الآيَاتُ الْمُحْكَمَاتُ وَالْمُتَشَابِهَاتُ
لِفَهْمِ هَذَا الْمَوْضُوعِ كَمَا يَنْبَغِي يَجِبُ مَعْرِفَةُ أَنَّ الْقُرْءَانَ تُوجَدُ فِيهِ ءَايَاتٌ مُحْكَمَاتٌ وَءَايَاتٌ مُتَشَابِهَاتٌ، قَالَ تَعَالَى: ﴿هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ ءَايَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ﴾ [سُورَةَ ءَالِ عِمْرَان/7].
الآيَاتُ الْمُحْكَمَةُ: هِيَ مَا لا يَحْتَمِلُ مِنَ التَّأْوِيلِ بِحَسَبِ وَضْعِ اللُّغَةِ إِلَّا وَجْهًا وَاحِدًا أَوْ مَا عُرِفَ الْمُرَادُ بِهِ بِوُضُوحٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ وَقَوْلِهِ: ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ وَقَوْلِهِ: ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾ [سُورَةَ مَرْيَم/65].
الآيَاتُ الْمُتَشَابِهَةُ: وَالْمُتَشَابِهُ هُوَ مَا لَمْ تَتَّضِحْ دِلالَتُهُ أَوْ يَحْتَمِلُ أَوْجُهًا عَدِيدَةً وَاحْتَاجَ إِلَى النَّظَرِ لِحَمْلِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُطَابِقِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿الرَّحْمٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [سُورَةَ طَه/5].
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾ [سُورَةَ فَاطِر/10] أَيْ أَنَّ الْكَلِمَ الطَّيِّبَ كَلا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَصْعَدُ إِلَى مَحَلِّ كَرَامَتِهِ وَهُوَ السَّمَاءُ، وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ أَيِ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ يَرْفَعُ الْعَمَلَ الصَّالِحَ وَهَذَا مُنْطَبِقٌ وَمُنْسَجِمٌ مَعَ الآيَةِ الْمُحْكَمَةِ ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾.
فَتَفْسِيرُ الآيَاتِ الْمُتَشَابِهَةِ يَجِبُ أَنَّ يُرَدَّ إِلَى الآيَاتِ الْمُحْكَمَةِ، هَذَا فِي الْمُتَشَابِهِ الَّذِي يَجُوزُ لِلْعُلَمَاءِ أَنْ يَعْلَمُوهُ، وَأَمَّا الْمُتَشَابِهُ الَّذِي أُرِيدَ بِقَوْلِهِ: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ﴾ [سُورَةَ ءَالِ عِمْرَان/7] عَلَى قِرَاءَةِ الْوَقْفِ عَلَى لَفْظِ الْجَلالَةِ فَهُوَ مَا كَانَ مِثْلَ وَجْبَةِ الْقِيَامَةِ، وَخُرُوحِ الدَّجَّالِ عَلَى التَّحْدِيدِ، فَلَيْسَ مِنْ قَبِيلِ ءَايَةِ الِاسْتِوَاءِ.
فَقَدْ وَرَدَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: »اعْمَلُوا بِمُحْكَمِهِ وَءَامِنُوا بِمُتَشَابِهِهِ« ضَعِيفٌ ضَعْفًا خَفِيفًا.
قَالَ الْمُحَدِّثُ اللُّغَوِيُّ الْفَقِيهُ الْحَنَفِيُّ مُرْتَضَى الزَّبِيدِيُّ فِي شَرْحِهِ الْمُسَمَّى »إِتْحَافُ السَّادَةِ الْمُتَّقِينَ« نَقْلًا عَنْ كِتَابِ التَّذْكِرَةِ الشَّرْقِيَّةِ لِأَبِي نَصْرٍ الْقُشَيْرِيِّ مَا نَصُّهُ:
وَأَمَّا قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ﴾ [سُورَةَ ءَالِ عِمْرَان/7] إِنَّمَا يُرِيدُ بِهِ وَقْتَ قِيَامِ السَّاعَةِ، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ سَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا وَمَتَى وُقُوعُهَا، فَالْمُتَشَابِهُ إِشَارَةٌ إِلَى عِلْمِ الْغَيْبِ، فَلَيْسَ يَعْلَمُ عَوَاقِبَ الأُمُورِ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ﴾ [سُورَةَ الأَعْرَاف/53] أَيْ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا قِيَامَ السَّاعَةِ، وَكَيْفَ يَسُوغُ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى مَا لا سَبِيلَ لِمَخْلُوقٍ إِلَى مَعْرِفَتِهِ وَلا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ أَلَيْسَ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْقَدْحِ فِي النُّبُوَّاتِ؟ وَأَنَّ النَّبِيَّ مَا عَرَفَ تَأْوِيلَ مَا وَرَدَ فِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَدَعَا الْخَلْقَ إِلَى عِلْمِ مَا لا يُعْلَمُ؟ أَلَيْسَ اللَّهُ يَقُولُ: ﴿بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ﴾ [سُورَةَ الشُّعَرَاء/195] فَإِذًا عَلَى زَعْمِهِمْ يَجِبُ أَنْ يَقُولُوا كَذَبَ حَيْثُ قَالَ: ﴿بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ﴾ إِذْ لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا عِنْدَهُمْ، وَإِلَّا فَأَيْنَ هَذَا الْبَيَانُ وَإِذَا كَانَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ فَكَيْفَ يَدَّعِي أَنَّهُ مِمَّا لا تَعْلَمُهُ الْعَرَبُ لَمَّا كَانَ ذَلِكَ الشَّىْءُ عَرَبِيًّا، فَمَا قَوْلٌ فِي مَقَالٍ مَآلُهُ إِلَى تَكْذِيبِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ.
ثُمَّ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو النَّاسَ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَوْ كَانَ فِي كَلامِهِ وَفِيمَا يُلْقِيهِ إِلَى أُمَّتِهِ شَىْءٌ لا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى لَكَانَ لِلْقَوْمِ أَنْ يَقُولُوا بَيِّنْ لَنَا أَوَّلًا مَنْ تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَمَا الَّذِي تَقُولُ فَإِنَّ الإِيـمَانَ بِمَا لا يُعْلَمُ أَصْلُهُ غَيْرُ مُتَأَتٍّ – أَيْ لا يُمْكِنُ – هَذَا مَعْنَاهُ أَنَّ الْعَرَبَ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ كَانُوا قَالُوا لَهُ هَذَا لا يُمْكِنُ. وَنِسْبَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَنَّهُ دَعَا إِلَى رَبٍّ مَوْصُوفٍ بِصِفَاتٍ لا تُعْقَلُ أَمْرٌ عَظِيمٌ لا يَتَخَيَّلُهُ مُسْلِمٌ، فَإِنَّ الْجَهْلَ بِالصِّفَاتِ يُؤَدِّي إِلَى الْجَهْلِ بِالْمَوْصُوفِ. وَالْغَرَضُ أَنْ يَسْتَبِينَ مَنْ مَعَهُ مُسْكَةٌ مِنَ الْعَقْلِ أَنَّ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ: »اسْتِوَاؤُهُ صِفَةٌ ذَاتِيَّةٌ لا يُعْقَلُ مَعْنَاهَا، وَالْيَدُ صِفَةٌ ذَاتِيَّةٌ لا يُعْقَلُ مَعْنَاهَا، وَالْقَدَمُ صِفَةٌ ذَاتِيَّةٌ لا يُعْقَلُ مَعْنَاهَا« تَمْوِيهٌ ضِمْنَهُ تَكْيِيفٌ وَتَشْبِيهٌ وَدُعَاءٌ إِلَى الْجَهْلِ وَقَدْ وَضَحَ الْحَقُّ لِذِي عَيْنَيْنِ. وَلَيْتَ شِعْرِي هَذَا الَّذِي يُنْكِرُ التَّأْوِيلَ يَطَّرِدُ هَذَا الإِنْكَارَ فِي كُلِّ شَىْءٍ وَفِي كُلِّ ءَايَةٍ أَمْ يَقْنَعُ بِتَرْكِ التَّأْوِيلِ فِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى.
فَإِنِ امْتَنَعَ مِنَ التَّأْوِيلِ أَصْلًا فَقَدْ أَبْطَلَ الشَّرِيعَةَ وَالْعُلُومَ إِذْ مَا مِنْ ءَايَةٍ (مِنَ الآيَاتِ الَّتِي اخْتُلِفَ فِيهَا مِنْ حَيْثُ التَّأْوِيلُ وَتَرْكُهُ) وَخَبَرٍ إِلَّا وَيَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلٍ وَتَصَرُّفٍ فِي الْكَلامِ (إِلَّا الْمُحْكَمُ نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَهُوَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ﴾ [سُورَةَ الْحَدِيد/3] مِمَّا وَرَدَ فِي صِفَاتِ اللَّهِ، وَقَوْلِهِ: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ﴾ [سُورَةَ الْمَائِدَة/3] الآيَةَ مِمَّا وَرَدَ فِي الأَحْكَامِ)، لِأَنَّ ثَمَّ أَشْيَاءَ لا بُدَّ مِنْ تَأْوِيلِهَا لا خِلافَ بَيْنَ الْعُقَلاءِ فِيهِ إِلَّا الْمُلْحِدَةَ الَّذِينَ قَصْدُهُمُ التَّعْطِيلُ لِلشَّرَائِعِ.
وَالِاعْتِقَادُ لِهَذَا يُؤَدِّي إِلَى إِبْطَالِ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ التَّمَسُّكِ بِالشَّرْعِ بِزَعْمِهِ، وَإِنْ قَالَ يَجُوزُ التَّأْوِيلُ عَلَى الْجُمْلَةِ (أَيْ فِي بَعْضِ الأَحْوَالِ) إِلَّا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِاللَّهِ وَبِصِفَاتِهِ فَلا تَأْوِيلَ فِيهِ، فَهَذَا مَصِيرٌ مِنْهُ إِلَى أَنَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالصَّانِعِ [أَيِ الْخَالِقِ] وَصِفَاتِهِ يَجِبُ التَّقَاصِي عَنْهُ – أَيِ الْبُعْدُ عَنْهُ -. وَهَذَا لا يَرْضَى بِهِ مُسْلِمٌ. وَسِرُّ الأَمْرِ أَنَّ هَؤُلاءِ الَّذِينَ يَمْتَنِعُونَ عَنِ التَّأْوِيلِ مُعْتَقِدُونَ حَقِيقَةَ التَّشْبِيهِ غَيْرَ أَنَّهُمْ يُدَلِّسُونَ وَيَقُولُونَ لَهُ يَدٌ لا كَالأَيْدِي وَقَدَمٌ لا كَالأَقْدَامِ وَاسْتِوَاءٌ بِالذَّاتِ لا كَمَا نَعْقِلُ فِيمَا بَيْنَنَا، فَلْيَقُلِ الْمُحَقِّقُ هَذَا كَلامٌ لا بُدَّ مِنَ اسْتِبْيَانٍ، قَوْلُكُمْ نُجْرِي الأَمْرَ عَلَى الظَّاهِرِ وَلا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ تَنَاقُضٌ، إِنْ أَجْرَيْتَ عَلَى الظَّاهِرِ فَظَاهِرُ السِّيَاقِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ﴾ [سُورَةَ الْقَلَم/42] هُوَ الْعُضْوُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى الْجِلْدِ وَاللَّحْمِ وَالْعَظْمِ وَالْعَصَبِ وَالْمُخِّ، فَإِنْ أَخَذْتَ بِهَذَا الظَّاهِرِ وَالْتَزَمْتَ بِالإِقْرَارِ بِهَذِهِ الأَعْضَاءِ فَهُوَ الْكُفْرُ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْكَ الأَخْذُ بِهَا (أَيْ إِنْ كُنْتَ لا تَقُولُ ذَلِكَ) فَأَيْنَ الأَخْذُ بِالظَّاهِرِ. أَلَسْتَ قَدْ تَرَكْتَ الظَّاهِرَ وَعَلِمْتَ تَقَدُّسَ الرَّبِّ تَعَالَى عَمَّا يُوهِمُ الظَّاهِرُ فَكَيْفَ يَكُونُ أَخْذًا بِالظَّاهِرِ، وَإِنْ قَالَ الْخَصْمُ هَذِهِ الظَّوَاهِرُ لا مَعْنَى لَهَا أَصْلًا فَهُوَ حُكْمٌ بِأَنَّهَا مُلْغَاةٌ، وَمَا كَانَ فِي إِبْلاغِهَا إِلَيْنَا فَائِدَةٌ وَهِيَ هَدَرٌ وَهَذَا مُحَالٌ، وَفِي لُغَةِ الْعَرَبِ مَا شِئْتَ مِنَ التَّجَوُّزِ وَالتَّوَسُّعِ فِي الْخِطَابِ، وَكَانُوا يَعْرِفُونَ مَوَارِدَ الْكَلامِ وَيَفْهَمُونَ الْمَقَاصِدَ، فَمَنْ تَجَافَى عَنِ التَّأْوِيلِ فَذَلِكَ لِقِلَّةِ فَهْمِهِ بِالْعَرَبِيَّةِ، وَمَنْ أَحَاطَ بِطُرُقٍ مِنَ الْعَرَبِيَّةِ هَانَ عَلَيْهِ مَدْرَكُ الْحَقَائِقِ.
وَقَدْ قِيلَ: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ فَكَأَنَّهُ قَالَ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ أَيْضًا يَعْلَمُونَهُ وَيَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ، فَإِنَّ الإِيـمَانَ بِالشَّىْءِ إِنَّمَا يُتَصَوَّرُ بَعْدَ الْعِلْمِ، أَمَّا مَا لا يُعْلَمُ فَالإِيـمَانُ بِهِ غَيْرُ مُتَأَتٍّ، وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنَا مِنَ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ. انْتَهَى كَلامُ الْحَافِظِ الزَّبِيدِيِّ مِمَّا نَقَلَهُ عَنْ أَبِي النَّصْرِ الْقُشَيْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ.
فَهُنَا مَسْلَكَانِ كُلٌّ مِنْهُمَا صَحِيحٌ:
الأَوَّلُ: مَسْلَكُ السَّلَفِ: وَهُمْ أَهْلُ الْقُرُونِ الثَّلاثَةِ الأُولَى أَيْ أَكْثَرُهُمْ فَإِنَّهُمْ يُؤَوِّلُونَهَا تَأْوِيلًا إِجْمَالِيًّا بِالإِيـمَانِ بِهَا وَاعْتِقَادِ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ صِفَاتِ الْجِسْمِ بَلْ أَنَّ لَهَا مَعْنًى يَلِيقُ بِجَلالِ اللَّهِ وَعَظَمَتِهِ بِلا تَعْيِينٍ، بَلْ رَدُّوا تِلْكَ الآيَاتِ إِلَى الآيَاتِ الْمُحْكَمَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ [سُورَةَ الشُّورَى/11].
وَهُوَ كَمَا قَالَ الإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: »ءَامَنْتُ بِمَا جَاءَ عَنِ اللَّهِ عَلَى مُرَادِ اللَّهِ وَبِمَا جَاءَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مُرَادِ رَسُولِ اللَّهِ« يَعْنِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لا عَلَى مَا قَدْ تَذْهَبُ إِلَيْهِ الأَوْهَامُ وَالظُّنُونُ مِنَ الْمَعَانِي الْحِسِّيَّةِ الْجِسْمِيَّةِ الَّتِي لا تَجُوزُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى.
ثُمَّ نَفْيُ التَّأْوِيلِ التَّفْصِيلِيِّ عَنِ السَّلَفِ كَمَا زَعَمَ بَعْضٌ مَرْدُودٌ بِمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ فِي كِتَابِ تَفْسِيرِ الْقُرْءَانِ وَعِبَارَتُهُ هُنَاكَ: »سُورَةُ الْقَصَصِ« ﴿كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾ [سُورَةَ الْقَصَص/88] »إِلَّا مُلْكَهُ وَيُقَالُ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَيْهِ« اهـ. فَمُلْكُ اللَّهِ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ الأَزَلِيَّةِ لَيْسَ كَالْمُلْكِ الَّذِي يُعْطِيهِ لِلْمَخْلُوقِينَ.
وَفِيهِ غَيْرُ هَذَا الْمَوْضِعِ كَتَأْوِيلِ الضَّحِكِ الْوَارِدِ فِي الْحَدِيثِ بِالرَّحْمَةِ.
وَصَحَّ أَيْضًا التَّأْوِيلُ التَّفْصِيلِيُّ عَنِ الإِمَامِ أَحْمَدَ وَهُوَ مِنَ السَّلَفِ فَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ [سُورَةَ الْفَجْر/22] إِنَّمَا جَاءَتْ قُدْرَتُهُ، صَحَّحَ سَنَدَهُ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ الَّذِي قَالَ فِيهِ الْحَافِظُ صَلاحُ الدِّينِ الْعَلائِيُّ: »لَمْ يَأْتِ بَعْدَ الْبَيْهَقِيِّ وَالدَّارَقُطْنِيِّ مِثْلُهُمَا وَلا مَنْ يُقَارِبُهُمَا«. أَمَّا قَوْلُ الْبَيْهَقِيِّ ذَلِكَ فَفِي كِتَابِ مَنَاقِبِ أَحْمَدَ، وَأَمَّا قَوْلُ الْحَافِظِ أَبِي سَعِيدٍ الْعَلائِيِّ فِي الْبَيْهَقِيِّ وَالدَّارَقُطْنِيِّ فَذَلِكَ فِي كِتَابِهِ »الْوَشْيُ الْمُعْلَمُ«، وَأَمَّا الْحَافِظُ أَبُو سَعِيدٍ فَهُوَ الَّذِي يَقُولُ فِيهِ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: »شَيْخُ مَشَايِخِنَا« (وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْقَرْنِ السَّابِعِ الْهِجْرِيِّ).
وَهُنَاكَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ ذَكَرُوا فِي تَآلِيفِهِمْ أَنَّ أَحْمَدَ أَوَّلَ، مِنْهُمُ الْحَافِظُ عَبْدُ الرَّحْمٰنِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ الَّذِي هُوَ أَحَدُ أَسَاطِينِ الْمَذْهَبِ الْحَنْبَلِيِّ لِكَثْرَةِ اطِّلاعِهِ عَلَى نُصُوصِ الْمَذْهَبِ وَأَحْوَالِ أَحْمَدَ.
وَقَدْ بَيَّنَ أَبُو نَصْرٍ الْقُشَيْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ الشَّنَاعَةَ الَّتِي تَلْزَمُ نُفَاةَ التَّأْوِيلِ، وَأَبُو نَصْرٍ الْقُشَيْرِيُّ هُوَ الَّذِي وَصَفَهُ الْحَافِظُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ الطَّبْسِيُّ بِإِمَامِ الأَئِمَّةِ كَمَا نَقَلَ ذَلِكَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي كِتَابِهِ تَبْيِينُ كَذِبِ الْمُفْتَرِي.
الثَّانِي مَسْلَكُ الْخَلَفِ: وَهُمْ يُؤَوِّلُونَهَا تَفْصِيلًا بِتَعْيِينِ مَعَانٍ لَهَا مِمَّا تَقْتَضِيهِ لُغَةُ الْعَرَبِ وَلا يَحْمِلُونَهَا عَلَى ظَوَاهِرِهَا أَيْضًا كَالسَّلَفِ، وَلا بَأْسَ بِسُلُوكِهِ وَلا سِيَّمَا عِنْدَ الْخَوْفِ مِنْ تَزَلْزُلِ الْعَقِيدَةِ حِفْظًا مِنَ التَّشْبِيهِ، مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي تَوْبِيخِ إِبْلِيسَ: ﴿مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ [سُورَةَ ص/75].
فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ بِالْيَدَيْنِ الْعِنَايَةُ وَالْحِفْظُ.