(والله تعالى غنى عن العالمين أى مستغن عن كل ما سواه أزلا وأبدا) وكل ما سواه محتاج إليه (فلا يحتاج) الله (إلى مكان يتحيز فيه أو شىء يحل به أو إلى جهة لأنه ليس كشىء من الأشياء ليس حجما كثيفا ولا حجما لطيفا) قال على رضى الله عنه »من زعم أن إلهنا محدود فقد جهل الخالق المعبود« رواه الحافظ أبو نعيم فى كتاب حلية الأولياء. ومعنى كلامه أن الله ليس له حجم صغير ولا كبير ليس كأصغر حجم وهو الجزء الذى لا يتجزأ ولا كأكبر حجم كالعرش وليس حجما أكبر من العرش ولا كما بين أصغر حجم وأكبر حجم قال تعالى ﴿وكل شىء عنده بمقدار﴾ فالله منزه عن المقدار أى الحد والكمية فمن قال إنه حجم كبير بقدر العرش أو كحجم الإنسان فقد خالف الآية كما أنه خالف قوله تعالى ﴿ليس كمثله شىء﴾ لأنه لو كان له حجم لكان له أمثال لا تحصى ولو كان متحيزا فى جهة فوق لكان له أمثال لا تحصى (والتحيز من صفات الجسم الكثيف واللطيف فالجسم الكثيف والجسم اللطيف متحيز فى جهة ومكان قال الله تعالى ﴿وهو الذى خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل فى فلك يسبحون﴾ فأثبت الله تعالى لكل من الأربعة التحيز فى فلكه وهو المدار). والجهات كلها بالنسبة لذات الله على حد سواء ولذلك يوصف الله بالقريب فلو كان متحيزا فوق العرش لكان بعيدا ولم يكن قريبا. قال الإمام زين العابدين رضى الله عنه على بن الحسين فى الصحيفة السجادية »سبحانك أنت الله لا إله إلا أنت لا يحويك مكان لا تحس ولا تمس ولا تجس« رواه الحافظ محمد مرتضى الزبيدى فى كتاب إتحاف السادة المتقين بالإسناد المتصل منه إلى زين العابدين. (ويكفى فى تنزيه الله عن المكان والحيز والجهة قوله تعالى ﴿ليس كمثله شىء﴾ لأنه لو كان له مكان لكان له أمثال وأبعاد طول وعرض وعمق ومن كان كذلك كان محدثا محتاجا لمن حده بهذا الطول وبهذا العرض وبهذا العمق، هذا الدليل من القرءان. أما من الحديث فما رواه البخارى وابن الجارود والبيهقى بالإسناد الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال »كان الله ولم يكن شىء غيره« ومعناه أن الله لم يزل موجودا فى الأزل ليس معه غيره لا ماء ولا هواء ولا أرض ولا سماء ولا كرسى ولا عرش ولا إنس ولا جن ولا ملائكة ولا زمان ولا مكان ولا جهات فهو تعالى موجود قبل المكان بلا مكان وهو الذى خلق المكان فليس بحاجة إليه وهذا ما يستفاد من الحديث المذكور. وقال البيهقى فى كتابه الأسماء والصفات »استدل بعض أصحابنا فى نفى المكان عنه بقول النبى صلى الله عليه وسلم »أنت الظاهر فليس فوقك شىء وأنت الباطن فليس دونك شىء« وإذا لم يكن فوقه شىء ولا دونه شىء لم يكن فى مكان« اهـ. وهذا الحديث فيه الرد أيضا على القائلين بالجهة فى حقه تعالى). وقوله عليه السلام »أنت الظاهر« معناه أن الله تعالى ظاهر من حيث الدلائل العقلية التى قامت على وجوده وقدرته وعلمه وإرادته لأنه ما من شىء إلا وهو يدل دلالة عقلية على وجود الله، وأما الباطن فمعناه على ما قال بعض العلماء الذى يعلم حقائق الأمور وبعضهم قال الذى لا تدركه الأوهام أى لا تبلغه تصورات العباد (وقد قال على رضى الله عنه »كان الله) أى فى الأزل (ولا مكان) أى ولم يكن مكان (وهو الآن) أى بعد أن خلق المكان (على ما عليه كان«) أى لم يزل موجودا بلا مكان لأنه لا يجوز عليه التغير والتطور والانتقال من حال إلى حال (رواه أبو منصور البغدادى. وليس محور الاعتقاد على الوهم بل على ما يقتضيه العقل الصحيح السليم الذى هو شاهد للشرع وذلك أن المحدود محتاج إلى من حده بذلك الحد فلا يكون إلها) فمحور اعتقاد المسلم ليس على الوهم لأن الوهم يحكم على ما لم يشاهده بحكم ما شاهده فيحكم بأن الله موجود بمكان أما العقل السليم فيقضى بأن الله موجود بلا مكان. ومحور اعتقاد المسلم على العقل السليم ليس على الوهم لأن العقل لا يرد ذلك بل يقبله ويسلم به والوهم يتصور أشياء لا حقيقة لها ومثال ذلك لو نظر إنسان إلى البحر عند الغروب وهمه يقول له إن السماء ملتصقة بالبحر وإن الشمس تنزل فى البحر لكن الواقع غير ذلك فنحن ننظر إلى العقل ولا ننظر إلى الوهم. وإذا قال المشبهة كيف يقال الله ليس متصلا بالعالم ولا منفصلا عنه هذا لا يقبله العقل يقال لهم العقل يقبله لكن الوهم لا يتصوره كما لا يتصور الوهم عدم النور والظلام معا فى ءان واحد قبل أن يخلقا لأنهما خلقا بعد خلق الماء والعرش والقلم واللوح. ومع كون ذلك غير مفهوم للإنسان نؤمن به لأن الله تعالى أخبر بذلك بقوله ﴿الحمد لله الذى خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور﴾. أما الدليل العقلى على تنزيه الله عن المكان فهو أنه تعالى لو استقر على مكان أو حاذى مكانا لم يخل أن يكون بقدر المكان أو أصغر منه أو أكبر منه فلو كان مثل المكان لكان له شكل المكان إن كان ذلك المكان مربعا أو مثلثا أو غيرهما من الأشكال فيكون محتاجا إلى مخصص خصصه بأحد هذه الأشكال وهذا عجز، ولو كان أكبر من المكان لأدى ذلك إلى التوهم أن الله متجزئ بأن يكون جزء منه فى مكان والزائد خارج المكان واعتقاد هذا كفر أيضا، ولو كان أصغر من المكان لكان ذلك حصرا له وهذا لا يليق بالله تعالى. فمحال أن يكون الله مثل المكان أو أكبر من المكان أو أصغر من المكان وما أدى إلى المحال محال (فكما صح وجود الله تعالى بلا مكان وجهة قبل خلق الأماكن والجهات فكذلك يصح وجوده بعد خلق الأماكن بلا مكان وجهة وهذا لا يكون نفيا لوجوده تعالى كما زعمت المشبهة والوهابية وهم الدعاة إلى التجسيم فى هذا العصر) ومصيبة هؤلاء أنهم قاسوا الخالق على المخلوق قالوا كما لا يعقل وجود إنسان أو ملك أو غير ذلك من الأجسام بلا مكان يستحيل وجود الله بلا مكان فهلكوا (وحكم من يقول إن الله تعالى فى كل مكان أو فى جميع الأماكن التكفير إذا كان يفهم من هذه العبارة أن الله بذاته منبث أو حال فى الأماكن) وهذا مذهب الجهمية كان جهم بن صفوان يقول عن الله تعالى هو هذا الهواء وعلى كل شىء فكفره المسلمون وقتل بحكم الردة (أما إذا كان يفهم من هذه العبارة أنه تعالى مسيطر على كل شىء وعالم بكل شىء فلا يكفر وهذا قصد كثير ممن يلهج بهاتين الكلمتين ويجب النهى عنهما على كل حال لأنهما ليستا صادرتين عن السلف بل عن المعتزلة ثم استعملهما جهلة العوام). وأما قوله تعالى ﴿وكان الله بكل شىء محيطا﴾ فليس معناه أن الله محيط بالعالم كإحاطة الحقة بما فيها والحقة شىء مستدير يوضع فيه الأشياء الثمينة، إنما معناه إحاطة العلم والقدرة أى أنه لا يخرج شىء عن قدرة الله وعلمه (ونرفع الأيدى فى الدعاء للسماء) لأن السماء قبلة الدعاء كما أن الكعبة قبلة الصلاة أى تنزل علينا البركة والرحمة منها (لأنها مهبط الرحمات والبركات) قال تعالى ﴿وفى السماء رزقكم وما توعدون﴾ (وليس لأن الله موجود بذاته فى السماء كما أننا نستقبل الكعبة الشريفة فى الصلاة لأن الله تعالى أمرنا بذلك وليس لأن لها ميزة وخصوصية بسكنى الله فيها ويكفر من يعتقد التحيز لله تعالى) والتحيز هو أخذ مقدار من الفراغ فالله تعالى بما أنه ليس حجما كثيفا ولا لطيفا لا يجوز فى حقه أن يأخذ قدرا من الفراغ (أو يعتقد أن الله شىء كالهواء أو كالنور يملأ مكانا أو غرفة أو مسجدا. ويرد على المعتقدين أن الله متحيز فى جهة العلو ويقولون لذلك ترفع الأيدى عند الدعاء بما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه استسقى أى طلب المطر وجعل بطن كفيه إلى الأرض وظاهرهما إلى السماء) أخرجه مسلم في صحيحه (وبأنه صلى الله عليه وسلم نهى المصلى أن يرفع رأسه إلى السماء) أخرجه مسلم فى صحيحه (ولو كان الله متحيزا فى جهة العلو كما تظن المشبهة ما نهانا عن رفع أبصارنا فى الصلاة إلى السماء، وبأنه صلى الله عليه وسلم كان يرفع إصبعه المسبحة عند قول »إلا الله« فى التحيات ويحنيها قليلا) رواه ابن حبان فى صحيحه (فلو كان الأمر كما تقول المشبهة ما كان يحنيها بل يرفعها إلى السماء وكل هذا ثابت حديثا عند المحدثين فماذا تفعل المشبهة والوهابية. ونسمى المساجد بيوت الله لا لأن الله يسكنها بل لأنها أماكن معدة لذكر الله وعبادته، ويقال فى العرش إنه جرم أعده الله ليطوف به الملائكة كما يطوف المؤمنون فى الأرض بالكعبة. وكذلك يكفر من يقول »الله يسكن قلوب أوليائه« إن كان يفهم منه الحلول) وهذا من كلام جهلة المتصوفة أما إن كان يفهم من هذه العبارة أن حب الله ساكن قلوبهم فلا يكفر (وليس المقصود بالمعراج وصول الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مكان ينتهى وجود الله تعالى إليه) أى ليس المقصود به أن الرسول وصل إلى مكان حيث الله تعالى متحيز فيه (ويكفر من اعتقد ذلك) لأن الله تعالى لا يجوز عليه عقلا التحيز فى مكان والاستقرار فيه سواء كان المكان علويا أو سفليا (إنما القصد من المعراج هو تشريف الرسول صلى الله عليه وسلم بإطلاعه على عجائب فى العالم العلوى وتعظيم مكانته ورؤيته للذات المقدس بفؤاده من غير أن يكون الذات فى مكان وإنما المكان للرسول) صلى الله عليه وسلم (وأما قوله تعالى ﴿ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى﴾ فالمقصود بهذه الآية جبريل عليه السلام) الذى اقترب من سيدنا محمد فتدلى إليه فكان ما بينهما من المسافة بمقدار ذراعين بل أقرب وقد تدلى جبريل عليه السلام إلى محمد ودنا منه فرحا به وليس الأمر كما يفترى بعض الناس أن الله تعالى دنا بذاته من محمد فكان بين محمد وبين الله كما بين الحاجب والحاجب أو قدر ذراعين لأن إثبات المسافة لله تعالى إثبات للمكان وهو من صفات الخلق أما الخالق فهو موجود بلا كيف ولا مكان لا يكون بينه وبين خلقه مسافة فالعرش الذى هو أعلى المخلوقات والفرش الذى هو منتهى المخلوقات فى الجهة السفلى على حد سواء بالنسبة إلى ذات الله. فلا يجوز اعتقاد القرب المكانى الذى هو قرب بالمسافة فى حق الله تعالى. وجبريل عليه السلام دنا من رسول الله (حيث رءاه الرسول صلى الله عليه وسلم بمكة بمكان يقال له أجياد وله ستمائة جناح سادا عظم خلقه ما بين الأفق كما رءاه مرة أخرى عند سدرة المنتهى كما قال تعالى ﴿ولقد رءاه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى﴾) أى اجتمع مرة ثانية بجبريل هناك وأما الحديث الذى رواه البخارى فى صحيحه »ودنا الجبار رب العزة فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى« فهذه الرواية طعن فيها بعض الحفاظ كعبد الحق وغيره وقال بعضهم ليس دنوا حسيا وإنما هو مزيد إكرام وتقريب فى الدرجات وأما حمله على الظاهر فكل أهل السنة يردونه بل يجعلون ذلك تشبيها لله بخلقه كما ذكر ذلك الحافظ ابن حجر العسقلانى فى شرح البخارى (وأما ما فى مسلم من أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن جارية له) قال يا رسول الله إن لى جارية ترعى لى غنما فجاء ذات يوم ذئب فأكل شاة فغضبت فصككتها أى ضربتها على وجهها (قال قلت يا رسول الله أفلا أعتقها) أريد أن أعتقها إن كانت مؤمنة (قال »ائتنى بها« فأتاه بها فقال لها »أين الله«) ومعناه ما اعتقادك فى الله من التعظيم ومن العلو ورفعة القدر لأن أين تأتى للسؤال عن المكان وهو الأكثر وتأتى للسؤال عن القدر (قالت فى السماء) وأرادت به أنه رفيع القدر جدا وقد فهم الرسول ذلك من كلامها أى على تقدير صحة تلك الرواية أى هذا عند من صحح هذا الحديث من أهل السنة (قال »من أنا« قالت أنت رسول الله قال »أعتقها فإنها مؤمنة« فليس بصحيح لأمرين للاضطراب لأنه روى بهذا اللفظ وبلفظ »من ربك« فقالت الله) رواه النسائى فى سننه (وبلفظ »أين الله« فأشارت إلى السماء، وبلفظ »أتشهدين أن لا إله إلا الله« قالت نعم قال »أتشهدين أنى رسول الله« قالت نعم) رواه أحمد فى مسنده والبيهقى في السنن الكبرى (والأمر الثانى أن رواية أين الله مخالفة للأصول لأن من أصول الشريعة أن الشخص لا يحكم له بقول »الله فى السماء« بالإسلام لأن هذا القول مشترك بين اليهود والنصارى وغيرهم) فلا يصح عن رسول الله ولا يليق برسول الله أن يقال عنه إنه حكم على الجارية السوداء بالإسلام لمجرد قولها الله فى السماء (وإنما الأصل المعروف فى شريعة الله ما جاء فى الحديث المتواتر) الذى رواه خمسة عشر صحابيا وهو من أصح الصحيح (»أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله«) فحديث الجارية فيه معارضة لهذا الحديث ووجه المعارضة أن حديث الجارية فيه الاكتفاء بقول الله فى السماء للحكم على قائله بالإسلام، وحديث ابن عمر رضى الله عنه »حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله« فيه التصريح بأنه لا بد للدخول فى الإسلام من النطق بالشهادتين (و)أما (لفظ رواية مالك »أتشهدين«) أن لا إله إلا الله قالت نعم قال أتشهدين أنى رسول الله قالت نعم فإنه (موافق للأصول. فإن قيل كيف تكون رواية مسلم »أين الله« فقالت فى السماء إلى ءاخره مردودة مع إخراج مسلم لها فى كتابه وكل ما رواه مسلم موسوم بالصحة فالجواب أن عددا من أحاديث مسلم ردها علماء الحديث وذكرها المحدثون فى كتبهم كحديث أن الرسول قال لرجل »إن أبى وأباك فى النار«، وحديث إنه يعطى كل مسلم يوم القيامة فداء له من اليهود والنصارى وكذلك حديث أنس »صليت خلف رسول الله وأبى بكر وعمر فكانوا لا يذكرون بسم الله الرحمٰن الرحيم«. فأما الأول فضعفه الحافظ السيوطى والثانى رده البخارى والثالث ضعفه الشافعى وعدد من الحفاظ. فهذا الحديث على ظاهره باطل لمعارضته الحديث المتواتر المذكور وما خالف المتواتر فهو باطل إن لم يقبل التأويل اتفق على ذلك المحدثون والأصوليون لكن بعض العلماء) من أهل السنة (أولوه على هذا الوجه قالوا معنى أين الله سؤال عن تعظيمها لله وقولها فى السماء) أرادت به أنه (عالى القدر جدا) وهذا هو المعنى الحقيقى لهذا الحديث عند من اعتبره صحيحا وهو لا يخالف تنزيه الله عن المكان والحد والأعضاء (أما أخذه على ظاهره من أن الله ساكن السماء فهو باطل مردود لما تقرر فى علم مصطلح الحديث أن ما خالف المتواتر باطل إن لم يقبل التأويل فإن ظاهره ظاهر الفساد فإن ظاهره أن الكافر إذا قال الله فى السماء يحكم له بالإيمان) وكذلك هناك عدة أحاديث صحاح لا اختلاف فيها ولا علة تناقض حديث الجارية فكيف يؤخذ بظاهره ويعرض عن تلك الأحاديث الصحاح فلولا أن المشبهة لها هوى فى تجسيم الله وتحييزه فى السماء كما هو معتقد اليهود والنصارى لما تشبثوا به ولذلك يرونه أقوى شبهة يجتذبون به ضعفاء الفهم إلى عقيدتهم عقيدة التجسيم. (وحمل المشبهة رواية مسلم) لحديث الجارية (على ظاهرها) كما حملوا ءاية الاستواء على ظاهرها (فضلوا) فنقول لهم لو كان الأمر كما تدعون من حمل ءاية ﴿الرحمٰن على العرش استوى﴾ على ظاهرها وحمل حديث الجارية على ظاهره لتناقض القرءان بعضه مع بعض والحديث بعضه مع بعض فما تقولون فى قوله تعالى ﴿فأينما تولوا فثم وجه الله﴾ فإما أن تجعلوا القرءان مناقضا بعضه لبعض والحديث مناقضا بعضه لبعض فهذا اعتراف بكفركم لأن القرءان ينزه عن المناقضة وحديث الرسول كذلك وإن أولتم ءاية ﴿فأينما تولوا فثم وجه الله﴾ ولم تأولوا ءاية الاستواء فهذا تحكم أى قول بلا دليل (ولا ينجيهم من الضلال قولهم إننا نحمل كلمة فى السماء بمعنى إنه فوق العرش لأنهم يكونون بذلك أثبتوا له مثلا وهو الكتاب الذى كتب الله فيه »إن رحمتى سبقت غضبى«) فإنه (فوق العرش فيكونون أثبتوا المماثلة بين الله وبين ذلك الكتاب لأنهم جعلوا الله وذلك الكتاب مستقرين فوق العرش فيكونون كذبوا قول الله تعالى ﴿ليس كمثله شىء﴾) ومعنى »إن رحمتى سبقت غضبى« أن مظاهر الرحمة أكثر من مظاهر الغضب فإن الملائكة وهم من مظاهر رحمة الله أكثر عددا من كفار الإنس والجن الذين هم من مظاهر غضبه (وهذا الحديث رواه ابن حبان بلفظ »مرفوع فوق العرش« وأما رواية البخارى فهى »موضوع فوق العرش« وقد حمل بعض الناس فوق بمعنى تحت وهو مردود برواية ابن حبان »مرفوع فوق العرش« فإنه لا يصح تأويل فوق فيه بتحت. ثم على اعتقادهم هذا يلزم أن يكون الله محاذيا للعرش بقدر العرش أو أوسع منه أو أصغر وكل ما جرى عليه التقدير حادث محتاج إلى من جعله على ذلك المقدار، والعرش لا مناسبة بينه وبين الله كما أنه لا مناسبة بينه وبين شىء من خلقه) والمناسبة كالاتصال والانفصال والملامسة ونحو ذلك (ولا يتشرف الله بشىء من خلقه ولا ينتفع بشىء من خلقه. وقول المشبهة الله قاعد على العرش شتم لله لأن القعود من صفة البشر والبهائم والجن والحشرات وكل وصف من صفات المخلوق وصف الله به شتم له، قال الحافظ الفقيه اللغوى مرتضى الزبيدى) فى إتحاف السادة المتقين (»من جعل الله تعالى مقدرا بمقدار كفر« أى لأنه جعله ذا كمية وحجم والحجم والكمية من موجبات الحدوث وهل عرفنا أن الشمس حادثة مخلوقة من جهة العقل إلا لأن لها حجما ولو كان لله تعالى حجم لكان مثلا للشمس فى الحجمية ولو كان كذلك ما كان يستحق الألوهية كما أن الشمس لا تستحق الألوهية. فلو طالب هؤلاء المشبهة عابد الشمس بدليل عقلى على استحقاق الله الألوهية وعدم استحقاق الشمس الألوهية لم يكن عندهم دليل وغاية ما يستطيعون أن يقولوا قال الله تعالى ﴿الله خالق كل شىء﴾ فإن قالوا ذلك لعابد الشمس يقول لهم عابد الشمس أنا لا أؤمن بكتابكم أعطونى دليلا عقليا على أن الشمس لا تستحق الألوهية فهنا ينقطعون. فلا يوجد فوق العرش شىء حى يسكنه إنما يوجد كتاب فوق العرش مكتوب فيه »إن رحمتى سبقت غضبى« أى إن مظاهر الرحمة أكثر من مظاهر الغضب، الملائكة من مظاهر الرحمة وهم أكثر عددا من قطرات الأمطار وأوراق الأشجار والجنة من مظاهر الرحمة وهى أكبر من جهنم بآلاف المرات. وكون ذلك الكتاب فوق العرش ثابت أخرج حديثه البخارى والنسائى فى السنن الكبرى وغيرهما، ولفظ رواية ابن حبان »لما خلق الله الخلق كتب فى كتاب يكتبه على نفسه) معناه وعد (وهو مرفوع فوق العرش إن رحمتى تغلب غضبى«. فإن حاول محاول أن يؤول »فوق« بمعنى دون قيل له تأويل النصوص لا يجوز إلا بدليل نقلى ثابت أو عقلى قاطع وليس عندهم شىء من هذين ولا دليل على لزوم التأويل فى هذا الحديث كيف وقد قال بعض العلماء إن اللوح المحفوظ فوق العرش لأنه لم يرد نص صريح بأنه فوق العرش ولا بأنه تحت العرش فبقى الأمر على الاحتمال أى احتمال أن اللوح المحفوظ فوق العرش واحتمال أنه تحت العرش فعلى قوله إنه فوق العرش يكون جعل اللوح المحفوظ معادلا لله أى أن يكون الله بمحاذاة قسم من العرش واللوح بمحاذاة قسم من العرش وهذا تشبيه له بخلقه لأن محاذاة شىء لشىء من صفات المخلوق. ومما يدل على أن ذلك الكتاب فوق العرش فوقية حقيقية لا تحتمل التأويل الحديث الذى رواه النسائى فى السنن الكبرى »إن الله كتب كتابا قبل أن يخلق السموات والأرض بألفى سنة فهو عنده على العرش وإنه أنزل من ذلك الكتاب ءايتين ختم بهما سورة البقرة« وفى لفظ لمسلم »فهو موضوع عنده« فهذا صريح فى أن ذلك الكتاب فوق العرش فوقية حقيقية لا تحتمل التأويل. وكلمة »عند« للتشريف ليس لإثبات تحيز الله فوق العرش لأن »عند« تستعمل لغير المكان قال الله تعالى ﴿وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك﴾ إنما تدل »عند« هنا أن ذلك بعلم الله وليس المعنى أن تلك الحجارة مجاورة لله تعالى فى المكان. فمن يحتج بمجرد كلمة عند لإثبات المكان والتقارب بين الله وبين خلقه فهو من أجهل الجاهلين وهل يقول عاقل إن تلك الحجارة التى أنزلها الله على أولئك الكفرة نزلت من العرش إليهم وكانت مكومة بمكان فى جنب الله فوق العرش) فكيف يخفى على ذى لب أن عقيدة تحيز الله فى السماء منافية لقوله تعالى ﴿ليس كمثله شىء﴾ فإنه على ذلك يلزم أن يكون لله أمثال كثير فالسموات السبع مشحونة بالملائكة وما فوقها فيها ملائكة حافون من حول العرش لا يعلم عددهم إلا الله فباعتقاد المشبهة هذا أثبتوا لله أمثالا لا تحصى فتبين بذلك أنهم مخالفون لهذه الآية. ولا يسلم من إثبات الأمثال لله إلا من نزه الله عن التحيز فى المكان والجهة مطلقا (وقد روى البخارى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال »إذا كان أحدكم فى صلاته فإنه يناجى ربه فلا يبصقن فى قبلته ولا عن يمينه فإن ربه بينه وبين قبلته«) ومناجاة الله معناه الإقبال على الله بدعائه وتمجيده والمعنى أن المصلى تجرد لمخاطبة ربه انقطع عن مخاطبة الناس لمخاطبة الله فليس من الأدب مع الله أن يبصق أمام وجهه وليس معناه أن الله هو بذاته تلقاء وجهه وأما قوله عليه الصلاة والسلام »فإن ربه بينه وبين قبلته« أى رحمة ربه أمامه أى الرحمة الخاصة التى تنزل على المصلين (وهذا الحديث أقوى إسنادا من حديث الجارية. وأخرج البخارى أيضا عن أبى موسى الأشعرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال »اربعوا على أنفسكم) أى هونوا على أنفسكم ولا تجهدوها برفع الصوت كثيرا (فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا) أى الله تعالى يسمع بسمعه الأزلى كل المسموعات قوية كانت أم ضعيفة ولا يخفى عليه شىء (إنكم تدعون سميعا قريبا والذى تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلة أحدكم«) أى أن الله أعلم بالعبد من نفسه وأنه مطلع على أحوال عباده لا يخفى عليه شىء وليس معناه القرب بالمسافة لأن ذلك مستحيل على الله فالعرش والفرش الذى هو أسفل العالم بالنسبة إلى ذات الله على حد سواء ليس أحدهما أقرب من الآخر إلى الله بالمسافة. ثم إنه يلزم على ما ذهبت إليه المشبهة من حمل النصوص التى ظاهرها أن الله متحيز فى جهة فوق على ظاهرها كون الله تعالى غائبا لا قريبا لأن بين العرش وبين المؤمنين الذين يذكرون الله فى الأرض مسافة تقرب من مسيرة خمسين ألف سنة وفى خلال هذه المسافة أجرام صلبة وهى أجرام السموات وجرم الكرسى فلا يصح على موجب معتقدهم قول رسول الله إنه قريب بل يكون غائبا أما على قول أهل السنة فكونه قريبا لا إشكال فيه فما أشد فساد عقيدة تؤدى إلى هذا (فيقال للمعترض إذا أخذت حديث الجارية على ظاهره وهذين الحديثين على ظاهرهما بطل زعمك أن الله فى السماء وإن أولت هذين الحديثين ولم تؤول حديث الجارية فهذا تحكم أى قول بلا دليل ويصدق عليك قول الله فى اليهود ﴿أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض﴾ وكذلك ماذا تقول فى قوله تعالى ﴿فأينما تولوا فثم وجه الله﴾ فإن أولته فلم لا تؤول حديث الجارية. وقد جاء فى تفسير هذه الآية عن مجاهد تلميذ ابن عباس »قبلة الله« ففسر الوجه بالقبلة أى) أن الله تعالى رخص لكم (لصلاة النفل فى السفر على الراحلة) أن تتوجهوا إلى الجهة التى تذهبون إليها وهذا لمن هو راكب الدابة (وأما الحديث الذى رواه الترمذى وهو »الراحمون يرحمهم الرحمٰن ارحموا من فى الأرض يرحمكم من فى السماء« وفى رواية أخرى »يرحمكم أهل السماء«) وإسنادها حسن رواها أحمد فى مسنده (فهذه الرواية تفسر الرواية الأولى لأن خير ما يفسر به الحديث الوارد بالوارد كما قال الحافظ العراقى فى ألفيته وخير ما فسرته بالوارد. ثم المراد بأهل السماء الملائكة ذكر ذلك الحافظ العراقى فى أماليه عقيب هذا الحديث ونص عبارته »واستدل بقوله »أهل السماء« على أن المراد بقوله ﴿من فى السماء﴾ الملائكة« اهـ لأنه لا يقال لله »أهل السماء«) أى لا يجوز ذلك (و»من« تصلح للمفرد وللجمع) قال الله تعالى ﴿ومنهم من يستمع إليك﴾ وقال تعالى ﴿ومنهم من يستمعون إليك﴾ (فلا حجة لهم فى الآية، ويقال مثل ذلك فى الآية التى تليها وهى ﴿أم أمنتم من فى السماء أن يرسل عليكم حاصبا﴾ فـمن فى هذه الآية أيضا أهل السماء فإن الله يسلط على الكفار الملائكة إذا أراد أن يحل عليهم عقوبته فى الدنيا كما أنهم فى الآخرة هم الموكلون بتسليط العقوبة على الكفار لأنهم خزنة جهنم وهم يجرون عنقا) أى جزءا كبيرا (من جهنم إلى الموقف ليرتاع الكفار برؤيته) فالذى يفسر ﴿ءأمنتم من فى السماء﴾ أى على السماء نقول له العلو يأتى للعلو الحسى والعلو المعنوى فإن أردت العلو المعنوى أى رفيع القدر جدا فلا بأس وإن أردت العلو الحسى فقد كفرت لأن الذى يكون فى جهة يكون محدودا والمحدود بحاجة لمن حده بهذا الحد والمحتاج إلى شىء لا يكون إلها. ويرد عليهم بإيراد الآية ﴿ونفخ فى الصور فصعق من فى السموات ومن فى الأرض إلا ما شاء الله﴾ فيقال لهم هل تزعمون أن الله يصعق وكذا يرد عليهم بإيراد الآية ﴿يوم نطوى السماء كطى السجل للكتب﴾ (وتلك الرواية التى أوردها الحافظ العراقى فى أماليه لفظها »الراحمون يرحمهم الرحيم ارحموا أهل الأرض) أى بإرشادهم إلى الخير بتعليمهم أمور الدين الضرورية التى هى سبب لإنقاذهم من النار وبإطعام جائعهم وكسوة عاريهم ونحو ذلك (يرحمكم أهل السماء«) وهم الملائكة وهم يرحمون من فى الأرض أي أن الله يأمرهم بأن يستغفروا للمؤمنين وينزلون لهم المطر وينفحونهم بنفحات خير ويمدونهم بمدد خير وبركة ويحفظونهم على حسب ما يأمرهم الله تعالى (ثم لو كان الله ساكن السماء كما يزعم البعض لكان الله يزاحم الملائكة وهذا محال فقد ثبت حديث أنه ما فى السموات موضع أربع أصابع وفى لفظ شبر إلا وفيه ملك قائم أو راكع أو ساجد) رواه الطبرانى فى المعجم الأوسط والترمذى فى سننه وفيه دليل على أنه يستحيل على الله أن يكون ساكن السماء وإلا لكان مساويا للملائكة مزاحما لهم (وكذلك الحديث الذى رواه البخارى ومسلم عن أبى سعيد الخدرى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال »ألا تأمنونى وأنا أمين من فى السماء) أى مؤتمن مصدق عند الملائكة ومعناه يعتقدون أنه أمين صادق فى إبلاغ الوحى (يأتينى خبر من فى السماء صباح مساء« فالمقصود به الملائكة أيضا وإن أريد به الله فمعناه الذى هو رفيع القدر جدا. وأما حديث زينب بنت جحش زوج النبى صلى الله عليه وسلم أنها كانت تقول لنساء الرسول صلى الله عليه وسلم »زوجكن أهاليكن وزوجنى الله من فوق سبع سموات«) رواه البخارى فى صحيحه والبيهقى فى السنن الكبرى (فمعناه أن تزوج النبى صلى الله عليه وسلم بها مسجل فى اللوح المحفوظ) وفيه بيان أن زينب تزوجها النبى بالوحى من غير ولى وشاهدين (وهذه كتابة خاصة بزينب ليست الكتابة العامة، الكتابة العامة لكل شخص فكل زواج يحصل إلى نهاية الدنيا مسجل، واللوح فوق السموات السبع. وأما الحديث الذى فيه والذى نفسى بيده ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشه فتأبى عليه إلا كان الذى فى السماء ساخطا عليها الحديث فيحمل أيضا على الملائكة بدليل الرواية الثانية الصحيحة والتى هى أشهر من هذه وهى »لعنتها الملائكة حتى تصبح« رواها ابن حبان وغيره) أما الرواية الأولى فقد رواها البخارى ومسلم ويفهم منها أن المرأة إذا لم يكن لها عذر شرعى كالحيض والنفاس أو كانت مريضة يضرها الجماع لا يجوز لها أن تمنع زوجها من مجامعتها متى ما أراد وإلا كانت فاسقة ملعونة مسخوطا عليها من الملائكة (وأما حديث أبى الدرداء) الذى رواه أبو داود فى سننه (أن النبى صلى الله عليه وسلم قال »ربنا الذى فى السماء تقدس اسمك« فلم يصح بل هو ضعيف كما حكم عليه الحافظ ابن الجوزى ولو صح فأمره كما مر فى حديث الجارية) أى لكان معناه الذى هو رفيع القدر جدا (وأما حديث جبير بن مطعم عن النبى صلى الله عليه وسلم »إن الله على عرشه فوق سمواته وسمواته فوق أراضيه مثل القبة« فلم يدخله البخارى فى الصحيح فلا حجة فيه وفى إسناده من هو ضعيف لا يحتج به ذكره ابن الجوزى) فى كتابه دفع شبه التشبيه (وغيره. وكذلك ما رواه) البخارى (فى كتابه خلق أفعال العباد عن ابن عباس أنه قال »لما كلم الله موسى كان نداؤه فى السماء وكان الله فى السماء« فهو غير ثابت فلا يحتج به) لأن البخارى لم يلتزم أن لا يذكر إلا الصحيح فى هذا الكتاب لذلك لا يكتفى لتصحيح الحديث بمجرد ذكره فيه. وقد ذكره البخارى بدون سند بل قال قال ابن عباس (وأما القول المنسوب لمالك وهو قول »الله فى السماء وعلمه فى كل مكان لا يخلو منه شىء« فهو غير ثابت أيضا عن مالك) ذكره ابن جماعة فى كتابه إيضاح الدليل وقال فيه »قال أحمد بن حنبل عبد الله ابن نافع لم يكن صاحب حديث وكان ضعيفا فيه (وأبو داود لم يسنده إليه بالإسناد الصحيح بل ذكره فى كتابه المسائل) أى مسائل الإمام أحمد (ومجرد الرواية لا يكون إثباتا).