(فصلٌ) في أحكامِ الوصية مِن وَصَيْت قوله (وصيتُ) الصادُ مهملةٌ مخففةٌ تقولَ وَصَى كَوَعَى. الشَّىْءَ بالشَّىْءِ إذا وصلتهُ به وهي شرعًا تبرعٌ بحقٍّ مضافٌ لِمَا بعدَ الموتِ. وأركانُها أربعةٌ موصٍ وموصًى له وموصًى به وصيغةٌ وتكون بلفط يشعر بالوصية ضريحٍ أو كنايةٍ بنيةٍ كأعطوه أو ادفعوا له بعد مَوتِي كذا ويُشترط القبولُ إذا كان الْمُوصَى له مُعَيَّنًا ولا تُشترط الفورية بعد الموت فإن كان غيرَ مُعَيَّنٍ لم يُشترطِ القبول.
ولا يُشترط في الْمُوصَى به أن يكون معلومًا وموجودًا بل الشرطُ كونُه مقصودًا قابلًا ولو مَآلًا للنقلِ اختيارًا مباحًا (و)حينئذٍ (تجوزُ الوصيةُ بالمعلومِ والمجهولِ) كالوصيَّةِ باللَّبَنِ في الضَّرْع والحملِ (والموجودِ والمعدومِ) كالوصية بثمر هذه الشجرة قبل وجود الثمرة وبِحَمْلٍ سيحدُثُ فإن قال بهذا الحملِ لم تَصِحَّ الوصيةُ حتَّى يُعْلَمَ كونُهُ موجودًا عندها. وكذا تصِحُّ الوصيةُ بغير المقدورِ عليه كالطَّير في الهواءِ والعبدِ الآبِق وبالْمُبْهَمِ كأحدِ عبدَيْهِ ويُعَيِّنُهُ الوارثُ ولا تصِحُّ لِمُبهَمٍ كأحدِ هذينِ الرجلينِ. وإنما صحَّ في الوصيَّةِ ما تقدَّمَ لأن الْمُوصَى له يخلُفُ الميتَ في ثلث تركتِه كما يخلفه الوارث في ثُلثَيها فلما خلفه الوارث في هذه الأشياء خلفه الْمُوصَى له فيها. وأمَّأ ما لا يحِلُّ اقتناؤه والانتفاعَ به كالخمرِ والخِنزيرِ والكلبِ العَقُور فلا يجوز الوصيَّةُ به بخلافِ نَجِسٍ يَحِلُّ الانتفاعُ به ككلبِ صيدٍ ولو جرْوًا بتثليثِ الجيم يُرْجَى الانتفاعُ به في الْمُستقبَل وخمرٍ مُحْتَرَمَةٍ وهيَ ما عُصِرَت لا بقصدِ الخمريَّةِ وشحمٍ مَيتَةٍ لِدَهْنِ السُّفنِ فتجوزُ الوصيةُ بها لثبوتِ الاختصاصِ فيها وانتقالِها مِن يدٍ ليدٍ بالإرثِ وغيرِهِ.
(وهيَ) أي الوصيةُ (من الثلثِ) أي ثلثِ مالِ الْمُوصِي وقتَ الموتِ (فإن زادَ) على الثلثِ (وُقِفَ) الزائدُ (على إجازةِ الورثةِ) مُطْلَقِي التصرفِ فإن أجازوا فإجازتُهم تنفيذٌ للوصيَّةِ بالزائدِ وإن رَدُّوهُ بَطَلَت في الزائدِ كما لو لم يكن وارثٌ خاصٌ قوله (كما لو لم يكن وارثٌ خاصٌّ) أي فلو أوصَى بما يزيدُ على الثلثِ ولم يكن له وارثٌ خاصٌّ فالمسلمونَ ورثتُهُ وعندئذٍ قال في الروضةِ إنَّ الزيادة على الثلثِ باطلةٌ على الصحيحِ المعروفِ وبه قطعَ الجمهورُ لأنَّ الحقَّ للمسلمينَ فلا مجيز اهـ فإن أجازَ البعضُ وردَّ البعضُ فَلِكُلٍّ حُكْمُهُ.
(ولا يجوزُ الوصيةُ لوارثٍ) خاصٍّ وإن كانت ببعض الثلثِ (إلا أن يجيزَها باقي الورثةِ) حالَ كونِ كلٍّ منهم مُطْلَقَ التصرُّفِ ولا تفتقِرُ حينئذٍ إلى بذلِ وقبولٍ فإن كان فيهم من لم يكن كذلك وُقِفَ الأمرُ إلى كَمَالِهِم ولا تُعْتَبَرُ إجازة الولِيِّ وردُّهُ. وإن أجازها بعضُهم وردَّها بعضُهم صحَّت الوصيَّةُ في حصَّةِ مَنْ أجازَها وكان الْمُوصَى له في الباقي منها وارثًا مع مَن ردَّها.
وذَكَرَ المصنفُ شرطَ الْمُوصِي في قوله (وتصح الوصيةُ) وفي نسخة وتجوز الوصية (من كلِّ بالغٍ عاقلٍ) مختارٍ حرٍّ وإن كان كافرًا أو محجورًا عليه بسَفَهٍ فلا تصحُّ وصيةُ مجنونٍ ومُغْمًى عليه وصبيٍّ وعبدٍ.
وذَكَرَ شَرْطَ الْمُوصَى لهُ إذا كان مُعَيَّنًا في قوله (لكلِّ مُتَمَلِّكٍ) أي لكلِّ من يُتَصَوَّرُ له الْمُلْكُ من صغيرٍ وكبيرٍ وكاملٍ ومجنونٍ وحَمْلٍ موجودٍ عندَ الوصيةِ بأن يَنْفصلَ لأقلَّ مِنْ ستةِ أشهرٍ مِنْ وقتِ الوصيةِ ولو كانت فراشًا بعد موتِ الْمُوصِي قوله (ولو كانت فراشًا بعد موتِ الْمُوصِي) أي كأن لم تعلم أنها حاملٌ فتزوجت بعد مُضِيِّ العدةِ ثم ولدَت بعد أقلَّ مِن ستة أشهرٍ من الوصية ولدًا انفصلَ حيًّا حياةً مستقرَّةً فيُعلَمُ أنه ليس من الزوج الجديدِ. أو أكثرَ مِن ستةٍ وأقلَّ مِن أربعِ سنواتٍ ولم تكن فراشًا. وخرج بالْمُوصَى له الْمُعَيَّنِ ما إذا كان جهةً عامةً فالشرطُ حينئذٍ أن لا تكون الوصيةُ جهةَ معصيةٍ كعمارةِ كنيسةٍ للتعبَّدِ فيها.
(و)تَصِحُّ الوصيةُ (في سبيلِ اللهِ تعالى) كأوصيتُ بثلثِ مالي لسبيلِ الله وتُصْرَفُ للغُزَاةِ الْمُسْتَحِقِّينَ للزَّكاةِ وفي بعضِ النسخِ بَدَلَ سبيلِ اللهِ سبيلِ البِرِّ أي الخيرِ بأن يظهر فيها وجدُ القُربةِ كالوصية للفقراءِ أو لبناءِ مسجدٍ وعلى هذهِ النسخةِ الثانيةِ يُفْهَمُ مِن قوله في سبيلِ البِرِّ أنها لا تصحُّ إن لم يظهر فيها وجهُ قُرْبَةٍ وليس مرادًا بل تَصِحُّ وإن لم يظهر فيها وجهُ القُرْبةِ كالوصيَّةِ للأغنياءِ فالشرطُ في الْمُوصَى له إذا كان جهةً عامةً عدمُ المعصيةِ لا ظهورُ قصدِ القربةِ كما تقدَّم نظيرُه في الوَقْفِ.
(وتَصِحُّ الوصيةُ) أي الإيصاءُ بقضاءِ الدُّيونِ وتنفيذِ الوصايا وردِّ الودائع والعَوَارِي والمغصوبِ والنظرِ في أمرِ الأطفالِ والمجنونِ (إلى مَنْ) أي إلى شخصٍ (اجتمعت فيه خمسُ خصالٍ الإسلامُ والبلوغُ والعقلُ والحريةُ والأمانةُ) أي العدالةُ وعدمُ العداوةِ بين الوَصِيِّ والمحجور عليه فلا يَصِحُّ الإيصاءُ لأضدادِ مَنْ ذُكِرَ لكن الأصحُّ جوازُ وصيةِ ذِمِّيٍّ إلى ذِمِّيٍّ عدْلٍ في دينه على أولادِه الكفار. ويُشترط أيضًا في الوَصِيِّ أن لا يكونَ عاجزًا عن التصرُّفِ في الْمُوصَى به فالعاجزُ عنه لِكِبَرٍ أو هَرَمٍ مثلًا لا يصحُّ الإيصاءُ إليه. ولا يُشترَطُ فيه الذكورةُ قوله (لا يُشترط فيه الذكورة) أي في الْمُوصَى إليه ونقلَ فيه ابنُ المنذرِ الإجماعَ. وصحَّ في الحديثِ خُذِي ما يكفيكِ وولدَكِ بالمعروفِ اهـ وروى أبو داودَ أنَّ ابنَ عمرَ أوصَى إلى امرأتِه اهـ. ولِلْقاضِي أن يُفَوِّضَ أمرَ الأطفالِ إن لم يكن وصِيٌّ إلى امرأةٍ فتكون قيِّمةً وإذا اجتمعَت في أُمِّهِم الحُرَّةِ قوله (الحرة) أخرج به الأمةَ أمَّ الولد. الشرائطُ المذكورةُ وكانَ فيها ما في غيرِها منَ الكفايةِ والاسترباحِ فَهِيَ أولى مِن غيرها لوُفُورِ شفقتِها قوله (لوفور شفقتها) أي وخروجًا من خلافِ مَن قال بأنها تَلِي بعد الأبِ والجدِّ.
هذه ءَاخِرُ رُبعِ المعاملاتِ ويليهِ رُبعُ الأنكحةِ