كتابُ البيوعِ وغيـرها من الـمعاملات
لَمَّا فرغ الـمصنف من معاملة الـخالق وهِيَ العبادات أخذ في معاملة الخلائق فقال
(كتابُ) أحكامِ (البيوعِ) وغيـرها منَ الـمعاملات كقِراضٍ وشركةٍ وإجارةٍ ووقفٍ وهبةٍ ونـحوِ ذلك.
والأصلُ في حِلِّ البيعِ قبل الإجـماع ءاياتٌ كقوله تعالى في سورةِ البقرةِ (وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلْبَيْعَ وَحَرَّمَ ٱلرِّبَوٰاْ) وأخبارٌ كـخبـرِ البيهقيِّ سُئل النبـيُّ صلى الله عليه وسلَّم أيُّ الكَسْبِ أطيبُ فقال عملُ الرجلِ بيدِهِ وكلُّ بيعٍ مبـرورٍ اهـ قوله (مبرور) أي ذو برٍّ قال عياضٌ في إكمالِ الـمعلم والبِـرُّ هو الاتساع في الإحسان وهو اسم جامع للخيـر كلِّهِ ويكون البـر أيضًا بـمعنى التُّـقَـى الـمُنَزَّه عنِ الـمَأثَـم ومنه بيعٌ مبرورٌ إذا لـم يـخالطه كذب ولا غشٌّ وحـجٌّ مبرورٌ إذا لـم يـخالطه مأثَـمٌ اهـ.
والبيوعُ جـمعُ بيعٍ وهو لغةً مقابلةُ شىْءٍ بشىْءٍ. وأما شرعًا فأحسنُ ما قيل في تعريفه أنَّه تـمليكُ عيـنٍ ماليَّةٍ بـمُعاوضةٍ بإذنٍ شـرعيٍّ أو تـمليكُ منفعةٍ مباحةٍ على التأبيدِ بـثمنٍ مالِـيٍّ فـخرجَ بـمعاوضةٍ الـهبَةُ وبإذنٍ شـرعيٍّ الرِّبا فإنه لا تـمليكَ فيه شـرعًا. ودخلَ في منفعةٍ تـمليكُ حَقِّ البناء على التأبيدِ كأن يقولَ مالكُ السطـح مثلًا لـمن أرادَ أن يستحقَّ البناءَ عليهِ بعتُك حَقَّ البناءِ على هذا السطح بكذا. وخرج بثمنٍ الأجـرةُ في الإجارة فإنـها لا تٌسَمَّى ثـمنًا فضلًا عن أنـها ليست على التأبيدِ.
وللبيعِ ثلاثةُ أركانٍ عاقدٌ ومعقودٌ عليه وصيغةٌ ولك أن تزيدَ تفصيلًا فتقول هِيَ ستَّةٌ بائعٌ ومشتـرٍ وثـمنٌ ومُثْمَنٌ وإيـجابٌ وقَبُولٌ كقولِ الـمُوجِبِ بعتُكَ هذا بكذا أو اشتـريتُ منك هذا بكذا فيقول القابلُ قبلتُ أو اشتـريتُ أو بعتكَ والعادةُ تُفَسِّرُ اللفظَ الـمُجْمَلَ فيها كما في سائرِ العقودِ فتُحمل الدراهِمُ الـمُطْلَقَةُ مثلًا على غالبِ دراهِمِ يومِ العقدِ. ولا بيعَ بالـمعاطاةِ ويَرُدُّ كلٌّ وجوبًا ما أخذَهُ بـها لأنَّ مُـجَرَّد القرينةِ عند الإمامِ الشافعيِّ رضيَ اللهُ عنه لا تقومُ مقامَ العقد مقامَ العقدِ وذلك لأنَّ الأفعالَ لا دلالةَ لَـهَا بالوضعِ وقُصودَ الناسِ فيها تـختلفُ فلا بُدَّ من لفظٍ يدُلُّ عليها. وخَرَّجَ ابنُ سُرَيْجٍ وجهًا أنـها بيعٌ صحيحٌ في كلِّ ما تُعَدُّ الـمعاطاةُ فيه بيعًا عُرْفًا كالـخبـزِ والقمحِ ونـحوِ ذلك مِن الـمُحَقَّراتِ هِيَ ما هانَ قدرُهُ مِن حيثُ الـماليةُ عند الناسِ وفي التاجِ أنَّ الـحقيرَ الصغيـرُ اهـ لا كالأرضِ وبه أفتَـى الرُّويانِـيُّ وغيـرُهُ وهو ما تـجري عليه الـمبايعاتُ اليومَ في الغالبِ.
و(البيوعُ ثلاثةُ أشياءَ) أي أنواعٍ أحدُها بيعُ الـمُعَيَّـنِ وذلك ما عَبَّـرَ عنه الـمُصَنِّفُ بقوله (بيعُ عيـنٍ مُشاهَدَةٍ) أي مَـرْئِيَّةٍ للـمُتبايِعَيـنِ (فـجائزٌ) إذا وُجِدَت الشروطُ مِن كونِ الـمَبيع طاهرًا مُنْتَفَعًا به منفعةً مُعتَبـرةً في الشرعِ مقدورًا على تسلُّمِهِ بلا كلفةٍ ومؤنةٍ كبيـرتَيـنِ للبائعِ عليه ولايةٌ بـملكٍ أو غيـره كوكالة.
(و)الثاني مِن الأنواعِ (بيعُ شىْءٍ موصوفٍ) بصفاتِ السَّلَم الآتيةِ في فصلِ السَّلَمِ بيعًا كائنًا (في الذِّمَّةِ) وله أحكامُ البيعِ ما لـم يكن بلفظِ السَّلَمِ قال الغزيُّ هنا (وبيعُ شىْءٍ موصوف في الذمة ويسمى السلم) فجعله كلَّهُ سلمًا والأصحُّ أنه بيعٌ ولا يكونُ سَلَمًا إلا بلفظٍ مـخصوصٍ كما قال البلقينِـيُ ليس عندنا عقدٌ يتوقف على لفظٍ مـخصوصٍ إلا ثلاثةٌ السلم والنكاح والكتابة اهـ وإلا فـهو سَلَمٌ وسيأتي إن شاء الله تعالى (فـجائزٌ) أي فهو صحيحٌ يستحقُّ الـمُشتـرِي فيه الـمَبيعَ ويقبِضُه (إذا وُجِدَت) في الـمبيعِ (الصفةُ على ما وُصِفَ بِهِ) عند العقد.
(و)الثالثُ وهو متفرِّعٌ عن بيعِ الـمعيَّـنِ إذ إنَّ الـمشتـرِيَ فيه يَشتـرِي شيئًا عيَّنَهُ لـم يَرَهُ كاشتـريْتُ الـحمارَ الذي في الإصطبل أو سيارتَك التي في الـمَوقِفِ ونـحو ذلك فلا يصحُّ بـخلاف ما إذا قال اشتـريتُ منك حـمارًا صفتُهُ كذا وكذا فإنه يصِحُّ كما تقدَّمَ لأنهُ بيعُ موصوفٍ في الذِّمَّةِ وهذا النوعُ الثالثُ هو (بيعُ عيـنٍ غائبةٍ) عن الرُّؤيةِ (لـم تُشاهَدْ) للـمتعاقدَيـن أو أحدِهـما وهو الـمعروفُ ببيعِ الغائبِ (فلا يـجوزُ) بيعُها لعدم رؤيتها مع كونِـها مُعيَّنةً. والـمراد بالـجوازِ في الأنواع الثلاثة الصحةُ.
وقد يُشعـر قوله لـم تُشاهَد بأنـها إن شُوهِدَت ثـم غابت عند العقد أنه يـجوز ولكن مـحلُّ هذا في عيـنٍ لا تتغيـر غالبًا في الـمدة الـمتخلِّلَةِ بيـن الرؤية والشـراء أما إذا كانت العين تتغيَّـرُ في هذه الـمدة فلا يصِحُّ العقدُ إلا برؤيتها مرةً ثانيةً.
(ويصِحُّ بيعُ كلِّ طاهـرٍ) مِنَ الأعيانِ لا نَـجَسٍ ككلبٍ وزبـلٍ (منتفَعٍ به) انتفاعًا مباحًا مقصودًا ولو في الـمَئالِ كالـجحش الصغيـر (مـملوكٍ) مِنَ العاقدِ أو له عليه ولايةٌ أو في بيعِهِ وكالةٌ دونَ ما ليس داخلًا تـحتَ الـمُلْكِ كالـحُرِّ والأرضِ الـمواتِ (ولا يـصحُّ بيعُ عيـنٍ نـجسةٍ) ولا مـتنجسةٍ لا يُـمكِنُ تطهيـرُها كـخمرٍ ودُهْنٍ أي سائلٍ وخلٍّ متنجسَيـنِ ونـحوها مـما لا يُـمكن تطهيـره (ولا) بيعُ (ما لا يُنتفعُ به) منفعةً معتبـرةً شرعًا لِـخِسَّتِهِ كعقـربٍ ونـملٍ وسَبُعٍ لا ينفَعُ ولِقِلَّتِهِ كحبَّتَـي بُـرٍّ ونـحو ذلك.