تَقْدِيرُ اللَّهِ لا يَتَغَيَّرُ
اعْلَمْ أَنَّ تَقْدِيرَ اللَّهِ تَعَالَى الأَزَلِيَّ لا يُغَيِّرُهُ شَىْءٌ لا دَعْوَةُ دَاعٍ وَلا صَدَقَةُ مُتَصَدِّقٍ وَلا صَلاةُ مُصَلٍّ وَلا غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْحَسَنَاتِ بَلْ لا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْخَلْقُ عَلَى مَا قَدَّرَ لَهُمْ فِي الأَزَلِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَغَيَّرَ ذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ [سُورَةَ الرَّعْد/39] فَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ الْمَحْوَ وَالإِثْبَاتَ فِي تَقْدِيرِ اللَّهِ، بَلِ الْمَعْنَى فِي هَذَا أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَدْ كَتَبَ مَا يُصِيبُ الْعَبْدَ مِنْ عِبَادِهِ مِنَ الْبَلاءِ وَالْحِرْمَانِ وَالْمَوْتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَأَنَّهُ إِنْ دَعَا اللَّهَ تَعَالَى أَوْ أَطَاعَهُ فِي صِلَةِ الرَّحِمِ وَغَيْرِهَا لَمْ يُصِبْهُ ذَلِكَ الْبَلاءُ وَرَزَقَهُ كَثِيرًا أَوْ عَمَّرَهُ طَوِيلًا، وَكَتَبَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ مَا هُوَ كَائِنٌ مِنَ الأَمْرَيْنِ، فَالْمَحْوُ وَالإِثْبَاتُ رَاجِعٌ إِلَى أَحَدِ الْكِتَابَيْنِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ، فَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ قَالَ: يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ مِنْ أَحَدِ الْكِتَابَيْنِ، هُمَا كِتَابَانِ يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ اهـ.
وَالْمَحْوُ يَكُونُ فِي غَيْرِ الشَّقَاوَةِ وَالسَّعَادَةِ، فَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ [سُورَةَ الدُّخَان/4] أَنَّهُ قَالَ: »يُفْرَقُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ مَا يَكُونُ فِي السَّنَةِ مِنْ رِزْقٍ أَوْ مُصِيبَةٍ، فَأَمَّا كِتَابُ الشَّقَاءِ وَالسَّعَادَةِ فَإِنَّهُ ثَابِتٌ لا يُغَيَّرُ« اهـ.
فَلِذَلِكَ لا يَصِحُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدُّعَاءُ الَّذِي فِيهِ: »إِنْ كُنْتَ كَتَبْتَنِي فِي أُمِّ الْكِتَابِ عِنْدَكَ شَقِيًّا فَامْحُ عَنِّي اسْمَ الشَّقَاءِ وَأَثْبِتْنِي عِنْدَكَ سَعِيدًا، وَإِنْ كُنْتَ كَتَبْتَنِي فِي أُمِّ الْكِتَابِ مَحْرُومًا مُقَتَّرًا عَلَيَّ رِزْقِي فَامْحُ عَنِّي حِرْمَانِي وَتَقْتِيرَ رِزْقِي وَأَثْبِتْنِي عِنْدَكَ سَعِيدًا مُوَفَّقًا لِلْخَيْرِ، فَإِنَّكَ تَقُولُ فِي كِتَابِكَ: ﴿يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ [سُورَةَ الرَّعْد/39] وَلا مَا أَشْبَهَهُ، وَلَمْ يَصِحَّ هَذَا الدُّعَاءُ أَيْضًا عَنْ عُمَرَ وَلا عَنْ مُجَاهِدٍ وَلا عَنْ غَيْرِهِمَا مِنَ السَّلَفِ كَمَا يُعْلَمُ ذَلِكَ مِنْ كِتَابِ »الْقَدَرِ« لِلْبَيْهَقِيِّ.