فصلٌ) في أحكام البُغاة جمعِ باغٍ من البَغْيِ وهو الظُلْمُ. وهم فرقةٌ مسلمونَ مخالفونَ للإمامِ بتركِ انقيادِهِم له أي بخروجهم عن طاعتِهِ أو منعِ حقٍّ تَوَجَّه عليهم كزكاةٍ ولو جائرًا فيما يخالف الشرعَ ويحرُمُ الخروجُ عليه إذا ظلمَ ما لم يكفر لِمَا في ذلك منَ الْمفاسِدِ العظيمةِ.
والأصلُ فيه قولُه تعالى في سورة الحُجُرات (إِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا ۖ فَإِنۢ بَغَتْ إِحْدَىٰهُمَا عَلَى ٱلْأُخْرَىٰ فَقَٰتِلُواْ ٱلَّتِى تَبْغِى) قال زيدُ بنُ أسلمَ كُونُوا مع الْمظلومِ على الظالمِ اهـ وقال الطبرِيُّ قاتلُوا التي تَعْتَدِي اهـ وقال الْماتُريدِيُّ التي تَظلمُ وتجورُ اهـ وقال الزَّجَّاجُ الباغيةُ التي تعدِلُ عنِ الحَقِّ اهـ (حَتَّىٰ تَفِىٓءَ إِلَىٰٓ أَمْرِ ٱللّهَ) قال الإمامُ الشافعيُّ أي حتى ترجِعَ عن القتالِ بنحوِ الهزيمةِ أو التوبةِ اهـ فبيَّنَ مجموعُ ذلك أنَّ البَغْيَ الْمُبيحَ للقتالِ ليس مجرَّدَ الاختلافِ في اجتهادٍ جائزٍ وإنما هو الظُّلْمُ والاعتداءُ والعصيانُ على أهلِ العَدْلِ.
(ويُقَاتَلُ) بالبناءِ للمفعول (أهلُ البَغْيِ) أي يقاتلهم الإمامُ وجوبًا مِن غيرِ أن يستعينَ عليهم بكافرٍ ولا بِمَن يرَى قتلَهم مُدْبِرين لعداوةٍ أو اعتقادٍ كالحنفِيِّ إذا كان الإمامُ لا يَرَى ذلك (بثلاثةِ شرائطَ) على ما ذكرَ المصنفُ رحمه الله أحدُها (أن يكونوا في مَنَعَةٍ) بفَتَحَاتٍ بأن تكونَ لهم شَوكَةٌ بقوةٍ وعددٍ وبمُطاعٍ فيهم وإن لم يكن الْمطاعُ إمامًا منصوبًا بحيث يحتاج الإمامُ العادلُ في رَدِّهم لطاعتِه إلى كُلْفَةٍ من بذلِ مالٍ وتحصيلِ رجالٍ فإن كانوا أفرادًا يسهُلُ ضبطُهُم فهم ظلَمَةٌ ءَاثِمونَ لكن ليس لهم حكمُ البغاة الْمتقدِّمُ حتى لو أتلفوا شيئًا ضمنوه كقاطع الطريق. (و)الثاني (أن يخرجوا عن قبضةِ) أي طاعة (الإمام) بانفرادِهم ببلدٍ أو قريةٍ أو موضعٍ منَ الصحراء مع تَرْكِ الانقياد له أو منعِ حقٍّ توجَّهَ عليهم سواء كان الحقُّ ماليًّا كزكاةٍ أم غيرَه كحدٍّ وقَصاصٍ. (و)الثالثُ (أن يكون لهم) أي للبغاةِ في خروجهم على الإمامِ (تأوبلٌ سائغٌ) أي فيه شُبهةٌ أشكلَت عليهم فظنُّوها دليلًا فتمسَّكُوا بها بغيرِ حقٍّ لا أنه تأويلٌ مقبولٌ لا بأسَ به مرفوعٌ الإثمُ عن صاحبِهِ إذ لو كانَ كذلك لم يكونوا بغاةً ولَمَا قالَ اللهُ في شأنِهِم (حَتَّىٰ تَفِىٓءَ إِلَىٰٓ أَمْرِ ٱللّهَ) ولذلك عبَّرَ إمامُ الحرمينِ في نهايةِ الْمَطْلَبِ بقولِهِ وأمَّا التأويلُ فينبغي أن يكونَ مُخْتَلًّا اهـ وذلك كمطالبةِ أهلِ صِفِّينَ بدمِ عثمانَ حيث زعمُوا أنَّ عليًّا رضي الله عنه كان له يدٌ في قتلِ سيدِنا عثمانَ رضي الله عنه وأنه كان يعرِفُ قَتَلَتَهُ ولم يَقْتَصَّ منهم فلم يُبايِعوهُ بعد أن بايعَهُ أهلُ الحلِّ والعقدِ الذينَ بايعوا أبا بكرٍ وعمرَ وعثمانَ رضِيض اللهُ عنهم وأمَّا إذا كان تأويلُ الْمنتسِبِ إلى أُمَّتِنا باطلًا بلا شبهةٍ مُكَذِّبًا لِمَا عُلِمَ منَ الدِّينِ بالضرورةِ فإنَّ صاحبَه عند ذلك لا يَثبُتُ له حكم الباغِي بل يكون معاندًا مُرتَدًّا كمَنْ خرجَ على الإمامِ بدعوَى أنَّ شريعةَ كلِّ نبيٍّ تنقطع بموتِهِ فلا يستحِقُّ الخليفةُ الدَّاعي إليها الطاعةَ فإن هذا تأويلٌ باطلٌ بلا شُبهةٍ وقاشلَهُ كافرٌ بلا شكٍّ ينطبق عليه حكم الْمرتدِّينَ.
ومِن أحكام البغاة أنه لا يقاتِلهم الإمامُ حتى يبعثَ إليهم رسولًا أمينًا فَطِنًا ناصحًا لأهلِ العدلِ مجرِّبًا للحروبِ يسألُهُم ما يكرهونَهُ فإن ذكروا له مَظْلَمَةً هيَ السببُ في امتناعهم عن الطاعةِ راجعَ الإمامَ ليُزيلَها وإن ذكروا شبهةً أزالَها بنفسِهِ أو رجع إلى الإمامِ ليفعلَ ذلك وإن لم يذكُرُوا شيئًا أو أصرُّوا بعد إزالةِ الْمَظلمة نصَحَهم ثم أعلمَهم بالقتال فإن طلبوا مهلة اجتهد الإمامُ وفعل ما رءَاهُ صوابًا.
(ولا يُقتل أسيرُهُم) أي البُغاةِ ولا مُدْبِرُهم ولا مَن ألقى سلاحَه منهم وأعرضَ عنِ القتالِ كما روَى ابنُ أبي شَيبة أن سيدنا عليًّا أمر مناديًا لينادِيَ يومَ الجملِ أن لا يُتْبَعَ مُدْبِرٌ ولا يُذَفَّفَ على جريحٍ ولا يُقْتَلَ أسيرٌ ومَن أغلق بابَه فهو ءَامِنٌ ومَن ألقَى سلاحَه فهو ءَامِنٌ اهـ فإنْ قتلَهُ شخصٌ عادِلٌ فلا قِصاص عليه لشُبهةِ قولِ الإمامِ أبي حنيفةَ. ولا يُطْلَقُ أسيرُهم حتَّى تنقضِيَ الحربُ ويتفرَّقَ جمعُهُم. نعم الْمرأةُ إن لم تُقاتِل والصبيُّ يُطْلَقَانِ بمجرد انقضائِها قال الغزيُّ هنا إن الصبيَّ والْمرأةَ لا يُطلقان حتَّى تنقضِيَ الحربُ ويتفرقَ جَمْعُهُم اهـ وما أثبتناهُ هو الراجح كما ذكرَهُ في فتحِ الوهابِ وغيرِهِ كما يُطلق غيرُهما إذا أطاع الإمامَ باختيارِهِ. (ولا يُغْنَمُ مالُهم) ولا يُقْطَع زرعُهم ولا أشجارُهم ولا تُعْقَرُ خيولهُم إلا إن قاتلوا عليها ويُرَدُّ ما أُخِذَ منهم حتى سلاحُهم وخيلُهم إذا انقضَت الحربُ وأُمِنَت غائلتُهم بتفرُّقِهِم أو رجوعِهِم للطاعةِ. ولا يقاتَلُون بعظيمٍ كنارٍ ومنجنيقٍ إلا لضرورةٍ كأن قاتلوا أهلَ العدلِ به أو أحاطوا بهم فاحتاجُوا غلى ذلك. (ولا يُذَفَّفُ على جَرِيحِهِم) فلا يُقْتَلُ مَن أثخنتْهُ الجِراحةُ اي أضعفتُهُ والتذفيفُ تَتْميم القتل وتعجيلُهُ لحديثِ ابنِ أبي شَيبة والحاكمِ وغيرِهِما نادَى مُنادِي علِيٍّ يومَ الجملِ إلا لا يُتْبَعْ مدبِرُهم ولا يُذَفَّفْ على جريحِهِم اهـ
ولا يَضْمَنُ أهلُ العدلِ ما أتلفوه في حال القتال على البُغاةِ كعكسِهِ فإنه هدَرٌ اقتداءً بالسلف فإنَّ سيدنا عليًّا ومقاتليه لم يطالِب بعضُهُم بعضًا بضمانِ ما أتلفوه في حال القتال. واللهُ أعلم.