قولهم في المحكم والمتشابه من الكتاب والسنة:
وأجمعوا أن القرآن فيه آيات محكمات وفيه آيات متشابهات، قال الله تعالى: { هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأَوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ } والمحكمات هي التي دلالتها على المراد واضحة، والمتشابهة هي التي دلالتها على المراد غير واضحة، وقد ذم الله تعالى الذين يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة أي الزيغ أي ابتغاء الإيقاع في الأمر المحظور وهو التشبيه، والذين في قلوبهم زيغ هم أهل الأهواء كالمعتزلة والوهابية وأمثالهم.
وقد سمى الله تعالى المحكمات أم الكتاب أي ام القرآن لأنها الأصل الذي ترد إليها المتشابهات، مثل قوله تعالى { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِياًّ } أي مثلاً أي ليس له مثيل ولا شبيه وكقوله تعالى { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ }.
ثم المتشابه قسمان: أحدهما ما لا يعلمه إلا الله كوجبة القيامة، والثاني يعلمه الراسخون في العلم كمعنى الاستواء المذكور في قوله تعالى { الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى } فإن الراسخين فسروه بالقهر.
وقالوا إن كل ما ورد في القرآن الكريم أو في الحديث الشريف مما ظاهره يوهم التشبيه لله تعالى بخلقه فهو قطعاً ليس على الظاهر وإنما له معنى يليق بالله سبحانه وتعالى ثم سلكوا في ذلك مسلكين فغلب على السلف منهم تأويل هذه الآيات والأحاديث تأويلاً إجمالياً بالإيمن بها واعتقاد أن لها معاني تليق بجلال الله وعظمته ليست من صفات المخلوقين بلا تعيين كآية { الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى } وحديث النزول الذي فيه “ينزل رنبا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول من يدعوني فأستجيب له ومن يسألني فأعطيه ومن يستغفرني فأغفر له” بأن يقولوا بلا كيف أو على ما يليق باله أي من غير أن يكون بهيئة، من غير أن يكون كالجلوس والاستقرار والجوارح والطول والعرض والعمق والمساحة والحركة والسكون والانفعال مما هو صفة حادثة وهو كما قال الإمام الشافعي رضي الله عنه: “آمنت بما جاء عن الله على مراد الله وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله” يعني رضي الله عنه لا على ما تذهب إليه الأوهام والظنون من المعاني الحسية الجسمية التي لا تجوز في حق الله تعالى.
وأما الخلف فغلب عليهم التأويل التفصيلي وذلك بتعيين معان لهذه الآيات والأحاديث المتشابهة مما تقتضيه لغة العرب ويليق بجلال الله سبحانه وتعالى فقالوا في تفسير قوله تعالى { الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى } قهر العرش ومعنى قهر الله للعرش الي هو أعظم المخلوقات أن العرش تحت تصرف الله، هو خلقه وهو يحفظه، يحفظ عليه وجوده، ولولا حفظ الله تعالى له لهوى إلى الأسفل فتحطم، فالله تعالى هو أوجده ثم هو حفظه وأبقاه. وفائدة تخصيص العرش بالذكر لأنه أعظم مخلوقات الله تعالى حجماً فيعلم شمول ما دونه من باب الأولى. قال الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه: “إن الله خلق العرش إظهاراً لقدرته ولم يتخذه مكاناً لذاته”.
وليعلم أنه يجب الحذر من هؤلاء الذين يجيزون على الله العقود على العرش والاستقرار عليه مفسرين لقوله تعالى { الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى } بالجلوس أو المحاذاة من فوق وهؤلاء هم الوهابية وقبلهم أناس كانوا يعتقدون ذلك ففسروا الآية بالجلوس مدعين أنه لا يعقل موجود إلا في مكان وحجتهم داحضة لأنه ليس من شرط الوجود التحيز في المكان، أليس الله كان موجوداً قبل المكان والزمان، وكل ما سواه بشهادة حديث “كان الله ولم يكن شيء غيره”؟! فالمكان غير الله والجهات والحجم غير الله فإذا صح وجوده تعالى شرعاً وعقلاً قبل المكان والجهات بلا مكان ولا جهة فكيف يستحيل على زعم هؤلاء وجوده تعالى بلا مكان عد خلق المكان والجهات؟!
ومصيبة هيلاء أنهم قاسوا الخالق على المخلوق، قالوا: كما لا يعقل وجود إنسان أو ملك أو غير ذلك من الأجسام بلا مكان يستحيل وجود الله بلا مكان، فهلكوا.
ومن سخافة عقولهم أنهم قالوا: إن جهة فوق تليق بالله وجهة تحت نقص على الله فلذلك لا نؤول الآيات والأحاديث التي تدل ظواهرها على أنه في جهة فوق بل نؤول الآيات والأحاديث التي تدل ظواهرها على أنه في جهة تحت، فالجواب: أن جهة فوق مسكن الملائكة، وكذلك مدار النجوم والشمس والقمر جهة فوق وليس هؤلاء أفضل من الأنبياء الذين منشؤهم في جهة تحت وحياتهم في جهة تحت إلى أن يموتوا فيدفنوا فيها، والأنبياء أفضل من الملائكة لأن الله أمر الملائكة بالسجود لآدم تحية فسجدوا له والمسجود له أفضل من الساجد فبطل قولهم: إن جهة فوق كمال لله وجهة التحت نقص على الله، لأن الله لا يتشرف بشيء من خلقه، فلا يتشرف بالعرش، ولا بالسماء ولا بالجهات، ومن زعم ذلك جعل الله محتاجاً لغيره والاحتياج مستحيل على الله بل التحيز في جهة فوق أو غيرها نقص على الله لأنه يلزم من التحيز أن يكون له حد ومقدار والمقدار للمخلوق قال الله تعالى { وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ } العرش له مقدار والذرة لها مقدار وكذلك ما بينهما من الأحجام والأجسام المختلفة.
ثم إن الملك والسلطان قد يكونان يسكنان في بطن الوادي وحراسهما يكونون في الأعالي، فهذا القياس الذي تعتبره الوهابية هو قياس فاسد لا يلتفت إليه إلا من هو ضعيف العقل فاسد الفهم، فعقيدة الصوفية هي كما قال السيد أحمد الرفاعي الكبير قدس الله سره: “غاية المعرفة بالله الإيقان بوجوده تعالى بلا كيف ولا مكان”. وقال رضي الله عنه: “إياكم والتمسك بظاهر ما تشابه من الكتاب والسنة فإن ذلك من أصول الكفر”.
والفوقية بمعنى القهر دون المكان والجهة جاءت في نحو قوله تعالى { وَهُوَ القَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} وقوله عز وجل { يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ }.
وأما حديث النزول السابق الذكر فأحسن ما يقال في ذلك هو نزول الملك بأمر الله فينادي مبلغاً عن الله تلك الكلمات: من ذا الذي يدعوني فأستجيب له من ذا الذي يستغفرني فأغفر له من ذا الذي يسألني فأعطيه” فيمكث الملك في السماء الدنيا من الثلث الأخير من الليل إلى الفجر.
وقالوا في تأويل قوله تعالى { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } إن الكلم الطيب كلا إله إلا الله والعمل الصالح كل ذلك يصعد إلى محل كرامته وهو السماء والمعنى أن الله تعالى يتقبله، فالسماء محل كرامة الله أي المكان الذي هو مشرف عند الله لأنها مسكن الملائكة وقبلة دعاء الداعين كما أن الكعبة قبلة المصلين.
وقالوا في تأويل قوله تعالى: { أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} المراد بمن في السماء الملائكة فإن الله يسلطهم على الكفار إذا أراد أن يحل عليهم عقوبته في الدنيا، ومثل ذلك حديث: “ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء” فإن المراد به الملائكة كما ذكر الحافظ العراقي.
وقالوا في تفسير قوله عزل وجل { أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ } وقوله سبحانه { وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطاً } إن الله أحاط بكل شيء علماً، محيط علماً بالكائنات التي تحدث إلى ما لا نهاية له، حتى ما يحدث في الدار الآخرة التي لا انقطاع لها، يعلم ذلك جملة وتفصيلاً. وعلى معنى الإحاطة بالعلم فسرت المعية الواردة في قوله تعالى { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ } أي عالم بنا أينما كنا.
وعلى معنى العلم أيضاً يحمل حديث: “أيها الناس إنكما لا تدعون أصم ولا غائباً إنما تدعون سميعاً قريباً والذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلة احدكم”. وقوله تعالى: { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ }.
ومعنى قوله تعالى : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } إلا ملكه أي إلا سلطانه فملك الله أزلي أبدي لا ينفى وملك غيره يفنى، ملك الملوك الكفار كنمرود وفرعون الذين أعطاهم الله ت بارك وتعالى هذا الملك الذي هو غير أبدي يفنى وملك أحباب الله كسليما وذي القرنين يفنى، أما ملك الله فهو صفة من صفاته.
وقال بعضهم { إِلاَّ وَجْهَهُ } إلا ما أريد به وجهه، أي الأعمال الصالحة تبقى قال الله تعالى {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَّرَداًّ }.
ويأتي الوجه بمعنى الذات كما في قوله تعالى: { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلالِ وَالإِكْرَامِ} فالعالم وما فيه يفنى والله باق لا يفنى ولا يبيد.
كما يأتي بمعنى الطاعة كحديث: “أقرب ما تكون المرأة إلى وجه الله إذا كانت في قعر بيتها” أي أقرب ما تكون المرأة من طاعة الله إذا لزمت بيتها ولم تخرج منه لغير ضرورة.
وأما قوله تعالى { وَلِلَّهِ المَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ } فمعناه فأينما توجهوا وجوهكم في صلاة النفل في السفر فثم قبلة الله، أي فتلك الوجهة التي توجهتم إليها هي قبلة لكم.
وقالوا في تفسير قوله تعالى في سفينة نوح عليه السلام { وَاصْنَعِ الفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا } و { تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا } وفي حق سيدنا موسى عليه السلام { وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي } معناه الحفظ والرعاية.
وقالوا في تفسير قوله تعالى { وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ } اليد تأتي بمعنى القدرة والقدرة هي القوة وتأتي بمعنى العهد كما في قوله تعالى { إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } أي عهد الله فوق عهودهم أي ثبت عليهم عهد الله لأن معاهدتهم للرسول تحت شجرة الرضوان في الحديبية على أن لا يفروا معاهدة لله تبارك وتعالى لأن الله تعالى هو الذي أمر نبيه بهذه المبايعة.
وقالوا في قوله تعالى في حق سيدنا آدم عليه السلام { مِن رُّوحِي } وفي حق سيدنا عيسى عليه السلام { مِن رُّوحِنَا } إن الله خالق الروح والجسد فليس روحاً ولا جسداً ومع ذلك أضاف الله تعالى روح آدم وعيسى عليهما السلام إلى نفسه على معنى الملك والتشريف لا للجزئية والتبعيض وذلك للدلالة على شرفهما عند الله تعالى، وعلى معنى التشريف يحمل أيضاً قوله تعالى عن الكعبة {بَيْتِيَ } وعن ناقة سيدنا صالح عليه السلام { نَاقَةَ اللَّهِ }.
وأوّلوا النور الوارد في قوله تعالى { اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ } بنور الهداية ومعناه أن الله تعالى هادي أهل السماوات وهم الملائكة والمؤمنين من أهل الأرض من انس وجن إلى نور الإيمان والذي في آخر الآية { يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ } يفسر ما في أولها { اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ }، فالله تعالى ليس نوراً بمعنى الضوء بل هو الذي خلق الانور قال تعالى: { وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ } أي خلق الظلمات والنور فكيف يمكن أن يكون نوراً كخلقه تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً سبحانه { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ }.