الأربعاء ديسمبر 11, 2024

(فصلٌ) في أحكام نفقة الأقاربِ والأرقاءِ والبهائمِ والزوجةِ. وجمعها المصنف رحمه الله في فصلٍ واحدٍ لتناسبها في الوجوب بقدر الكفاية وسقوطِها بمُضِيِّ الزمن بخلاف نفقة الزوجة فلذلك أُفْرِدَتْ بفصلٍ وحدَها في بعضِ النُّسَخِ.

  والنفقةُ مأخوذةٌ لغةً منَ الإنفاقِ وهو اإخراجُ. ولا يستعملُ الإنفاقُ إلا في الخيرِ كما لا يُستعملُ الإسرافُ إلا في غيرِهِ. والأصلُ في وجوبِها ءَاياتٌ وأحاديثُ منها قولُه تعالى في سورةِ البقرةِ (وَعَلَى ٱلْمَوْلُودِ لَهُۥ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ) وخبرُ مسلمٍ اتَّقُوا اللهَ في النِّساء فإنَّكُم أخذْتُمُوهُنَّ بأمانةِ اللهِ أي بأن الله ائتمنكم عليهن فاحفظوا الأمانة وصونوها بمراعاة حقوقها والقيام بمصالحها اهـ قاله القرطبيُّ في الْمفهم واستحلَلْتُم فروجَهُنَّ بكلمةِ اللهِ قيلَ بإباحةِ اللهِ وقيل بالصيغةِ التي شرعها اللهُ مِن إيجابٍ وقَبول. ذكره في شرح النوويِّ على مسلمٍ وغيرِهِ ولهُنَّ عليكم رزقُهُن وكسْوتُهُن بالمعروف اهـ وخبرُهُ أيضًا للمملوكِ كعامُه وكسوتُه ولا يُكَلَّفُ من العملِ ما لا يُطِيق اهـ

  ومنعُ النفقة الواجبة من الكبائر. ولها أسبابٌ ثلاثةٌ القَرابَةُ وملكُ اليمين والزوجيَّةُ ذَكَرَ المصنفُ السببَ الأولَ في قولِه (ونفقةُ العَمُودين) وهُمُ الأصول والفروع (مِنَ الأهلِ) أي الأقرباءِ نسبًا (واجبةٌ للوالدِين والمولودِين) بكسرِ الدالِ فيهما ذكورًا كانوا أو إناثًا فخرجَ بما ضُكر سائرُ الأقارب كالأخ والأخت والعمِّ والعمة. (فأمَّا الوالِدُون فتجبُ نفقتُهُم) وإن علَوا على مَوْلُودِيهِم أي على الفروعِ الوارثِينَ منَ الأصل إن استوَوا في القُرْبِ منه فإن اختلفُوا في القُرْب فعلى الأقرب ولو كان غيرَ وارثٍ كابنِ بنتٍ أو بنتِ بنتٍ مع ابنِ ابنِ ابنٍ فإنَّ النفقة عندئذٍ على ابن البنت أو بنت البنت مع أنهما غيرُ وارثَيْن.

  وإنما تجبُ النفقةُ للوالِدِينَ إذا كانوا فقراءَ أحرارًا معصومينَ وإن قَدَرُوا على الكَسْبِ فلا يُكَلَّفُونَه وخالفَ الْمصنفُ رحمه الله في ذلك فجعلَ وجوبَ نفقتِهم (بشرطَين) أي باجتماعِ وصفَينِ فيهم لا بكونِهِم (فقراءَ) فقط فاشتَرَط أَوَّلُهما اجماعَ الفقر أي عدَم مالٍ عنده بقدر كفايتِهِ قوله (أي عدَم مالٍ عنده بقدر كفايتِهِ) أنسبُ من تفسير الغزيّ له هنا بعدم قدرتهم على مال أو كسب لأنه يدخل تحته العجز بزمانة أو جنونٍ فلا يكون لذكر الزمانةِ والجنونِ بعده عندئذٍ فائدة (والزَّمانة) وهي مصدرُ زَمِنَ الرجلُ إذا حصلتْ له ءَافَةٌ قطعَتْهُ أو أي ثاني الوصفين اجتماعُ (الفقرِ والجنون) فإن لم يجتمعا بأن كان الأصلُ فقيرًا وقدرَ على الكسب لم تجب على الفرع على ما ذهب إليه الْمصنفُ والْمعتمَدُ الوجوبُ لأنَّ الفرع مأمورٌ بمعاشرةِ الوالِدَينِ بالْمعروف وليس منها تكليفُهُما الكسبَ مع كبرِ السِّنِّ.

  (وأما الْمَوْلُودُون) وإن سفَلُوا ولو مِن جهة البنات (فتجب نفقتهم) على الوالِدِين اتفقوا في الدِّين أو اختلفوا فيه فيجب على الْمسلم نفقةُ قريبِهِ الكافرِ المعصومِ وبالعكس فإن كان للولد أبَوَانِ فعلى الأب نفقتُه دون الأُمِّ وإلا فنفقتُه على الْموجودِ منهما وإن لم يكونا وكان له أجدادٌ أو جداتٌ فعلى الأقرب منهم أو منهن وإن كان له أصلٌ وفرعٌ فعلى الفرع وإن نزلَ لأنه أولى بالقيام بشأنِ أصلِهِ لعِظَمِ حُرْمَتِهِ. وإنما تجبُ نفقةُ الفرعِ على الأصلِ إذا كان فقيرًا لا غنيًّا بمالٍ أو كسبٍ (بثلاثةِ شرائطَ) أي بوجودِ أحدِ ثلاثةِ أوصافٍ مجتمعةٍ مع الفقر (الفقرِ والصِّغَرِ) أي عدمِ البلوغِ (أو الفقرِ والزمانةِ) أي العلة التي تقطعُ الْمصابَ بها فيعجزُ معها عنِ الكسبِ (أو الفقرِ والجنونِ) وهو زوالُ العقلِ فلا يجبُ وجوبًا عينِيًّا على الأصلِ نفقةُ فرعِهِ البالغِ العاقلِ القويِّ أي القادرِ على الكسب اللائقِ به ذكرًا كان أو أُنثَى لِمُجَرَّدِ الفقرِ. والْمعتبَرُ في نفقةِ القريب الكفايةُ لحديثِ الصحيحين عن عائشة رضيَ اللهُ عنها أنها قالَتْ دخلَتْ هندُ بنتُ عُتْبَةَ امرأةُ أبي سفيان على رسول الله عليه الصلاة والسلام فقالت يا رسول الله إنَّ أبا سفيان رجلٌ شحيحٌ لا يعطيني منَ النفقة ما يكفيني ويكفي بَنِيَّ إلا ما أخذتُ مِن ماله بغير علمه فهل عليَّ في ذلك مِن جُناحٍ فقال خُذِي مِن مالِهِ بالْمعروف ما يكفيكِ وما يكفي بَنِيكِ اهـ فيجبُ إشباعُه إشباعًا يقدر معه على التردُّد والتصرُّف فلا يكفي سدُّ الرَّمَقِ ولا يجبُ الْمبالغةُ في الإشباع ويُعتبر حالُهُ في سِنِّهِ وزهادتِه ورغبتِ÷ ويجبُ له الأُدم والكِسوةُ والسُّكْنَى ومؤنةُ خادمٍ وأجرةُ طبيبٍ يحتاجُهُما وثمنُ أدويةٍ يحتاجُها ونحوُ ذلك. وهيَ لا تجبُ إلا على غنيٍّ بما زاد عن مُؤنتِه ومؤنةِ مَمُونِه يومًا وليلةً وإن كان عليه دينٌ لأنها مقدَّمةٌ عليه.

  والسببُ الثاني للنفقةِ ملْكُ اليمينِ وقد بيَّنَهُ الْمصنفُ بقولِه (ونفقةُ الرقيقِ والبهائمِ واجبةٌ) فمَن ملك رقيقًا عبدًا أو أمةً ولو مُدَبَّرًا أو أمَّ ولدٍ وجبَ عليه نفقتُهُ لا مكاتبًا ولو مكاتبةً فاسدةً لاستقلاله بالكسب إلا إن عجَّزَ نفسَهُ فيُطعِمُ السِّدُ رقيقَهُ مِن غالب قوتِ رقيقِ أهلِ البلدِ ومن غالب أُدْمِهِم بقدرِ الكفاية فيجب أن يشبعه الشِّبَع الْمعتاد أو ما قاربه ويكسوَهُ مِن غالبِ كِسْوَتِهِمْ ولا يكفي سترُ العورةِ فقط وإن لم يتأذَّ بحرٍّ أو بردٍ لِمَا فيه منَ الإذلالِ إلا في بلدٍ اعتادَ أهلُهُ سترَ عوراتهم فقط. ويدخل فيها أجرةُ الطبيب للرقيق وثمنُ الدواء وماءِ الطهارة وترابِ التيمم إن احتاج ذلك.

  والبهائمُ جمعُ بهيمةٍ سُمِّيَتْ بذلك لعدمِ تَكَلُّمِها يُقالُ استبهم عليه الكلامُ أي استعجم فلم يقدر على الكلام. وهيّ في الأصل اسمٌ لكلِّ ذاتِ أربعٍ من دوابِّ البر والبحر لكن الْمراد بها هنا الحيوتنُ الْمحترم بخلاف غير الْمحترم كالفواسق الخمس أي الحِدَأَةِ والغرابِ والعقربِ والفأرةِ والكلبِ العَقُورِ فلا تلزمُ نفقتُها لكن يحرم حبسُها إلى أن تموتَ جوعًا لخبرِ أحمدَ ومسلمٍ وغيرِهِما إذا قتلْتُم فأحسِنُوا القِتْلَةَ اهـ ومَن ملَكَ بهيمةً فعليه علْفُها وسقْيُها بقدرِ الكفاية أي وصولِهَا لأول الشبع والريّ دون غايتهما ويقومُ مقامَ ذلك تَخْلِيَتُها لِتَرْعَى وترِدَ الماءَ. ولا يحلب الْمالك مِن لبن دابته ما يَضُرُّ ولدَها لأنه غذاؤه وإنما يحلب ما فَضَلَ عنه بشرط أن لا يَضُرَّ البهيمةَ لقلَّةِ علفِها إلَّا أن يَسْقِيَ ولدَها غيرَ لبنِ أُمِّه إن استَمْرَأَهُ وإلَّأ فهو أحقُّ بِلَبَنِها فإن لم يكفِهِ اشترَى له غيرَهُ لوجوب نفقتِه عليه. وليس له تركُ الحلبِ إن كان يضرُّها أيضًا. ويجب على مالك النحل أن يُبْقِيَ له شيئًا من العسل في الكَوَّارة بقدر ما يكفيه أو يضعَ له كفايةً لياكلَهُ مِن غير العسل. ويجب على مالكِ دود القز علْفُهُ بورقِ التوت أو تخليتُهُ لأكلِهِ لِئَلَّا يَهلِكَ بغيرِ فائدة. ويجوز تجفيفُ الدود بالشمس عند حصول نوله وإن أهلكَهُ لأنَّ فائدتَه ذلك كذبحِ المأكول منَ الحيوانِ.

  (ولا يُكَلَّفون منَ العمل ما لا يُطِيقون) الدوامَ عليه وإذا استعمل الْمالكُ رقيقَه نهارًا أراحَهُ ليلًا وعكسُه ويُرِيحه صيفًا وقتَ القَيْلُولة. ولا يكلِّفُ رقيقَه وبهيمتَه عملًا لا يطيقونه على الدوام فأمَّا في بعضِ الأوقاتِ فيجوز أن يكلفهم عملًا شاقًّا ما لم يَخْشَ تَوَلُّدَ محذورٍ منه. ولا يجوز ضربُ الدابَّةِ إلا لحاجةٍ وفي غيرِ وجهها ويتقدَّرُ الضربُ بقَدْرِ الحاجةِ.