(فصلٌ) في الـحَجْر بأنواعه.
(والـحَجْر) لغةً الـمنعُ وشرعًا منعُ التصرُّفِ في الـمال. والأصلُ فيه ءايةُ النساءِ (وَٱبْتَلُواْ ٱلْيَتَٰمَىٰ حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغُواْ ٱلنِّكَاحَ فَإِنْ ءَانَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَٱدْفَعُوٓاْ إِلَيْهِمْ أَمْوَٰلَهُمْ) وءَايةُ البقرةِ (فَإِن كَانَ ٱلَّذِى عَلَيْهِ ٱلْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُۥ بِٱلْعَدْلِ) قوله (سفيـهًا) السَّفيه هو الـمفسِدُ لدينِهِ ولـمالِهِ بصرفِهِ في الـجهاتِ الـمحرَّمة. وقوله (ضعيفًا) أي صغيـرًا يضعفُ عنِ القيامِ بأمره والتصرُّفِ بـمالِهِ. وقوله (لا يستطيع أنْ يُـمِلَّ) أي مغلوبًا على عقلِهِ.
وجعلَهُ المصنفُ (على ستةٍ) مِنَ الأشخاصِ (الصبـيِّ) الذي لـم يبلغ فإنَّ وليَّهُ يتصرَّفُ له في مالِهِ بـحسبِ مـصلحتِهِ (والـمجنونِ) الذي لا يعقِلُ (والسفيهِ) وهو غيـرُ الرشيدِ والرُّشدُ هو إضلاحُ الدينِ والـمالِ والـمرادُ بالصلاحِ في الدينِ أن لا يرتكب مـحرمًا يُسقِطُ العدالةَ وفي الـمالِ أن لا يُبَذِّرَ ومنه تضييعُ الـمالِ بإلقائِه في البـحر مثلًا والإنفاقُ في الـمحرَّماتِ واحتمالُ الغَبـنِ الفاحشِ في الـمعاملاتِ ونـحوِها دونَ الصَّرفِ في الأطعمةِ النفيسةِ التي لا تليقُ بـحالِهِ والتَّجـمُّلِ بالثيابِ الفاخرةِ والإكثارِ مِن شراءِ الـجوارِي وما أشبَهَ ذلك فلا تبذيرَ في ذلك قال النوويُّ في الروضة وبالـجملةِ التبذيرُ على ما نقلَهُ معظمُ الأصـحابِ مـحصورٌ في التضيِيعاتِ وصَرْفِهِ في الـمحرَّماتِ اهـ ومثلُهُ ضَرْفُ الـمالِ في وجوهِ الـخيـرِ كالصدقاتِ وفكِّ الرقابِ وبناء الـمساجدِ ورُبُطِ العِلم وشِبهِ ذلك فإنه ليس بتبذيرٍ فإنَّه لا سَرَفَ في الـخيـرِ فيتلخَّصُ أنَّ (الـمبذِّر لِمَالِهِ) الذي بلغَ غيـرَ مصلحٍ له ولا لدِينِهِ أيضًا يستـمرُّ مـحجورًا عليه شرعًا مِن غيـرِ حـجرِ قاضٍ فلا يصحُّ تَصَرُّفُه وفي وجهٍ مرجوحٍ إن بلغَ مُصلِحًا لِمَالِه دُفِعَ إليه وصحَّ تصَرُّفُهُ فيه ولو كان فاسقًا وعليه العملُ في هذهِ الأيام إذ لولا ذلك لفسَدَت معاملاتُ معظمِ الناسِ. ولو بلغَ رشيدًا ثُـمَّ بذَّرَ لـم يثبُت عليه الـحجرُ بـمجرَّدِ ذلك وإنَّـما بـحجرِ الـحاكم فإن لـم يُحْجَر عليه فهو سفيهٌ مُهمَلٌ يصحُّ تصرفُهُ. ولو عادَ الفِسْقُ دونَ التبذيـرِ بعد البلوغِ رشيدًا لـم يُعُدِ الـحجرُ قطعًا لأنَّ الأوَّلِيـنَ لـم يـحجُرُوا على الفسَقَةِ وخالفَ استدامةَ الـحجرِ على مَن بلغَ غيـرَ رشيدٍ لأنَّ الـحجرَ كانَ كان ثابتًا فبَقِيَ (و)الرابعُ (المُفْلِسُ) وهو لغةً من صار مالُهُ فلوسًا ثم كُنِيَ به عن قلةِ المال أو عدمِهِ وشرعًا الشخصُ (الذي ارتكبتْه الديونُ) ولا يَفِي مالُه بِدَينِهِ الحالِّ أو ديونه الْحَاللَّةِ. والحجرُ عليه إنما يكون منَ الحاكم بعد طلبِهِ أو طلبِ الغرماءِ. (و)الخامسُ (المريضُ الْمَخُوفُ عليهِ) مِن مرضه بأن خِيفَ الموتُ منه عاجلًأ لترتُّبِهِ عليه كثيرًا كالإسهالِ المتتابعِ والحُمَّى الْمُطبِقة مثله الطَّلْقُ فيُحجَرُ عليه في العطايا أي في التبرعاتِ كالوصايا لا في البيعِ والشراءِ (فيما زاد على الثلثِ) أي ثلثِ التركةِ لأجل حَقِّ الورثةِ هذا إن لم يكُن على المريض دينٌ مستغرق فإن كان عليه دينٌ يَستغرق تَرِكَتِهِ حُجِرَ عليهِ في الثلث وما زادَ عليه. (و)السادسُ (العبدُ الذي لم يُؤذَنْ له في التجارة) فلا يصح تصرفُه أي معاملتُه بغيرِ إذن سيِّدِه. وسكت المصنف عن أشياءَ من الحجر مذكورة في المطولات منها الحجر على المرتَدِّ لحقِّ المسلمين ومنها الحجر على الراهن لِحَقِّ المرتهِنِ.
(وتَصَرُّفُ الصبِيِّ والمجنونِ والسفيهِ غيرُ صحيحٍ) فلا يصِحُّ منهم بيع ولا شراء ولا هبة ولا غيرُها مِن المعاملاتِ نعم يصح طلاق السفيهِ ولو بلا إذنِ وَلِيِّهِ ويصِحُّ نكاحُهُ بإذنِ وَلِيِّهِ.
(وتصرُّفُ الْمُفْلِسِ يصِحُّ في ذمته) فلو باعَ سَلَمًا طعامًا أو غيرَهُ أو اشترى كُلًّا منهما بثمنٍ في ذِمَّتِهِ صحَّ (دون) تصرفِه في (أعيانِ مالِه) فلا يصحُّ لأنَّ فيه تفويتَ عينٍ على الغرماء. وأما تصرفُهُ في نكاحٍ أو طلاقٍ أو خلع فصحيحٌ. ويُعلم مما تقدم أنَّ المرأة المفلسةَ إن اختلعتْ على عينٍ مِن مالِهَا لم يصحَّ خلعُها أو على دينٍ في ذمتها صَحَّ.
(وتصرُّفُ المريض) الذي اتصلَ مرضُه بالموتِ بوصيةٍ (فيما زاد على الثُّلُثِ موقوفٌ على إجازةِ الوَرَثَةِ) فإن أجازوا الزائدَ على الثُّلث صحَّ وإلا فلا وأما الثلثُ فتنفُذُ الوصيَّةُ فيه دونَ اعتبارِ إجازتِهِم. والعبرةُ بإجازتِهِم (مِنْ بعدِهِ) أي مِن بعدِ موتِ المريضِ فأما حالَ المرضِ فلا تعتبرُ الإجازة ومثلُها الردُّ كما هو ظاهرٌ. وإذا أجاز الوارثُ ثم قال إنما أجزتُ لِظَنِّي أنَّ المال قليلٌ وقد بان خلافُهُ صُدِّقَ بيمينه مثاله أن يُوصِيَ بالنصفِ فيجيزَ الوارثُ ثم يقول ظننتُ أن التركة ستةُ ءالافٍ فسمحتُ بالألفِ فبانَ أنها ستون ألفًا فلم أسمح بعشرةِ ءالاف فإذا حلفَ نفذت الإجازة فيما علِمَهُ وهو ألفٌ فيأخذُهُ الْمُوصَى له مع الثلثِ والباقي للورثَة.
(وتَصَرُّفُ العبدِ) الذي لم يُؤْذَنْ له في التجارة (يكونُ في ذِمَّتِهِ) إن تلفَ فإن كان باقيًا استردَّهُ مالكُه. ومعنى كونِهِ في ذمته أنه (يُتْبَعُ به) أي يُطالَبُ به (إذا عَتَق) بعد عتقة. فإن أذِنَ له السيدُ في التجارة صحَّ تصرُّفُه بحسب ذلك الإذن.
ويرتفعُ حجرُ الإفلاس بفكِّ الحاكمِ له. وحجرُ الجنون بزواله. وحجرُ الصِّغَر بالبلوغ وإيناس الرّشد. وحجرُ الرِّقِّ إذا رفعه السيِّدُ. وحجرُ السَّفِهِ عمَّنْ بلغَ سفيهًا برُشدِهِ قال في الغرر البهين فيزواُ الحجرُ عنه بالرشد بلا فكِّ قاضٍ لأنه لم يثبت به كالمجنونِ إلا أن يُنكرَ الوالدُ رُشْدَهُ فلا يزولُ الحجرُ إلا أن تقومَ بالرشدِ بينةٌ اهـ. وحجرُ الْمُرتَدِّ إنما يثبُتُ بضربِ الحاكمِ فلا يرتفعُ إلا بحكمِه.