الأحد ديسمبر 22, 2024

الفصل الأول: بيان معنى العبادة

توهم نفاة التوسل أن من توسل أو استغاث بنبي أو ولي فقد أشرك لأن هذا بزعمهم من أبواب العبادة في قوله تعالى: {إيَّاكَ نعبُدُ}، وليس الأمر كذلك فإن معنى العبادة التي هي خاصة لله ما قاله الفراءُ وهو إمام اللغويين الذينَ ألفوا في لغة العرب: “العبادة الطاعةُ مع الخضوع”.

وقال اللغوي الزجاج وهو من أشهرهم: “قول الله تعالى: {إياكَ نعبدُ} إياكَ نطيعُ الطاعة التي نخضع معها”، وقال: “ومعنى العبادة في اللغة: الطاعة مع الخضوع” اهـ، نقل ذلك عنه اللغوي الأزهري في كتابه “تهذيب اللغة” [1].

وقال الإمام اللغوي أبو القاسم الراغب الأصفهاني في كتابه “المفردات” [2]: “العبادة غاية التذلل”.

وقال اللغوي الفيومي في كتابه “المصباح المنير” ما نصه [3]: “عبدتُ الله أعبُدُهُ عبادةً وهي الانقياد والخضوع”.

وقال الحافظ الفقيه اللغوي المفسر عليّ بن عبد الكافي السبكي في تفسيره لقوله تعالى: {إياكَ نعبُدُ}: “أي نخصك بالعبادة التي هي أقصى غاية الخشوع والخضوع”.

وقال النحوي اللغوي المفسر أبو حيان الأندلسي في تفسيره “البحر المحيط” ما نصه [4]: “العبادة التذلل قاله الجمهور، أو التجريد قاله ابن السكيت”.

وقال خاتمة اللغويين الحافظ الفقيه مرتضى الزبيدي في شرح القاموس المحيط ما نصه [5]: “قال بعض أئمة الاشتقاق أصل العبودية الذل والخضوع”، ثم قال: “قال الليث [6]: ويقال للمشركين هم عبدة الطاغوت ويقال للمسلمين عباد الله يعبدون الله، وقال الله عز وجل: {اعبُدوا ربَّكم} [سورة البقرة/21] أي أطيعوا ربكم، وقوله: {إياكَ نعبدُ وإياكَ نستعين} أي نطيع الطاعة التي يخضع معها، قال ابن الأثير: ومعنى العبادة في اللغة الطاعة مع الخضوع” اهـ.

هكذا فسّر علماء اللغة العبادة بأنها أقصى غاية الخشوع والخضوع، هذه هي العبادة المرادة بقوله تعالى: {لا إلهَ إلا أناْ فاعبدونِ} [سورة الأنبياء/25] وبقوله: {إياكَ نعبدُ}، وهذه هي العبادة المختصة لله تعالى التي من صرفها لغيره صار مشركًا. وليس معنى العبادة مجرد النداء لشخص ميت أو حي، ولا مجرد الاستغاثة بغير الله ولا مجرد صيغة الاستغاثة بغير الله تعالى، ولا مجرد طلب ما لم تجر به العادة بين الناس، ولا مجرد الخوف أو الرجاء كما زعم الوهابية، بل لم ينقل عن أحد من علماء اللغة تفسير العبادة بأنها مجرد نداء حي أو ميت أو في حال غيبته.

فإن قال هؤلاء وأمثالهم: أليس في تفسير {اتخذوا أحبارهُم ورُهبانهم أربابًا من دونِ الله} [سورة التوبة/31] أن عبادتهم لهم طاعتهم فيما حرموا وحللوا من تلقاء أنفسهم. فالجواب أنّ ذلك داخل تحت هذا التعريف: الانقياد والتذلل، فإنهم انقادوا لهم في ذلك، تذللوا لهم لأنهم كانوا يعتقدون أنهم يستحقون أن يُطاعوا في ذلك حقيقة وليس الذي حصل منهم مجرد أنهم أطاعوهم فإن المسلم قد يطيع من له عليه رئاسة في المعصية لكنه لا يطيعه على الوجه الذي أطاعته النصارى أحبارهم ورهبانهم فلا يكونون عابدين لرؤسائهم كأولئك. وكذلك مجرد الطاعة لمخلوق في المعصية ليس عبادة له وإشراكًا بالله.

وليس مجرد التذلل عبادة لغير الله وإلا لكفر كلّ من يتذلل للملوك والعظماء، وقد ثبت أن معاذ بن جبل لما قدِمَ من الشام سجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الرسول: “ما هذا”؟ فقال: يا رسول الله إني رأيت أهل الشام يسجدون لبطارقتهم وأساقفتهم، وأنت أولى بذلك، فقال: “لو كنت ءامرُ أحدًا أن يسجد لأحدٍ لأمرتُ المرأة أن تسجد لزوجها” [7]، ولم يقل له رسول الله صلى الله عليه وسلم كفرت، ولا قال له أشركت مع أن سجوده للنبي مظهر كبير من مظاهر التذلل. وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في نفر من المهاجرين والأنصار فجاء بعير فسجد له فقال أصحابه: يا رسول الله سجد لك البهائم والشجر فنحن أحق أن نسجد لك فقال: “اعبدوا ربكم وأكرموا أخاكم” رواه أحمد [8] وإسناده جيد. فهؤلاء الذين يكفّرون الشخص لأنه قصد قبر الرسول أو غيره من الأولياء للتبرك جهلوا معنى العبادة وخالفوا ما عليه المسلمون، لأن المسلمين سلفًا وخلفًا لم يزالوا يزورون قبر النبي، وليس معنى الزيارة للتبرك أن الرسول يخلق لهم البركة، بل المعنى أنهم يرجون أن يخلق الله لهم البركة بزيارتهم لقبره.

وكذلك جهل هؤلاء بمعنى الدعاء الوارد في القرءان في مواضع كقوله تعالى: {يدعواْ لمن ضَرُّهُ أقربُ مِن نفعِهِ} [سورة الحج/13] وقوله تعالى: {ومَن أضلُّ مِمَّن يدعواْ من دونِ الله مَن لا يستجيبُ لهُ} [سورة الأحقاف/5]، ظنوا أن هذا الدعاء هو مجرد النداء، ولم يعلموا أن معناه العبادة التي هي غاية التذلل، فإن المفسرين قد أطبقوا على أن ذلك الدعاء هو عبادتهم لغير الله على هذا الوجه، ولم يفسره أحد من اللغويين والمفسرين بالنداء، لذلك صار هؤلاء يكفّرون من يقول: يا رسول الله، أو: يا أبا بكر، أو: يا علي، أو: يا جيلاني، أو نحو هذا في غير حالة حضورهم في حياتهم وبعد وفاتهم، ظنًّا منهم أن هذا النداء هو عبادة لغير الله، هيهات هيهات، ألم يعلم هؤلاء أن القرءان والحديث لا يجوز تفسيرهما بما لا يوافق اللغة، وماذا يقول هؤلاء فيما رواه البخاري في الأدب المفرد عن ابن عمر أنه خدرت [9] رجله فقيل له: اذكر أحبّ الناس إليك، فقال: “يا محمد”، فهل يكفرونه لهذا النداء أم ماذا يفعلون؟ وماذا يقولون في إيراد البخاري لهذا هل يحكمون عليه أنه وضع في كتابه الشرك ليعمل به؟!.

ومن شبه هؤلاء إيرادهم لحديث ابن حبان [10] وغيره: “الدعاء هو العبادة”، يريدون بذلك أن يوهموا الناس أن التوسل بالأنبياء والأولياء بعد موتهم أو في غير حضرتهم ولو كانوا أحياء شرك عبادة لغير الله. فالجواب: أن معنى الحديث أن الدعاء الذي هو الرغبة إلى الله كما عرّف بذلك علماء اللغة الدعاء من أعظم أنواع العبادة، بمعنى ما يُتَقرب به إلى الله، لأن الصلاة التي هي أفضل ما يتقرب به إلى الله بعد الإيمان مشتملة على الدعاء، فهذا من العبادة التي هي أحد إطلاقي لفظ العبادة في عرف أهل الشرع كإطلاقها على انتظار الفرج، وهذا الإطلاق راجع إلى تعريف العبادة العام الذي هو غاية التذلل لأن العبد لما يدعو الله تعالى راغبًا إليه حيث إنه خالق المنفعة والمضرة، فقد تذلل له غاية التذلل، وبالله التوفيق والعصمة.

ثم من المعلوم أن العبادة تطلق من باب الحقيقة الشرعية المتعارفة عند حملة الشريعة على فعل ما يتقرب به إلى الله، وقد وردت فيما صح عن رسول الله بمعنى الحسنة كقوله صلى الله عليه وسلم: “انتظار الفرج عبادة” [11]  أي حسنة يتقرب بها إلى الله، وبهذا المعنى الصدقة والصيام وعمل المعروف والإحسان إلى الناس، وهذا شائع كثيرًا.

 

الهوامش:

[1] تهذيب اللغة [2/234]، لسان العرب [3/273].

[2] المفردات في غريب القرءان [ص/319].

[3] المصباح المنير [ص/147].

[4] البحر المحيط [1/23].

[5] تاج العروس [2/410].

[6] نقله عنه الأزهري في تهذيب اللغة [2/235].

[7] أخرجه البيهقي في سننه [7/291، 292]، وأخرجه ابن ماجه في سننه: كتاب النكاح: باب حق الزوج على المرأة، وقال الحافظ البوصيري في المصباح [1/324]: “رواه ابن حبان في صحيحه. وقال السندي: كأنه يريد أنه صحيح الإسناد” اهـ. وانظر الإحسان [6/186-187].

[8] مسند أحمد [6/76].

[9] الخدر مرض شبه التشنج وليس ما يُسمى عند العامة التنميل.

[10] أخرجه الترمذي في سننه: كتاب تفسير القرءان: باب ومن سورة المؤمن، وابن حبان في صحيحه، انظر الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان [2/124].

[11] أخرجه الترمذي في سننه بنحوه: كتاب الدعوات: باب في انتظار الفرج وغير ذلك، والطبراني في معجمه الكبير [10/125]، وقال العجلوني في كشف الخفا [1/239]: “وحسَّن إسناده الحافظ ابن حجر في بعض حواشيه” اهـ.