(فصلٌ) في أحكامِ الشُّفْعةِ بسكون الفاءِ وضَمِّها ومعناها لغةً الضَّمُّ وشرعًا حقُّ تَملُّكٍ يَثبتُ للشريكِ القديمِ على الشريك الحادثِ بسببِ الشركةِ بالعِوَض الذي مَلَكَ به. والأصلُ فيها قبل الإجماعِ خبرُ البخاريِّ عن جابرٍ رضِيَ اللهُ عنه قَضَى رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم بالشفعةِ فيما لم يُقسَمْ فإذا وَقَعَتِ الحدودُ وصُرِّفَت الطرقُ فلا شفعة اهـ وعند مسلمٍ وغيره أنَّ النَّبِيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قضَى بالشُّفعةِ في كلِّ شركة لم تُقسم ربعة أو حائط لا يَحِلُّ له أن يبيعَ قوله (لا يحلُّ له أن يبيع) ظاهرُ الخبرِ إيجابُ استئذانِ الشريكِ قبل البيعِ قال في نهايةِ المطلب ولم أظفَرْ به في كلامِ أحدٍ مِن أصحابنا وهذا الخبر لا مَحيدَ عنه وقد صحَّ وقد قال الشافعيُّ غذا صحَّ الحديثُ فهو مذهبي اهـ قال في أسنَى المطالبِ وقد يُجابُ بحملِ عدمِ الحِلِّ في الخبر على خلافِ الأولى والمعنى أنَّ ذلك لا يحِلُّ حِلًا مُستَوِيَ الطَّرَفَيْنِ اهـ وعلى مثلِ ذلك حمله الرملِيُّ في النهاية فقال أي لا يحِلُّ له ذلك حِلًا مستَوِيَ الطَّرَفَيْنِ إذ لا إثمَ في عدمِ استئذانِ الشَّريك اهـ حتى يُؤْذِنَ شريكَه فإن شاءَ أخذ وإن شاء ترك فإن باعه ولم يُؤْذنه فهو أحقُّ به اهـ قوله (فإن باعَه ولم يُؤْذِنْه فهو أحقُّ به) قال في أسنَى المطالبِ مفهومُ الخبرِ أنه غذا استأذن شريكه في البيع فأذن له لا شفعةَ قال في المطلبِ ولم يصِرْ إليه أحدٌ من أسحابنا تمسُّكًا ببقيةِ الأخبار اهـ فإذا اشترك اثنانِ مثلًا في نحوِ عَقارٍ فباعَ أحدُهُما نصيبَهُ لغيرِ شريكِهِ ثبتَ لشريكِهِ حقُّ تملُّكِ المبيع قهرًا بمثلِ الثمنِ أو قيمتِهِ فحقُّ التملُّكِ في الْمِثال المذكور هو مُسَمَّى الشفعةِ شرعًا. وشُرِعَتْ لدفعِ ضرَرِ القسمةِ إذ مِن حقِّ الراغبِ في البيع مِن الشريكين أن يخلِّصَ صاحبَه مِنَ الشركةِ بالبيع له فغذا باع لغيره فقد سَلَّطَ الشرعُ الشريكَ القديمَ على أخذِهِ منه قهرًا. وتثبُتُ لذِمِّيٍّ على مسلمٍ ومكاتَبٍ على سيد كعكسِهما. واركانُها ثلاثةٌ شفيعٌ وهو الآخذُ ومشفوعٌ منه وهو المأخوذُ منه ومشفوعٌ وهو المأخوذُ وأمَّا الصيغةُ فإنما تُعَدُّ ركنًا في التَّملُّكِ لا في الاستحقاقِ إذا هو ثابتٌ بلا لفظٍ بل بمجرَّدِ العقدِ. ويُعتَبَرُ لحصولِ الملكِ مع اللَّفظِ أحدُ أمورٍ ثلاثةٍ إنا رِضَى المشترِي بكونِ الثمنِ في ذِمَّةِ الشفيعِ أو قضاءِ القاضِي له بالشفعة أو تسليمِ الثمنِ للمشترِي ولا يلزمُه تسليمُ الشِّقصِ للشفيعِ حتَّى يُسلِّمَهُ العِوَضَ قوله (حتَّى يُسلِّمَهُ العِوَضَ) فإن طالبه بتسليمِ العِوَضِ فعجزَ أُمهِلَ ثلاثةَ أيامٍ فإذا لم يُحضِرْهُ فيها فسخَ الحاكمُ تملُّكَه.
وشرطُ المشفوعِ يُفْهَمُ مِن قول المصنف رحمه الله (والشفعةُ واجبةٌ) أي ثابتةٌ للشريك (بالخُلطة) أي خُلطةِ الشيوعِ وهِيَ التي لا تتميزُ فيها أجزاءُ أحد الْمُلَّاك عن غيره (دون) خُلطةِ (الجوار) وهِيَ ما يتميزُ فيها ملكُ كلٍّ عن الآخرِ فلا شفعةَ لجارِ الدارِ ملاصقًا كان أو غيرَه لتميُّزِ الأملاك. وإنما تثبتُ الشفعةُ (فيما ينقسم) أي يقبلُ القسمةَ بأن لا يبطُلَ نفعُه المقصودُ منه لو قُسِمَ (دون ما لا ينقسم) بأن يبطلَ ما ذُكِرَ كحمَّامٍ صغيرٍ فلا شفعةَ فيه فإن أمكن انقسامُه كحمَّامٍ كبيرٍ يمكن جعله حمَّامين ثبتَتِ الشُّفعة فيه. ولو كان لأحدِ الشريكين عُشْرُ دارٍ صغيرةٍ وللآخَرِ تسعةُ أعشارِها ثبتَتِ الشفعةُ للأول إذا باعَ الثاني ولا تثبتُ للثاني إذا باعَ الأولُ لأنَّ العُشر يبطلُ نفعُه المقصودُ منه لو قُسِمَت الدارُ دُون التسعةِ الأعشارِ فلا فائدةَ في القِسمة حينئذٍ لصاحبِ العشرِ فلا يُجابُ إليها إذا طلبَها فيكونُ صاحبُ الحصةِ الكبيرةِ بمأمَنٍ منها فلذا لا تثبُتُ له الشفعةُ إذا باع صاحبُ الصغيرةِ حصَّتَهُ.
(و)إذا ثَبَتتِ الشفعةُ في الأرضِ ثبتَت تبعًا للأرضِ (في كلِّ ما لا يُنْقَلُ مِن الأرضِ كالعَقَارِ وغيره) أي مِن كلِّ ما يدخل في بيعِ الأرض مطلقًا قوله (مطلقًا) يُفهَمُ منه أنَّ البائعَ إذا لم يُطلِق البيعَ بل استثنَى البناءَ والشجرَ والأوتادَ ونحوها بأن قال بِعْتُك الأرضَ دونَ ما فيها لم تدخل في العَقدِ وهو كذلك. كالبناءِ والشجرِ غيرِ اليابسِ لأنها للثباتِ والدوامِ فيها فأشبهَت جُزءَها أمَّا ما لا يدخل في بيعها وهو ما يُنقل كبقرٍ يرعَى فيها وزرعٍ يُؤخَذُ دفعةً كبُرٍّ وشعيرٍ وفُجلٍ فلا تدخلُه الشفعةُ. وليس لِمُنتفِعٍ من شِقصِ أرضٍ مشتركةٍ موقوفٍ عليه شفعةٌ إذا باعَ أحدُ الشركاءِ نصيبَهُ لأنَّ مستحقَّ المنفعةِ لا يملِكُ رقبتها بل ينتفعُ بها على ما شرط الواقفُ نعم لو كان للمسجدِ شِقصٌ مملوكٌ له بشراءٍ أو هبةٍ ليُصرَفَ في عمارته ثم باع شريكُه نصيبَهُ فلِلْقَيِّمِ أن يأخذَهُ بالشُّفعةِ إن رءَاهُ مصلحةً. ولا شُفعةَ في بيعِ بناءٍ وشجرٍ في أرضٍ مُحْتَكَرَةٍ إذ هُوَ كالْمَنْقُولِ قوله (في أرضٍ مُحْتَكَرَةٍ) قال علِيٌّ الشُّبْرامَلِّسِيُّ في حاشيته على شرح الرمليِّ وصُورتها على ما جرت به العادةُ الآنَ أن يُؤذَنَ في البناءِ في أرضٍ موقوفةٍ أو ملوكةٍ بأجرةٍ مقدَّرةٍ في كلِّ سنةٍ في مقابلةِ منفعةِ الأرضِ مِن غيرِ تقديرِ مدةٍ فهيَ كالخَراجِ المضروبِ على الأرضِ كلَّ سنةٍ بكذا واغتُفِرَ ذلك للضرورة اهـ
وإنما يأخذ الشفيعُ شِقْصَ العَقارِ من المشفوع منه (بالثمنِ الذي وقع عليه البيعُ) فإن كان الثمنُ مِثْلِيًّا كحبٍ ونقدٍ أخذه بمثلِه أو متقوِّمًا كعبدٍ وثوبٍ أخذَه بقيمتِهِ وقتَ ثبوتِ الشفعة وهو يومُ البيعِ.
(وهِيَ) أي الشفعةُ بمعنَى طلبِها تكونُ (على الفور) كالردِّ بالعيب من حين علمِهِ بالبيعِ فإذا أرادها فليبادر بطلبِها على العادة فلا يُكَلَّفُ الإسراعَ على خلافِ عادتِهِ بعَدْوٍ أو غيرِه بل الضابطُ في ذلك أنَّ ما عُدَّ توانيًا في طلب الشفعةِ أسقطها وما لا فلا (فإن أَخَّرَها) أي أَخَّرَ طَلَبَها (مع القدرة عليها) أي على طلبها بلا عذر (بَطَلَتْ) فيسقط حقه. نعم يُعذَرُ لنحو صلاة وطعام ولطلوع الصبح إن شَقَّ عليه الطلبُ ليلًا. ولو كان الشفيعُ مريضًا مرضًا يمنعه مِنَ المطالبة أو غائبًا عن بلد المشترِي أو محبوسًا أو خائفًا مِن عدوٍّ فَلْيُوكلْ إن قَدَرَ وإلا فَلْيُشْهِدْ على الطلبِ فإن تركَ المقدورَ عليه من التوكيل أو الإشهاد بَطَلَ حَقُّهُ. ولو قال الشفيعُ لم أعلمْ أنَّ حقَّ الشفعةِ على الفور وكان مِمَّنْ يَخْفَى عليه ذلك صُدِّق بيمينه ولم يَفُتْ حَقُّهُ.
(وإذا تزوَّجَ) الشريكُ (امرأةً على شِقْصٍ أخذَهُ) أي أخذَ (الشفيعُ) الشِّقصَ (بمَهرِ الْمِثْلِ) لتلك المرأةِ لأن البُضْعَ متقوِّمٌ وقيمتُه مهرُ الْمِثْلِ. (وإن كان الشفعاءُ جماعةً استحقوها) أي الشفعةَ (على قدرِ) حصصِهم من (الأملاكِ) فلو كانَ لأحدِهِم نصفُ عَقَارٍ ولآخَرَ ثُلُثُهُ ولثالثِ سُدُسُهُ فباعَ صاحبُ النصفِ حِصَّتَهُ أخذها الآخَرَانِ أثلاثًا.