فأجاب الله بهذه السورة الدالّة على كونه تعالى منزَّهًا عن أن يكون جسمًا أو جوهرًا أو مختصًّا بالمكان، كذلك فرعون سأل موسى عليه السلام عن صفة الله تعالى فقال: قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ {23} قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ {24} قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ {25} قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءابَائِكُمُ الأَوَّلِينَ {26} (الشعراء)، ثم إنَّ موسى لم يذكر الجواب عن هذا السؤال إلا بكونه تعالى خالقًا للناس ومدبّرًا لهم وخالقًا للسموات والأرض ومدبّرًا لهما» اهـ.

وقال القرطبيّ في تفسير هذه الآيات([2]): «لما غلب موسى فرعونَ بالحجة، ولم يجد اللعين من تقريره على التربية وغير ذلك حجة رجع إلى معارضة موسى في قوله: إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ {46}  (الزخرف)، فاستفهمه استفهامًا عن مجهول من الأشياء. قال مكيّ وغيره: كما يستفهم عن الأجناس، فلذلك استفهم بـ «ما». قال مكيّ: وقد ورد له استفهام بـ «من» في موضع آخر ويشبه أنها مواطن، فأتى موسى بالصفات الدالة على الله من مخلوقاته التي لا يشاركه فيها مخلوق، وقد سأل فرعون عن الجنس، ولا جنس لله تعالى لأن الأجناس محدَثة، فعلم موسى جهله، فأضرب عن سؤاله وأعلمه بعظيم قدرة الله التي تبيّن للسامع أنه لا مشاركة لفرعون فيها. فقال فرعون: أَلا تَسْتَمِعُونَ {25} على معنى الإغراء والتعجب من سفه المقالة ـ على زعمه ـ إذ كانت عقيدة القوم أن فرعون ربهم ومعبودهم، والفراعنة قبله كذلك. فزاد موسى في البيان بقوله: رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءابَائِكُمُ الأَوَّلِينَ {26} (الشعراء) فجاء بدليل يفهمونه عنه لأنهم يعلمون أنه قد كان لهم آباء وأنهم قد فنوا وأنه لا بدَّ لهم من مغيّر، وأنهم قد كانوا بعد أن لم يكونوا وأنهم لا بدَّ لهم من مكوّن» اهـ.

ثم قال الفخر الرازي رحمه الله: «فثبت أنه كما أن جواب محمد ﷺ عن سؤال الكفار عن صفة الله تعالى يدلّ على تنـزيه الله تعالى عن التحيُّز، فكذلك جواب موسى عليه السلام عن سؤال فرعون عن صفة الله عزَّ وجلّ يدلّ على تنــزيه الله تعالى.

أما الخليل عليه السلام فقد حكى الله تعالى عنه في كتابه بأنه استدلّ بحصول التغيُّر في أحوال الكواكب على حدوثها، ثم قال عند تمام الاستدلال: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ {79} (الأنعام)، واعلم أن هذه الواقعة تدلّ على تنــزيه الله تعالى وتقديسه عن التحيُّز.

وأما دلالتها على تنـزيه الله تعالى عن التحيّز فمن وجوه:

أحدها: ما صحَّ على أحد المِثلين وجب أن يصحَّ على المثل الآخر، فلو كان تعالى جسمًا أو جوهرًا وجب أن يصحَّ عليه كلّ ما صحّ على غيره، وأن يصحّ على غيره كلّ ما صحَّ عليه، وذلك يقتضي جواز التغيُّر عليه، ولمّا حكم الخليل عليه السلام بأن المتغيّر من حال إلى حال لا يصلح للإلهية،  وثبت أنه لو كان جسمًا لصحَّ عليه التغيُّر، لزم القطع بأنه تعالى ليس بمتحيّز أصلًا.

الثاني: أنه عليه السلام قال عند تمام الاستدلال: (وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ) (الأنعام) فلم يذكر من صفات الله تعالى إلا كونه خالقًا للعالم، والله تعالى مدحه على هذا الكلام وعظّمه فقال: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا ءاتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء {83} (الأنعام). ولو كان إله العالم جسمًا موصوفًا بمقدار مخصوص وشكل مخصوص لَـمَا كمل العلم به تعالى إلا بعد العلم بكونه جسمًا متحيّزًا. ولو كان كذلك لما كان مستحقًّا للمدح والتعظيم بمجرّد معرفة كونه خالقًا للعالم، ولَـمَّا كان هذا القدر من المعرفة كافيًا في كمال معرفة الله تعالى دلّ ذلك على أنه تعالى ليس بمتحيّز.

الثالث: أنه تعالى لو كان جسمًا لكان كلّ جسم مشاركًا له في تمام الماهية، فالقول بكونه تعالى جسمًا يقتضي إثبات الشريك لله سبحانه وتعالى، وذلك ينافي قول الخليل عليه السلام: وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ {79} (الأنعام). فثبت بما ذكرناه أن الأنبياء صلوات الله عليهم كانوا قاطعين بتنـزيه الله تعالى وتقديسه عن الجسمية والجوهرية والجهة، وبالله التوفيق.

الحجة الثانية:

من القرآن: قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ {11} (الشورى)، وهذه الآية هي أوضح دليل نقليّ في نفي الجسمية عن الله تعالى، لأن (شَىْءٌ) نكرة في سياق النفي، والنكرة في سياق النفي تفيد العموم([3])، فالله تبارك وتعالى نفى بهذه الجملة عن نفسه مشابهة الأجرام والأجسام والأعراض، ولم يقيّد تبارك وتعالى نفي الشبه عنه بنوع من أنواع الحوادث، بل شمل نفي مشابهته لكلّ أفراد الحادثات.

ولو كان ـ الله ـ جسمًا، لكان مثلًا لسائر الأجسام في تمام الماهية، لأنّا سنبيّن إن شاء الله تعالى بالدلائل الباهرة أن الأجسام كلها متماثلة ـ من حيث كونها مؤلفة مركبة تحلّ فيها الصفات والأعراض ـ، وذلك كالمناقض لهذا النص.

فإن قيل: لمَ لا يجوز أن يقال: إنه تعالى، وإن كان جسمًا، مخالف لغيره من الأجسام، كما أن الإنسان والفرس وإن اشتركا في الجسمية مختلفان في الأحوال والصفات، ولَـمَّا كان لا يجوز أن يقال: الفرس مثل الإنسان، فكذا هنا؟

فالجواب من وجهين:

الأول: أنّا سنقيم الدلالة إن شاء الله تعالى على أن الأجسام كلّها متماثلة في تمام الماهية، وعليه فلو كان تعالى جسمًا لكان ذاته مثلًا لسائر الأجسام، وذلك مخالف لهذا النصّ([4])، والإنسان والفرس ذات كل منهما متماثلة لذات الآخر ـ من حيث كونهما مركبين ـ، والاختلاف إنما وقع في الصفات والأعراض، والذاتان إذا كانتا متماثلتين كان اختصاص كل واحدة منهما بصفاتها المخصوصة يكون من الجائزات لا من الواجبات، لأنّ الأشياء المتماثلة في تمام الذات والماهية لا يجوز اختلافها في اللوازم، فلو كان البارئ تعالى جسمًا لوجب أن يكون اختصاصه بصفاته المخصوصة من الجائزات، ولو كان كذلك لزم افتقاره إلى المدبّر والمخصّص، وذلك يبطل القول بكونه تعالى إله العالم.

الثاني: بتقدير أن يكون هو تعالى مشاركًا لسائر الأجسام في الجسمية  ومخالفًا لها في ماهيته المخصوصة، هذا يوجب وقوع الكثرة في ذات الله تعالى، لأن الجسمية مشترك فيها بين الله تعالى وبين غيره، وخصوصية ذاته غير مشتركة فيما بين الله تعالى وبين غيره، وما به المشاركة غير ما به الممايزة، وذلك يقتضي وقوع التركيب في ذاته المخصوص، وكل مركّب ممكن([5]) لا واجب([6]) على ما بيّنَّاه فثبت لك أن هذا السؤال ساقط.

الحجة الثالثة:

قوله تعالى: وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء {38} (محمد).

دلّت هذه الآية على كونه تعالى غنيًّا، ولو كان جسمًا لما كان غنيًّا لأن كل جسم مركّب، وكلّ مركّب محتاج إلى كل واحد من أجزائه، وأيضًا لو وجب اختصاصه بالجهة لكان محتاجًا إلى الجهة، وذلك يقدح في كونه غنيًّا على الإطلاق.

الحجة الرابعة:

قوله تعالى: اللهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ {255} (البقرة).

والقَيُّوم مَنْ يكون قائمًا بنفسه مُقَوِمًا لغيره، فكونه قائمًا بنفسه عبارة عن كونه غنيًّا عن كل ما سواه، وكونه ـ تعالى ـ مُقَوِمًا لغيره عبارة عن احتياج كل ما سواه إليه، فلو كان جسمًا لكان هو مفتقرًا إلى غيره وهو جزؤه، ولكان غيره غنيًّا عنه وهو جزؤه وحينئذ لا يكون قيومًا. وأيضًا لو وجب حصوله في شىء من الأحياز لكان مفتقرًا محتاجًا إلى ذلك الحيّز، فلم يكن قيّومًا على الإطلاق.

الحجة الخامسة:

قوله تعالى: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا {65} (مريم).

قال ابن عباس رضي الله عنه: «هل تعلم له مثلًا». ولو كان متحيّزًا لكان كل واحد من الجواهر مثلًا له.

الحجة السادسة:

قوله تعالى: هُوَ اللهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ {24} (الحشر).

وجه الاستدلال به أنّا بيّنّا في سائر كتبنا أن الخالق في اللغة هو المقدّر ـ بكسر الدال المعجمة المشدّدة ـ، ولو كان جسمًا لكان متناهيًا، ولو كان متناهيًا لكان مخصوصًا بمقدار معيّن، ولـمَّا وصف نفسه بكونه خالقًا وجب أن يكون تعالى هو المقدّر لجميع المقدورات بمقاديرها المخصوصة. وإذا كان هو مقدَّرًا في ذاته بمقدار مخصوص، لزم كونه مقدِرًا لنفسه، وذلك محال.

وأيضًا لو كان جسمًا لكان متناهيًا، وكلّ متناه محيط به حدٌّ أو حدود مختلفة، وكلّ ما كان كذلك فهو مشكَّل وكلّ مشكَّل فله صورة، فلو كان جسمًا لكان له صورة، ثم إنه تعالى وصف نفسه بكونه مصوِرًا([7])، فيلزم كونه مصوّرًا لنفسه وذلك محال، فيلزم أن يكون منزَّهًا عن الصورة والجسمية حتى لا يلزم هذا المحال.

الحجة السابعة:

قوله تعالى: هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ {3} (الحديد).

وصف نفسه بكونه ظاهرًا وباطنًا، ولو كان جسمًا لكان ظاهره غير باطنه، فلم يكن الشىء الواحد موصوفًا بأنه ظاهر وبأنه باطن، لأن على تقدير كونه جسمًا يكون الظاهر منه سطحه، والباطن منه عمقه، فلم يكن الشىء الواحد ظاهرًا وباطنًا.

وأيضًا فالمفسرون قالوا: إنه ظاهر بحسب الدلائل([8])، باطن بحسب أنه لا يدركه الحِسُّ ولا يصل إليه الخيال، ولو كان جسمًا لما أمكن وصفه بأنه لا يدركه الحس ولا يصل إليه الخيال.

وفي صحيح مسلم([9]): كان أبو صالح([10]) يأمرنا إذا أراد أحدنا أن ينام أن يضطجع على شقّه الأيمن ثم يقول: «اللهمَّ ربَّ السمواتِ والأرضِ وربَّ العرشِ العظيمِ، ربَّنا وربَّ كلّ شىءٍ، فالقَ الحَبّ والنَّوَى ومُنَـزّلَ التوراةِ والإنجيلِ والفرقانِ، أعوذُ بكَ مِنْ شرّ كلّ شىءٍ أنتَ آخذٌ بناصيتِهِ([11])، اللهمَّ أنتَ الأوَّلُ فليسَ قبلَكَ شىءٌ وأنتَ الآخِرُ فليسَ بعدَكَ شىءٌ وأنتَ الظاهرُ فليسَ فوقَكَ شىءٌ وأنتَ الباطنُ فليسَ دُونَكَ شىءٌ، اقضِ عنَّا الدَّيْنَ وأغْنِنَا مِنَ الفقرِ»، وكان يروي ذلك عن أبي هريرة([12]) عن النبيّ ﷺ، رواه الترمذيّ([13]) وغيره.

الحجة الثامنة:

قوله تعالى: وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا {110} (طه)، وقوله تعالى: لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ {103} (الأنعام).

وذلك يدلّ على كونه تعالى منزَّهًا عن المقدار والشكل والصورة وإلا لكان الإدراك والعلم محيطَيْن به، وذلك على خلاف هذين النصَّيْن. فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال: إنه إن كان جسمًا كبيرًا، فلهذا المعنى لا يحيط به الإدراك والعلم؟ قلنا: لو كان الأمر كذلك لصحَّ أن يقال بأن علوم الخلق وأبصارهم لا تحيط بالسموات ولا بالجبال ولا بالبحار ولا بالمفاوز([14])، فإن هذه الأشياء أجسام كبيرة والأبصار لا تحيط بأطرافها، والعلوم لا تصل إلى تمام أجزائها. ولو كان الأمر كذلك لما كان في تخصيص ذات الله تعالى بهذا الوصف فائدة، وكلام الله منزه عن الضعف والركاكة، فالقرآن معجزة في الفصاحة والبلاغة، والله أحكم الحاكمين.

الحجة التاسعة:

قوله تعالى: فَلاَ تَجْعَلُواْ للهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ {22} (البقرة).

والند المثل، ولو كان تعالى جسمًا لكان مثلًا لكل واحد من الأجسام لِمَا بيّنَّا سابقًا أن الأجسام كلها متماثلة، وحينئذ يكون الندّ موجودًا على هذا التقدير، وذلك على مضادّة هذا النص» اهـ.

[1] ) أساس التقديس، الرازيّ، ص 30، 31 (باختصار).

    محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التميمي البكري أبو عبد الله فخر الدين الرازي، ت 606هـ، الإمام المفسر أوحد زمانه في المعقول والمنقول وعلوم الأوائل وهو قرشي النسب أصله من طبرستان ومولده في الري وإليها نسبته. من تصانيفه: «مفاتيح الغيب»، و«لوامع البيان في شرح أسماء الله تعالى والصفات». الأعلام، الزركلي، 6/302، 303.

[2] ) تفسير القرطبيّ، القرطبي، 13/98.

 

[3] ) البحر المحيط، أبو حيان الأندلسي، 1/160. ذكر ذلك في مواضع كثيرة من تفسيره.

 

[4] ) أي قوله تعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ {11} (الشورى).

 

[5] ) كانت الممكنات العقلية معدومةً ثم دخل بعضها في الوجودِ بتخصيصِ الله تعالى لوجودِ ذلك البعض الذي قدّر له أن يوجد، إذ كانَ في العقل جائزًا ألَّا توجدَ، فوجودها بتخصيصِ الله تعالى. ويقال عن الممكن: الجائز العقليّ، وهو ما يُتَصوَّر في العقل وجوده تارة وعدمه تارة أخرى.

 

[6] ) الواجب الوجود أو الواجب العقليّ هو ما لا يُتَصوَّر في العقل عدمه، وهو الله وصفاته.

 

[7] ) أي خالقًا للصور.

 

[8] )المراد  الظاهرُ فوقَ كلّ شىءٍ بالقهرِ والقوةِ والغَلَبَةِ لا بالمكانِ والصورةِ والكيفيةِ، فإنها من صفاتِ الخلقِ.

 

[9] ) صحيح مسلم، مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع، 8/78.

 

[10] ) أبو صالح السمان،  ذَكْوَان بن عبد الله مولى أم المؤمنين جويرية الغطفانية، الحافظ الحجة، ت101هـ، كان من كبار العلماء بالمدينة، ولد في خلافة عمر رضي الله عنه، وسمع من سعد بن أبي وقاص، وعائشة، وأبي هريرة، وابن عباس وغيرهم. لازم أبا هريرة مدة، حدث عنه ابنه سهيل بن أبي صالح، والأعمش، وعبد الله بن دينار، وخلق سواهم. ذكره الإمام أحمد فقال: «ثقة ثقة» اهـ. وعن الأعمش قال: «سمعت من أبي صالح السمان ألف حديث» اهـ. وقال أبو حاتم: «ثقة، صالح الحديث، يحتج بحديثه» اهـ.=
=سير أعلام النبلاء، الذهبي، 5/20، 21.

 

[11] ) «النَّاصِيةُ واحدة النَّواصي، قال ابن سيده: الناصِيةُ، قُصاصُ الشعر في مُقدَّم الرأْس. وقال الفراء في قوله عزّ وجلّ: كَلاّ لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ {15} (العلق)، ناصِيَتُه مقدَّمُ رأْسه، أَي لنَهْصُرَنَّها لنَأْخُذَنَّ بها أَي لنُقِيمَنَّه ولَنُذِلَّنَّه. وقوله عزَّ وجلَّ: مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ ءاخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا (هود)، قال الزجاج: معناه في قبضته تَنالُه بما شاء قُدرته» اهـ. لسان العرب، ابن منظور، 15/327. قال النوويّ في شرحه: «قَوْله: «أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرّ كُلّ شَىءٍ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهِ» أَيْ مِنْ شَرّ كُلّ شَىء مِنَ المخْلُوقَات، لأنها كُلّهَا فِي سُلْطَانه، وَهُوَ آخِذ بِنَوَاصِيهَا» اهـ. شرح صحيح مسلم، النووي، 9/79.

 

[12] ) عبد الرحمن بن صخر الدوسي الملقب بأبي هريرة، ت 59هـ، كان أكثر الصحابة حفظًا للحديث ورواية له، نشأ يتيمًا ضعيفًا في الجاهلية وقدم المدينة ورسول الله ﷺ بخيبر فأسلم سنة 7هـ ولزم صحبة النبي ﷺ فروى عنه 5374 حديثًا نقلها عن أبي هريرة أكثر من 800 رجل بين صحابي وتابعي، توفي بالمدينة. الأعلام، الزركلي، 3/308.

 

[13] ) سنن الترمذيّ، الترمذي، كتاب الدعوات، باب ما جاء في الدعاء إذا أوى إلى فراشه، 5/ 472.

 

[14] ) «المَفَازَةُ: المَنْجاةُ والمَهْلَكَةُ والفَلاةُ لا ماء بها» اهـ. القاموس المحيط، الفيروزأبادي، مادة: ف و ز، ص 669، «المَفازَةُ: البَريّةُ، وكُلُّ قَفْرٍ مَفازَةٌ. وقيل: المَفازَةُ: الفَلاةُ التي لا ماءَ بها، قاله ابن شُمَيْل. والجمع: مفاوز» اهـ. تاج العروس، الزَّبيديّ، 15/273.