تَفْسِيرُ الآيَةِ: ﴿الرَّحْمٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [سُورَةَ طَه/5]
يَجِبُ أَنْ يَكُونَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الآيَةِ بِغَيْرِ الِاسْتِقْرَارِ وَالْجُلُوسِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَيَكْفُرُ مَنْ يَعْتَقِدُ ذَلِكَ، فَيَجِبُ تَرْكُ الْحَمْلِ عَلَى الظَّاهِرِ بَلْ يُحْمَلُ عَلَى مَحْمِلٍ مُسْتَقِيمٍ فِي الْعُقُولِ فَتُحْمَلُ لَفْظَةُ الِاسْتِوَاءِ عَلَى الْقَهْرِ فَفِي لُغَةِ الْعَرَبِ يُقَالُ اسْتَوَى فُلانٌ عَلَى الْمَمَالِكِ إِذَا احْتَوَى عَلَى مَقَالِيدِ الْمُلْكِ وَاسْتَعْلَى عَلَى الرِّقَابِ.
كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
قَدِ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى الْعِرَاقِ مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ وَدَمٍ مُهْرَاقِ
وَفَائِدَةُ تَخْصِيصِ الْعَرْشِ بِالذِّكْرِ أَنَّهُ أَعْظَمُ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ تَعَالَى حَجْمًا فَيُعْلَمُ شُمُولُ مَا دُونَهُ مِنْ بَابِ الأَوْلَى. قَالَ الإِمَامُ عَلِيٌّ: »إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْعَرْشَ إِظْهَارًا لِقُدْرَتِهِ، وَلَمْ يَتَّخِذْهُ مَكَانًا لِذَاتِهِ«. رَوَاهُ الإِمَامُ الْمُحَدِّثُ الْفَقِيهُ اللُّغُوِيُّ أَبُو مَنْصُورٍ التَّمِيمِيُّ فِي كِتَابِهِ التَّبْصِرَةِ.
أَوْ يُقَالُ: اسْتَوَى اسْتِوَاءً يَعْلَمُهُ هُوَ مَعَ تَنْزِيهِهِ عَنِ اسْتِوَاءِ الْمَخْلُوقِينَ كَالْجُلُوسِ وَالِاسْتِقْرَارِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَجِبُ الْحَذَرُ مِنْ هَؤُلاءِ الَّذِينَ يُجِيزُونَ عَلَى اللَّهِ الْقُعُودَ عَلَى الْعَرْشِ وَالِاسْتِقْرَارَ عَلَيْهِ مُفَسِّرِينَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿الرَّحْمٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ بِالْجُلُوسِ أَوِ الْمُحَاذَاةِ مِنْ فَوْقٍ، وَمُدَّعِينَ أَنَّهُ لا يُعْقَلُ مَوْجُودٌ إِلَّا فِي مَكَانٍ، وَحُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ، وَمُدَّعِينَ أَيْضًا أَنَّ قَوْلَ السَّلَفِ اسْتَوَى بِلا كَيْفٍ مُوَافِقٌ لِذَلِكَ وَلَمْ يَدْرُوا أَنَّ الْكَيْفَ الَّذِي نَفَاهُ السَّلَفُ هُوَ الْجُلُوسُ وَالِاسْتِقْرَارُ وَالتَّحَيُّزُ إِلَى الْمَكَانِ وَالْمُحَاذَاةُ وَكُلُّ الْهَيْئَاتِ مِنْ حَرَكَةٍ وَسُكُونٍ وَانْفِعَالٍ.
قَالَ الْقُشَيْرِيُّ:
»وَالَّذِي يَدْحَضُ شُبَهَهُمْ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ: قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْعَالَمَ أَوِ الْمَكَانَ هَلْ كَانَ مَوْجُودًا أَمْ لا؟ فَمِنْ ضَرُورَةِ الْعَقْلِ أَنْ يَقُولُوا بَلَى فَيَلْزَمُهُ لَوْ صَحَّ قَوْلُهُ لا يُعْلَمُ مَوْجُودٌ إِلَّا فِي مَكَانٍ أَحَدُ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَقُولَ: الْمَكَانُ وَالْعَرْشُ وَالْعَالَمُ قَدِيْمٌ، وَإِمَّا أَنْ يَقُولَ: الرَّبُّ مُحْدَثٌ، وَهَذَا مَآلُ الْجَهَلَةِ الْحَشْوِيَّةِ، لَيْسَ الْقَدِيْمُ بِالْمُحْدَثِ وَالْمُحْدَثُ بِالْقَدِيْمِ« اهـ.
وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ أَيْضًا فِي التَّذْكِرَةِ الشَّرْقِيَّةِ:
»فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ اللَّهُ يَقُولُ: ﴿الرَّحْمٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [سُورَةَ طَه/5] فَيَجِبُ الأَخْذُ بِظَاهِرِهِ، قُلْنَا: اللَّهُ يَقُولُ أَيْضًا: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ [سُورَةَ الْحَدِيد/4]، وَيَقُولُ: ﴿أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ مُّحِيطٌ﴾ [سُورَةَ طَه/5] فَيَنْبَغِي أَيْضًا أَنْ نَأْخُذَ بِظَاهِرِ هَذِهِ الآيَاتِ حَتَّى يَكُونَ عَلَى الْعَرْشِ وَعِنْدَنَا وَمَعَنَا وَمُحِيطًا بِالْعَالَمِ مُحْدِقًا بِهِ بِالذَّاتِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالْوَاحِدُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ بِذَاتِهِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ بِكُلِّ مَكَانٍ.
قَالَ الْقُشَيْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: قَالُوا: قَوْلُهُ: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ﴾ يَعْنِي بِالْعِلْمِ، وَ: ﴿بِكُلِّ شَىْءٍ مُّحِيطٌ﴾ إِحَاطَةَ الْعِلْمِ، قُلْنَا: وَقَوْلُهُ: ﴿عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ قَهَرَ وَحَفِظَ وَأَبْقَى«، انْتَهَى.
يَعْنِي أَنَّهُمْ قَدْ أَوَّلُوا هَذِهِ الآيَاتِ وَلَمْ يَحْمِلُوهَا عَلَى ظَوَاهِرِهَا فَكَيْفَ يَعِيبُونَ عَلَى غَيْرِهِمْ تَأْوِيلَ ءَايَةِ الِاسْتِوَاءِ بِالْقَهْرِ، فَمَا هَذَا التَّحَكُّمُ؟!
ثُمَّ قَالَ الْقُشَيْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: »وَلَوْ أَشْعَرَ مَا قُلْنَا تَوَهُّمَ غَلَبَتِهِ لَأَشْعَرَ قَوْلُهُ: ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ﴾ [سُورَةَ الأَنْعَام/18] بِذَلِكَ أَيْضًا حَتَّى يُقَالَ كَانَ مَقْهُورًا قَبْلَ خَلْقِ الْعِبَادِ هَيْهَاتَ إِذْ لَمْ يَكُنْ لِلْعِبَادِ وُجُودٌ قَبْلَ خَلْقِهِ إِيَّاهُمْ بَلْ لَوْ كَانَ الأَمْرُ عَلَى مَا تَوَهَّمَهُ الْجَهَلَةُ مِنْ أَنَّهُ اسْتِوَاءٌ بِالذَّاتِ لَأَشْعَرَ ذَلِكَ بِالتَّغَيُّرِ وَاعْوِجَاجٍ سَابِقٍ عَلَى وَقْتِ الِاسْتِوَاءِ فَإِنَّ الْبَارِئَ تَعَالَى كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ الْعَرْشِ، وَمَنْ أَنْصَفَ عَلِمَ أَنَّ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ: الْعَرْشُ بِالرَّبِّ اسْتَوَى أَمْثَلُ مِنْ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ الرَّبُّ بِالْعَرْشِ اسْتَوَى، فَالرَّبُّ إِذًا مَوْصُوفٌ بِالْعُلُوِّ وَفَوْقِيَّةِ الرُّتْبَةِ وَالْعَظَمَةِ وَمُنَزَّهٌ عَنِ الْكَوْنِ فِي الْمَكَانِ وَعَنِ الْمُحَاذَاةِ« اهـ.
قَالَ الْقُشَيْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: »وَقَدْ نَبَغَتْ نَابِغَةٌ مِنَ الرَّعَاعِ لَوْلا اسْتِنْزَالُهُمْ لِلْعَوَامِّ بِمَا يَقْرُبُ مِنْ أَفْهَامِهِمْ وَيُتَصَوَّرُ فِي أَوْهَامِهِمْ لَأَجْلَلْتُ هَذَا الْكِتَابَ عَنْ تَلْطِيخِهِ بِذِكْرِهِمْ، يَقُولُونَ: نَحْنُ نَأْخُذُ بِالظَّاهِرِ وَنَحْمِلُ الآيَاتِ الْمُوهِمَةَ تَشْبِيهًا وَالأَخْبَارَ الْمُوهِمَةَ حَدًّا وَعُضْوًا عَلَى الظَّاهِرِ وَلا يَجُوزُ أَنْ نُطَرِّقَ التَّأْوِيلَ إِلَى شَىْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَيَتَمَسَّكُونَ عَلَى زَعْمِهِمْ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ﴾ [سُورَةَ ءَالِ عِمْرَان/7]. وَهَؤُلاءِ وَالَّذِي أَرْوَاحُنَا بِيَدِهِ أَضَرُّ عَلَى الإِسْلامِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ وَعَبَدَةِ الأَوْثَانِ لِأَنَّ ضَلالاتِ الْكُفَّارِ ظَاهِرَةٌ يَتَجَنَّبُهَا الْمُسْلِمُونَ، وَهَؤُلاءِ أَتَوُا الدِّينَ وَالْعَوَامَّ مِنْ طَرِيقٍ يَغْتَرُّ بِهِ الْمُسْتَضْعَفُونَ فَأَوْحَوْا إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ بِهَذِهِ الْبِدَعِ وَأَحَلُّوا فِي قُلُوبِهِمْ وَصْفَ الْمَعْبُودِ سُبْحَانَهُ بِالأَعْضَاءِ وَالْجَوَارِحِ وَالرُّكُوبِ وَالنُّزُولِ وَالِاتِّكَاءِ وَالِاسْتِلْقَاءِ وَالِاسْتِوَاءِ بِالذَّاتِ وَالتَّرَدُّدِ فِي الْجِهَاتِ.
قَالَ الْقُشَيْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: »فَمَنْ أَصْغَى إِلَى ظَاهِرِهِمْ يُبَادِرُ بِوَهْمِهِ إِلَى تَخَيُّلِ الْمَحْسُوسَاتِ فَاعْتَقَدَ الْفَضَائِحَ فَسَالَ بِهِ السَّيْلُ وَهُوَ لا يَدْرِي« اهـ.
فَتَبَيَّنَ أَنَّ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ: »إِنَّ التَّأْوِيلَ غَيْرُ جَائِزٍ« خَبْطٌ وَجَهْلٌ وَهُوَ مَحْجُوجٌ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: »اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْحِكْمَةَ وَتَأْوِيلَ الْكِتَابِ «رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمَا بِأَلْفَاظٍ مُتَعَدِّدَةٍ.
قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِهِ »الْمَجَالِسُ«: »وَلا شَكَّ أَنَّ اللَّهَ اسْتَجَابَ دُعَاءَ الرَّسُولِ هَذَا« اهـ، وَشَدَّدَ النَّكِيرَ وَالتَّشْنِيعَ عَلَى مَنْ يَمْنَعُ التَّأْوِيلَ وَوَسَّعَ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ، فَلْيُطَالِعْهُ مَنْ أَرَادَ زِيَادَةَ التَّأَكُّدِ.
وَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّنْ فَوْقِهِمْ﴾ [سُورَةَ النَّحْل/50] فَوْقِيَّةُ الْقَهْرِ دُونَ الْمَكَانِ وَالْجِهَةِ أَيْ لَيْسَ فَوْقِيَّةَ الْمَكَانِ وَالْجِهَةِ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾ [سُورَةَ الْفَجْر/22] لَيْسَ مَجِيءَ الْحَرَكَةِ وَالِانْتِقَالِ وَالزَّوَالِ وَإِفْرَاغِ مَكَانٍ وَمَلْءِ ءَاخَرَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ وَمَنِ اعْتَقَدَ ذَلِكَ يَكْفُرُ.
فَاللَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الْحَرَكَةَ وَالسُّكُونَ وَكُلَّ مَا كَانَ مِنْ صِفَاتِ الْحَوَادِثِ فَلا يُوصَفُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْحَرَكَةِ وَلا بِالسُّكُونِ، وَالْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ أَيْ أَثَرٌ مِنْ ءَاثَارِ قُدْرَتِهِ. وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ الإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ إِنَّمَا جَاءَتْ قُدْرَتُهُ، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي مَنَاقِبِ أَحْمَدَ وَقَدْ مَرَّ ذِكْرُهُ.