المشبهة لما عكفوا على تفسيرها بظواهرها وحرَّموا التأويل الذي سلكه السلف والخلف وقعوا في مثل هذا الخزي فبتفسيرهم الوجه المضاف إلى الله في الكتاب والسنة على الحجم وقع بعض سلفهم في أبشع الكفر وذلك مثل ما وقع لبيان بن سمعان التميميّ من حمل الوجه المذكور في ءاية: {كُلُّ شئٍ هالِكٌ إلا وَجْهَهُ} على الجسم فقال الله شئ أي موجود والعالم شئ أي موجود فإذن الله يفنى إلا وجهه والعالم يفنى كله يوم القيامة وذلك لأنه لما استثنى الوجه في الآية فهم أنّ الله يفنى ويبقى منه وجهه الذي هو الجزء المركب على أعلى البدن، تعالى الله عن ذلك وكان بيان هذا له طائفة تنسب إليه يقال لهم البيانية كما يقال للوهابية الواهبية نسبة إلى محمد بن عبد الوهاب التميمي.
أقول: هذا نتيجة ترك التأويل ولو أولوا الوجه بالملك أو غيره مما أوّل به السلف كسفيان الثوري والبخاري لسلموا من هذا الكفر الشنيع لكن الوهابية وسلفهم من المشبهة المجسمة يظنون أن التأويل أي حمل الآيات المتشابهات على خلاف الظاهر تعطيل أي نفيٌ لما أثبت الله لذلك فالوهابية تسمي التأويل تعطيلاً، وكفَّروا لذلك الأشاعرة والماتريدية وهم تبعوا في ذلك مَن قبلهم فإن أبا الحسن الأشعري وأبا منصور الماتريدي من أهل القرن الثالث لا يحملان الآيات المتشابهات والأحاديث المتشابهة على ظواهرها كما فعل من قبلهما من السلف الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم فإنه ثبت عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه فسر الساق [1] المذكورة في ءاية {يومَ يُكشَفُ عن ساقٍ} بالشدّة الشديدة، والإمام أحمد بن حنبل الذي تنتسب إليه الوهابية ظاهرًا أوَّل ءاية {وجاءَ ربُّكَ} قال إنما جاءت قدرته [2] أي ءاثار القدرة العظيمة التي تظهر ذلك اليوم، ومع هذا تدعي الوهابية أنهم
على مذهب السلف والسلف مؤولون بعضهم يؤولون تأويلاً إجماليًا فيقولون لله وجه بلا كيف أي ليس جسمًا ويقولون لله يد بلا كيف أي ليس يد الله جسمًا بل صفة كالقدرة والإرادة والعلم وحياته تعالى.
وتزعم الوهابية أن الوجه الذي هم يعتقدونه جسمًا صفة فيقولون للمؤولين المنزهين إذا لم يحملوا الوجه على الجسم بل أوَّلوه على الصفة كما أوَّل البخاري الوجع في الآية بالملك وكما أوّل سفيان إنهم معطلة يرون أن هذا التأويل تعطيل أي نفي لما أثبت الله لنفسه وهذا الغاية في الجهل، كيف يسمّى الجسم صفة؟. فالمشبهة بأسرهم سلفهم كبيان بن سمعان وخلفهم كابن تيمية مجسمون، وأحيانًا يقولون لفظًا الله ليس جسمًا وهم يعتقدون الجسم كما حصل لابن تيمية في بعض مؤلفاته حيث قال إنّ السلف لا أثبتوا لله الجهة ولا نَفوا وهذا من جملة مناقضاته لنفسه حيث إنه صرح في مواضع عديدة بأن الله حالٌّ مستقر في الجهة العُليا [3] أي فوق العرش لأنهم لا يعتقدون موجودًا بلا مكان. وفي القرءان والأحاديث دلالة على صحة الوجود بلا مكان قال الله تعالى: {هوَ الأولُ} [سورة الحديد/3] أي الموجود الذي ليس لوجوده ابتداء أي الذي كان موجودًا قبل كل شئ المكان والجهات وغير ذلك من الحوادث.
وماذا تقول الوهابية في حديث “أقرب ما تكون المرأة إلى وجه الله إذا كانت في قعر بيتها” فهل هنا يؤولون الوجه أم يتركونه على الظاهر فإن أوّلوا بما أوّل به السلف كان ذلك موافقة للسلف ونقضًا لمذهبهم بمنع التأويل، وإن أولوه بالذات فقد نقضوا اعتقادهم بأن الله فوق العرش لأنه يلزم على هذا بأن الله قريب إلى المرأة بالمسافة فماذا يصنعون هل يتركون مذهبهم الذي هو التجسيم وجعل الله على ظهر العرش فإن المسافة ما بين العرش إلى حيث تكون المرأة في الأرض معلوم أنها لنفي غاية البعد أم ماذا يصنعون، فإن قالوا قربٌ معنويٌّ فقد نقضوا مذهبهم أيضًا، وهذا إلزام لا مهرب لهم منه. والحديث ثابت رواه ابن حبان وغيره [4].
هؤلاء المشبهة لو رزقهم الله فهم هذه الآية {ليس كمثله شئ} لعلموا أنّ الله ليس جسمًا ولا يوصف بصفات الجسم إنما هو موجود لا تصل إليه أفكارنا لكنهم يعتقدون أنّ التأويل ونفي الجسمية وصفات الأجسام عن الله تعطيل ولذلك كفروا الأشاعرة والماتريدية وألحقوهم بالجهمية والمعتزلة، ففي الكتاب الذي سموه التوحيد وقرروه ليُدرَّس في الصف الأول من المرحلة الثانوية في مدارسهم لهذه السنة 1425هـ قالوا بالنص [ص/67]: “فهؤلاء المشركون هم سلف الجهمية والمعتزلة والأشاعرة وكلّ من نفى عن الله ما أثبته لنفسه أو أثبته له رسول صلى الله عليه وسلم من أسماء الله وصفاته وبئس السلف لبئس الخلف” اهـ فجعلوا الأشاعرة ممن ينفي صفات الله وكذبوا في ذلك إنما أثبت الأشاعرة لله ما وصف به نفسه ولكنهم نفوا عنه مشابهة المخلوقين، ولكن الوهابية يسمون تنزيه الله عن مشابهة الخلق تعطيلاً أي نفيًا وبذلك استحلوا تكفير المسلمين جميعًا واستباحوا قتلهم. وقد كان محمد بن عبد الوهاب يكفر من خالفه ويستحل قتله ذكر ذلك الشيخ محمد بن عبيد الله النجدي التميمي مفتي مكة المكرمة للحنابلة في كتابه الذي ألفه في ترجمة فقهاء الحنابلة [5] فقد ذكر أباه وأثنى عليه وذم محمدًا هذا ومدح أخاه الشيخ سليمان بن عبد الوهاب لأنه كان ضد محمد بن عبد الوهاب وردّ عليه ردين سمى أحدهما فصل الخطاب في الردّ على محمد بن عبد الوهاب.
ولما قيل لبعض دكاترة الوهابية إن البخاري يؤول قول الله {إلا وجهه} بأن معناه إلا ملكه أجاب بقوله: “البخاري في إيمانه شك” اهـ.
وعبارة البخاري إلا ملكه ويقال ما يتقرب به إليه، فهذان تأويلان [6].
وفي تفسير سفيان الثوري المطبوع في الهند سنة 1358هـ ص/194: {كُلُّ شئٍ هالِكٌ إلا وجْهَهُ} قال: “ما أريد به وجهه” اهـ يعني الحسنات.
فقد بان أنَّ الوهابية تكفر السلف والخلف فابن عباس رضي الله عنهما ثبت عنه أنه أوَّلَ تلك الآية التي هي من المتشابه كما قدمنا، ومجاهد الذي هو تابعي تلقى العلم من الصحابة أوَّل ءاية {فأيْنَما تُوَلُّوا فثَمَّ وجهُ الله} [سورة البقرة/115] قال: “قبلة الله” فسر وجه الله بقبلة الله [7]، فلا يغتر بهم ولا بمن يداهنهم، فمن يكفر السلف والخلف هو المستحق أن يُكفّر والأمر سلفها وخلفها هم مؤمنون مسلمون.
وفي الكتاب الآنف الذكر المسمى بالتوحيد في الصحيفة الخامسة والخمسين منه مكتوب: “فتحكيم الشريعة عبادة لله وتوحيد له وتحكيم النظم والقوانين البشرية كفر وشرك” اهـ وهذا تكفير لكل الرؤساء والملوك الإسلاميين بلا استثناء بل وتكفير لحكام ءال سعود لأنه لا يوجد اليوم دولة لم يدخل في قوانينها أحكام ليس لها أساس في الشرع فعلى زعم الوهابية لا يوجد على ظهر الأرض مسلم إلا الأفراد الذين يعتقدون عقيدتهم.
[1] انظر “الأسماء والصفات” [ص/309]، و”فتح الباري” [13/428].
[2] انظر “البداية والنهاية” [10/327].
[3] انظر كتابه المسمى “منهاج السنة النبوية” [1/217 و249 و250 و264، 1/262]، و”شرح حديث النزول” [ص/66].
[4] أخرجه ابن حبان في صحيحه: ءاخر كتاب الحظر والإباحة، انظر “الإحسان” [7/446]، وابن خزيمة في صحيحه: أول باب جماع أبواب صلاة النساء في الجماعة [3/93].
[5] السحب الوابلة [ص/275-276].
[6] أخرجه البيهقي من كتاب الأسماء والصفات.
[7] الأسماء والصفات [ص/309].