طلب الآخرة:
واعلم أن من أعطي الدنيا ولم يعط الإيمان كأنما لم يعط شيئاً ومن أعطي الإيمان ولم يعط الدنيا كأنما ما منع شيئاً، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي، فقال: “كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل”.
وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: “إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك. رواه البخاري. قالوا في شرح هذا الحديث معناه: “لا تركن إلى الدنيا ولا تتخذها وطناً، ولا تحدث نفسك بطول البقاء فيها، ولا بالاعتناء بها، ولا تتعلق منها إلا بما يتعلق به الغريب في غير وطنه، ولا تشتغل فيها بما لا يشتغل به الغريب الذي يريد الذهاب إلى أهله، وبالله التوفيق.
قال مجاهد تلميذ الصحابي الجليل ابن عباس رضي الله عنهما: “اجعل دنياك جُنة لدينك ولا تجعل دينك جنة لدنياك”. معناه اجعل دنياك حصنا ووقاية لدينك، أي احفظ دينك بدنياك، بمالك، أي اصرف مالك لحفظ دينك وإياك والعكس. معناه لا تؤثر دنياك على دينك بل آثر دينك على دنياك. كما فعل أحد الصحابة وكان فرضا عليهم قبل الفتح أن يلحقوا بالرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ليآزروه – ويقال له صهيب الرومي، كان غنيا له مال كثير، المشركون في مكة قالوا له: ” لا نخليك حتى تتخلى عن كل مالك”، فتخلى عن ماله وذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال الحسن البصري رضي الله عنه: “الدنيا كالراحلة إذا ركبتها حملتك وإذا رككبتك قتلتك”.
فالحذر من الدنيا فقد روى عن سول الله صلى الله عليه وسلم: سيأتي يوم على أمتي يحبون خمسة وينسون خمسة يحبون الدنيا وينسون الآخرة، ويحبون المال وينسون الحساب، ويحبون الخلق وينسون الخالق، ويحبون الذنب وينسون التوبة، ويحبون القصور وينسون القبور”.
وروى الحاكم في كتاب المستدرك بإسناد صحيح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله: “اغتنم خمساً قبل خمس، حياتك قبل موتك، صحتك قبل سقمك، وشبابك قبل هرمك، وغناه قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك”.
فقوله عليه الصلاة والسلام: “اغتنم حياتك قبل موتك”، ورد حديث آخر في معناه “كم من مستقبل يوماً لا يستكمله”.
وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول:
كل امرئ مُصَبَّحٌ في أهله والموت أقرب من شِراك نعله.
فالموت قريب والعمر ساعات قليلة ويوم القيامة تُوَفَّى كل نفس ما كسبت. فالدنيا خائنة كذابة تضحك على أهلها مَن مال عنها سلم منها، ومن مال إليها ابتلي فيها. هي كالحية لين لمسها قاتل سمها لذاتها سريعة الزوال وأيامها تمضي كالخيال.
قال الله تعالى: (وإنك لعلى خلق عظيم)، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً”، على حسب حسن الخُلق يكون الشخص أكمل إيماناً. وفي رواية: “أكمل المؤمنين إيماناً أحاسنهم أخلاقاً”.
ومعنى حسن الخلق أن يصبر على أذى الناس، ويحسن إليهم، ويكف أذاه عن غيره. فقد كان عليه الصلاة والسلام كثيراً ما يحض أُمَّته على العفو والصفح وتحمل الأذى.
فقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: “ما شيء أثقل في الميزان” أي في ميزان الآخرة الذي يوزن به أعمال العباد “من حسن الخلق” وحسن الخلق عبارة عن تحمل أذى الغير وكف الأذى عن المسلمين وبذل المعروف أي أن يحسن المؤمن إلى الذي يحسن إليه والذي لا يحسن إليه. فعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله يقول: “إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم”.
وفي معنى حسن الخلق قال الإمام البيهقي: سلامة النفس نحو الأرفق الأحمد من الأفعال وقد يكون ذلك في ذات الله تعالى وقد يكون فيما بين الناس، وهو في ذات الله عز وجل أن يكون العبد منشرح الصدر بأوامل الله تعالى ونواهيه، يفعل ما فرض عليه، طيب النفس به سلساً نحوه وينتهي عما حرم عليه راضيا به غير متضجر منه ويرغب في نوافر الخير ويترك كثيراً من المباح لوجهه تعالى وتقدس، إذا رأى أن تركه أقرب إلى العبودية من فعله مستبشراً لذلك غير ضجر منه ولا متعسر به. وهو في المعاملات بين الناس أن يكون سمحاً لحقوقه لا يطالب غيره بها ويوفي ما يجب لغيره عليه منها، فإن مرض ولم يُعَد أو قدم من سفر فلم يُزَرْ أو سلم فلم يرد عليه أضاف فلم يُكرَم أو شفع فلم يُجَب أو أحسن فلم يُشكَر أو دخل على قوم فلم يُمكَّن أو تكلم فلم يُنصَتْ له واستأذن على صديق فلم يُؤذَن له أو خطب فلم يُزوَّج أو استمهل الدَّين فلم يُمهَل أو استنقص منه فلم يُنقَص وما أشبه ذلك، ولم يغضب ولم يعاقِب ولم يتنكر من حاله حال، ولم يستشعر في نفسه أنه قد جفي وأوحش وأنه لا يقابل من ذلك إذا وجد السبيل إليه بمثله بل يُضمر أنه لا يعتدُّ بشيء من ذلك ويقابل كلا منه بما هو أحسن وأفضل وأقرب إلى البر والتقوى وأشبه بما يُحمَد ويرضى، ثم يكون في إيفاء ما يكون عليه هو في حفظ ما يكون له، فإذا مرض أخوه المسلم عاده، وإن جاء في شافعة شفعه وإن استمهله في قضاء دين أمهله، وإن احتاج منه إلى معونته أعانه وإن استسمحه في بيع سمح له ولا ينظر إلى أن الذي يعامله كيف كانت معاملته إياه فيما خلال وكيف يعامل الناس إنما يتخذ الأحسن إماماً لنفسه فينحو نحوه ولا يخالفه، والخلق الحسن قد يكون غريزة وقد يكون مكتسباً.
وإنما يصح اكتسابه ممن كان في غريزته أمثل منه فهو يضم باكتسابه إليه ما يتممه، ومعلوم في العادات أن ذا الرأي يزداد بمجالسة أولي الأحلام والنهي رأياً، وأن العالم يزداد بمخالطة العلماء علماً، وكذلك الصالح والعاقل بمجالسة الصلحاء والعقلاء، فلا ينكر أن يكون ذو الخلق الحسن الجميل يزاد حسن الخلق بمجالسة أولي الأخلاق الحسنة وبالله التوفيق.