فائدة في بيان الفرق بين المخالف في الاعتقاد وبين المخالف في الفروع
لمّا علمنا أن الأنبياء متفقون في الدين لا اختلاف بينهم وإنما اختلفت شرائعهم لاقتضاء الحكمة ذلك علمنا أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا في أصول العقيدة وإنما كان اختلافهم في الأحكام. اجتهدوا في فروعها فاختلف اجتهادهم فلم يكن في ذلك تضليل من بعضهم لبعض ولا تبديع. وكذلك من جاء بعدهم وسلك نهجهم لم يختلفوا في أصول العقيدة التي كان عليها الرسول والصحابة ولكنهم اختلفوا في فروع الأحكام أسوة بالصحابة فلذلك يسمون أهل السنة والجماعة ومنهم أئمة المذاهب الأربعة وغيرهم ممن انقرضت مذاهبهم كالأوزاعي فإن مذهبه انقرض بعد مائتي سنة وأما من خالف أهل السنة في العقيدة فهم مسلمون ضالون إلا من غلا منهم فأدَّى به غُلُوُّه إلى ما يقضي عليه بالكفر. وهذا مَحمَل الحديث الصحيح المشهور الذي رواه الترمذي والبيهقي وغيرهما [(1060)] عن عدة من الصحابة أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال «ستفترق أمتي ثلاثة وسبعين فرقة كلهم في النار إلا واحدة وهي الجماعة» ولفظ أبي داود [(1061)]: «إن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة» قال الترمذي: «حديث حسن صحيح». وفي رواية عند الترمذي [(1062)] «كلهم في النار إلا ملّة واحدة». قالوا من هي يا رسول الله قال «ما أنا عليه وأصحابي».
فقوله صلى الله عليه وسلم: «كلهم في النار» أي أنهم يستحقون عذاب النار لمخالفتهم في الاعتقاد لكن من لم يكن منهم غاليًا إلى الكفر يدخل الجنة بعد العذاب.
فعُلِم من ذلك أن لا مجال للاجتهاد في أصول العقيدة وأنه لا يعذر المخطئ في الاعتقاد بخلاف المخطئ في الاجتهاد في فروع الأحكام إذا كان أهلًا للاجتهاد بأن يكون حافظًا لآيات الأحكام وأحاديث الأحكام مع معرفة أسانيدها ومعرفة أحوال الرواة من حيث الثقة والضعف قويَّ القريحة عارفًا بالمسائل التي أجمع عليها المجتهدون فإنه إن أصاب في اجتهاده فله أجران وإن أخطأ فله أجر بطلبه الحقَّ وبذل وسعه وذلك أخذًا من حديث البخاري وغيره [(1063)] من حديث ابن عمرو «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر».
وأما غير الأهل للاجتهاد فلا أجر له باجتهاده لاستخراج الأحكام بدليل حديث أبي داود [(1064)] «القضاة ثلاثة قاض في الجنة وقاضيان في النار»، وقال «قاض قضى بعلم بحق فهو في الجنة، وقاض قضى بجهل فهو في النار، وقاض قضى بجَور فهو في النار». فتبين أن من زعم أن المجتهدين في العقيدة المخالفين لأهل السنة يعذرون مردود عليه زعمه. فما ذكره صاحب كتاب قصة الإيمان [(1065)] «أن ابن رشد في قوله بأزلية العالم وقدمه مخطئ معذور» مردود بإجماع العلماء على تكفير من قال بأزلية العالم. كما قطع بتكفيرهم النووي وابن حجر والسيوطي والقاضي عياض المالكي والفقيه المحدث الأصولي بدر الدين الزركشي في «تشنيف المسامع» وغيرهم [(1066)]. وكذلك نص على أن المخطئ في الاعتقاديات لا يُعذر الإمام الصوفي أحمد الفاروقي السرهندي. وقد قدمنا في موضع أنه لا فرق في التكفير بين من يقول بأزلية العالم بمادته وصورته كابن سينا وبين من يقول بأزليته بنوعه كبعض الفلاسفة كأصحاب الهَيُّولَى وإلى ذلك يرجع كلام ابن تيمية في بعض مؤلفاته كما قدمنا ذلك.
ـ[1060] تاج العروس (2/ 410).
ـ[1061] أخرجه البيهقي في سننه (7/ 291، 292)، وأخرجه ابن ماجه في سننه: كتاب النكاح: باب حق الزوج على المرأة، وقال الحافظ البوصيري في المصباح (1/ 324): «رواه ابن حبان في صحيحه. وقال السندي: كأنه يريد أنه صحيح الإسناد» اهـ. وانظر الإحسان (6/ 186 – 187).
ـ[1062] مسند أحمد (6/ 76)، قال الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 9): «رواه أحمد وإسناده جيد» ..
ـ[1063] كشف الأستار عن زوائد البزار (4/ 34).
ـ[1064] مجمع الزوائد (10/ 132).
ـ[1065] كذا في المطبوع وبهامشه: «في نسخة البزار».
ـ[1066] الأمالي المصرية (ص/184).